ألغبار الكثيف المثار حول رفض الحركة الشعبية لمخرجات الورشة غير الرسمية لمعالجة قضية فصل الدين عن الدولة، يعتبر معركة في غير معترك وامتداد لأزمة النخبة السودانية في التماهي مع جدليات الترف الفكري والصراع الأيدلوجي، ولو أردت أن تدرك عدم جدوى هذه المساجلات الفوضوية التي استهلكت سنوات عمر الدولة السودانية، أنظر إلى الغفلة التي يعيش فيها إبني جبال النوبة – الحلو، كباشي- وعدم اهتمامهما بالقضية المحورية الخاصة بالإقليم، فالقائد الشهير للحركة الشعبية يتبنى خطاً أيدلوجياً نخبوياً يسارياً متطرفاً يصب في مصلحة أقوام لا يأبهون للجبال النوبية، كذا والعضو السيادي الذي كان ومايزال أحد أركان المشروع الإسلامي الذي أزيلت دولته، جبال النوبة لا تعاني التطرف الديني ولا يقطنها مجندون من بوكو حرام، وليست من الأقاليم الموبوءة بكارثة انعدام التسامح الاجتماعي، وهي منطقة مشهود لها بالتداخل السكاني المتنوع والتعايش الأهلي التلقائي، أما إذا أراد الحلو حسم علمانية الدولة عبر اطروحة حركته الشعبية، فليعلم بأن العلمانية ليست نصوصاً تتلى على كتب الدساتير وإنما هي ثورة في الفكر و تصحيح المفاهيم وقد هزمت الدولة الدينية التي حكمت السودان ستة عقود في ديسمبر من العام قبل الماضي.
ألعلمانية وضحت معالمها منذ أن نفض مولانا نصر الدين الغبار عن أضابير وزارة العدل المكدسة بالكتب الصفراء التابعة لدويلة الهوس الديني البائدة، بعد طرحه ارضاً القوانين المقيدة للحريات وتشريعه للنظم واللوائح الراعية للخصوصية الفردية والكافلة للحقوق العامة، فيا سعادة القائد العزيز لا تتخذ من العلمانية حصاناً طروادياً اشتراكياً ترفع به الحرج عن إخوتك الذين خرجوا من الحاضن السياسي، فالسودان بعد زوال البشير يعتبر دولة علمانية مائة بالمائة وسيظل، ولن تجد عاقل من عقلاء المجتمع يرغب في عودة الهوس الديني بمنظومة قوانينه المتعنتة المستغلة للدين والحاشرة له في كل صغيرة وكبيرة من شئون الحياة الدنيا، وحتى الذين بهم شيء من زيغ إخوة حسن لا يدعمهم المجتمع الكاره للنفاق والشقاق والتلون بلون الدين من أجل غايات الدنيا من سلطان ومال وجاه ومنصب، لقد ذهبت الدولة الدينية إلى غير رجعة دون الحاجة إلى رفض الحلو أو غضب عبد الواحد، ولا يمكن لشعار العلمانية أن يكون بديلاً لشعار الدولة الدينية البائدة (الإسلام هو الحل) ذلك العنوان الذي ارتكبت تحت ظله الكبائر، لأن من يلوذون بالهروب خلف الغبار الكثيف المثار حول العلمانية لا فرق بينهم وبين المتدثرين برداء الدين تقيةً.
ألتكتيكات التفاوضية والمناورات السياسية تفرض على رجل المعارضة أن يستخدم أكثر الموضوعات المثيرة للجدل والخلاف، وذلك للأبتزاز والمماطلة وكسب الوقت عندما يكون قراره رهين بتحالفات ظاهرة وأخرى باطنة، فجناح الحركة الشعبية الذي يقوده الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة المؤسس، هاتان الحركتان لم تستشعرا الخطر إلا بعد أن تأكد لهما أمران، الأول إنجاز إتفاق جوبا ومباركته من القوى الإقليمية والدولية وقرب دخول الفاعلين فيه دستورياً إلى مؤسسات الحكومة الانتقالية للثورة، والأمر الثاني يكمن في استشعار هاتين الحركتين للبساط المنسحب تدريجياً من تحت قدميهما، لذلك يرى المراقب هرولة نائب مؤسس حركة تحرير السودان إلى جوبا بعد انفضاض السامر، وتردد زعيم الشعبية ما بين الرفض والقبول بمندوب حكومة الأنتقال المترأس لوفدها المفاوض مرة واللواذ بجدل العلمانية مرات أخر، وفي كلا الحالتين يكون القائد السياسي متردداً وضعيفاً في تقديراته لمآلات الأمور، فحسابات ربح وخسارة العملية السياسية لا تقاس بمقاييس منطق الانسانيات وإنما تخضع لفرضيات الممكن، وهنا تبرز مهارات القائد الممتهن لفنون هذه اللعبة الموصوفة بالكياسة.
ألأثقال الملقاة على ظهر الكباشي وتحميله أسباب فشل الورشة الغير رسمية المرجو منها حسم هذه القضية الفكرية، كان من الأوجب أن يتشارك ويتناصف حملها الإثنان معاً باعتبارات المثل:(الجمرة بتحرق الواطيها)، فالرجلان يمثلان قمة الهرم النخبوي لإقليم جبال النوبة يميناً ويساراً لماذا لا يضعان مصلحة جبال النوبة كأولوية قصوى، أم أن الرجلين قد استلبهما مركز السودان فأصبحا يسبحان بحمده ويمجدان أيدلوجياته الخربة التي لم تحل مشكلاته، لماذا لا يعزفان ذات السيمفونية التي وحدت الأيقاع بين ممثل الحكومة (حميدتي) وحركات الكفاح المسلح بدارفور، باعتبارات الحكمة الكامنة في معاني المثل الدرافوري (شجرة كن وقع بتكي في أخيو)، فشل الورشة معني به وبالدرجة الأولى أبناء الأقليم الذي نكبته الحرب ولن يخصم من زخم الحراك القادم بعد توسيع دائرة الشراكة الدستورية، وسيشهد التاريخ على إبني جبال النوبة (كباشي والحلو) على أنهما قد فرّطا في الحفاظ على حقوق أهلمها، لا لسبب غير الغيبوبة الفكرية التي أدخلهما فيها التماهي مع أزمة النخبة السودانية وصراعها اليميني اليساري الذي لم يطعم طفل جائع في جبال النوبة ولم يؤمن عجوز كهل من خوف.
ألرسالة التي يجب أن تعيها النخبة السودانية المسيرة لدفة الحكم الانتقالي هي: أن لا العلمانية المفترى عليها ولا الاسلاموية المنهارة ستدعم الانتقال السلس نحو حكم ديمقراطي مؤسساتي مستدام، وعلى ذات النخبة أن تعمل على إخراج مؤسسات الدولة من حالة الأختطاف المستمر الذي تشهده الأحداث كل يوم.
إسماعيل عبد الله
[email protected]
15 نوفمبر 2020