د. فيصل عوض حسن
تَناَولتُ في مقالتي (اَلْسُّوْدَاْنُ وَتَحَدِّيَاْتُ اَلْبَقَاْء) بتاريخ 15 أغسطس 2019، خمسة تحدِّيات رئيسيَّة تُهدِّد (بقاء) السُّودان بكامله، تبدأ بتحدِّي السَّلام، ثُمَّ تَحدِّي تغيير التركيبة السُكَّانِيَّة، فالتحشيد القَبَلِي/الجَهَوِي، ثُمَّ تَحدِّي الاحتلال فالاقتصاد. وحَذَّرتُ بشدَّة من خطورة هذه التحديات والتَلَكُّؤ في مُواجهتها، لكننا أهملناها وانشغلنا بإلهاءات القحتيين والعَسْكَر، حتَّى بلغت حدوداً مُخيفة، تُنبِئُ بمآلاتٍ كارثِيَّةٍ لو استمرَّت غفلتنا.
السَّلامُ المأمولُ في السُّودان سياسي واجتماعي، ويشمل أطرافاً عديدة، تأذُّوا من المُتأسلمين وأزلامهم، فهناك ضحايا الإبادة الجماعِيَّة والحرب ضد الإنسانِيَّة، وضحايا الإعتقالات والإعدامات والإفقار والتجهيل والتشريد والذين صُودِرَت أملاكهم، وهؤلاء جميعاً يحتاجون لتطييب النفوس وجَبْرِ الخواطر. ولو بدأنا بأهلنا في دارفور والمنطقتين، باعتبارهم الأكثر تَضرُّراً، فإنَّ استحقاقات السلامِ تبدأ بتسليم البشير والمطلوبين معه للمحكمة الجِنائِيَّةِ، وإعادة النَّازحين لمناطقهم وإرجاع أملاكهم فوراً، وإخراج الوافدين (الجُدُدْ) المُسْتَحْوِذين عليها، ثُمَّ مُحاكمة نُوَّاب البشير ومُساعديه والوُلاةِ والعسكريين، كُلٌ حسب سُلطَاته ودوره، وهذا يعني أنَّ البرهان والمُرتزق حِميدتي على رأس المُتَّهمين، تبعاً لجرائمهما المُوثَّقة سواء بدارفور والمنطقتين، أو ببقِيَّة السُّودان بما في ذلك العاصمة! لكننا نشهد الآن صناعة وفَرْض واقع (جديد)، بموازينٍ مُختلَّةٍ ومعاييرٍ مُزدَوَجةٍ، حيث يجري تجميل المُرتزق حِمِيْدْتي وإظهاره كـ(مُنقِذٍ) للاقتصاد ورَاعٍ للسلام، والتغافل عن جرائمه التي ما تزال مُستمرَّة ضد (السُّودانيين)، مع تكثيف حملات ودعوات الاصطفاف القَبَلِي، وللأسف وَقَعَ البُسطاء والغافلين في هذا الفخ الشيطاني!
بالتوازي مع هذا الانحطاط، يُواصِل المُجتمعون في جوبا (مُتَاجَرَتهم) بقضايا الوطن، ففي الوقت الذي يُناقشون فيه المَكَاسِب المالِيَّة والسُلْطَوِيَّة، يحيا السُّودانِيُّون في أسوأ ظروفٍ يُمكن أن يحيا فيها الإنسان، ويُعانون من انتهاكات الجنجويد المُتزايدة، ولتتأمَّلوا التفاصيل المُؤلِمة الواردة في سلسلة (دارفور ضحايا الأرض المحروقة)، التي أعدَّتها الصحفِيَّة النابهة/شمائل النُّور في مارس الماضي، لتُدركوا حجم ضلال واستهبال تُجَّار الحرب ومُدَّعي النِّضال. وبلا مُوارَبة، أقول بأنَّ المُجتمعين بجوبا يُنفذون سيناريو أخطر بكثير، مما حدث بنيفاشا التي أفضت لفصل الجنوب وحده، بينما يعمل هؤلاء لتذويب السُّودان بكامله، ويتأكَّد ذلك من مَسارات التفاوُضِ الوَهْمِيَّةِ و(المُفاجئة)، رغم ادِّعاءاتهم بأنَّهم (جبهة واحدة)! وإلا لماذا لا يُوحِّدون مَطالبهم في ورقةٍ واحدة، خاصةً مع رفض الكثيرين لتلك المسارات، حيث رفض أهلنا بالشرق ذلك المَسار وأكَّدوا بأنَّ المُتواجدين في جوبا لا يُمثِّلونهم، كذلك الحال لمسار الوسط والشمال، حتَّى مسارات دارفور والمنطقتين مُثقَلَة بالخلافات! والأهمَّ من ذلك، كيف (يتفاوضون) مع المُرتزق حِمِيْدْتِي من أساسه، وهو لا يزال (أداة) الإبادة والإجرام خاصةً بدارفور، التي شَرَّدَ أهلها وقام بتوطين آخرين مكانهم؟ وهل بإمكانهم مُحاكمته أو حتَّى مُجرَّد المُطالبة بذلك وهم يُفاوضونه الآن؟! أم سيُجبرون الضحايا على العفو (المُتقاطع) مع مشروعية القصاص؟! وكيف يُلَبُّون رغبة أهلنا النَّازحين (المشروعة) باسترجاع أملاكهم وأراضيهم، والمُرتزق حِميدتي يُقيم القرى الكاملة مكانها للوافدين (الجُدُدْ)؟!
كما يتطلَّب السلام الشامل والمأمول، إنصاف مُتضرِّري السدود بشرق وشمال السُّودان، ومشاريع الرهد والجزيرة والسُّوكي والنيل الأبيض والشماليَّة وكُرْدُفان، وأراضي بُرِّي وأُم دُوْم والجِرِيْف شرق وغرب والفِتِيْحَاب وغيرها، بإرجاع ممتلكاتهم إليهم فوراً، ومُحاكمة الذين أَثْرُوا واغتنوا من دمائنا، واعتقلوا وعَذَّبوا وشرَّدوا وأفقروا أبناء هذا الشعب، هذا بجانب عَدَالَة المُشاركة في السُلطَة وتوزيع الثروة والتنمية المُتوازنة وغيرها من الأمور المعلومة. فالسَّلام (الحقيقي) يكون بإزالة المظالم والمَرارَات والغبائن المُتراكمة لأصحاب (الوَجْعَة)، وإشباع رغباتهم (المشروعة) في القصاص من الظَلَمَة، وليس بتوزيع (العَطَايا) والمناصب الدستوريَّة على الانتهازيين وتُجَّار الحرب!
بالنسبة لتغيير التركيبة السُكَّانِيَّة، فهو يجري بصورةٍ مُتسارعةٍ ومُفزعة، خاصةً بغرب وشرق السُّودان، وبرعايةٍ مُباشرةٍ من المُرتزق حِمِيْدْتي، الذي يعمل على تهيئة وبناء القُرى والمَسَاكِنِ، للمجموعات الأجنبيَّة التي جَلَبَها المُتأسلمون سابقاً، ومنحوهم الجِنسيَّات والأوراق الثبوتِيَّة ومَلَّكُوهُم الأراضي. وجَلَبَ حِمِيْدْتي المزيد من تلك المجموعات وألحقهم بمليشياته الشيطانِيَّة، وهو أمرٌ أوضحته في عددٍ من المقالات، كمقالة (الغَفْلَةُ السُّودانيَّة) بتاريخ 26 مايو 2019، بجانب التفاصيل الواردة في سلسلة (دارفور ضحايا الأرض المحروقة) المُشار إليها أعلاه. والمُؤسف أنَّ انتهازيي قحت مَلْهِيُّون تماماً بالمنافع المالِيَّة والسُلْطَوِيَّة، ويتَجاهلون قضية الهُوِيَّة عموماً، والتغيير الديموغرافي خصوصاً، وخطورة (المُجَنَّسين) وولائهم المُطلق لبلادهم الأصيلة. وما يزيد الأمر سوءاً، عودتنا لنهج المُتأسلمين المُرتكز على (فَخْ) الجَهَوِيَّة والقَبَليَّة، وأيضاً برعاية المُرتزق حميدتي، الذي أدرك (قُوَّة) الشعب وتَلَاحُمه ضد مليشياته المأجورة، فسَارَعَ لحَشْد (سَواقِط) الإدارات الأهلِيَّة، الذين استجابوا لفِتات موائده المسمومة، وأشعلوا الفِتَن الجَهَوِيَّة من جديد، وهو أمرٌ فَصَّلته في مقالتي (خطورة الاصطفافِ القَبَلي على السُّودان) بتاريخ 1 أبريل 2020.
بخلاف اختيارات الدكتور حمدوك الكارثِيَّة للوُزراء، وتَجَاهُله للكفاءة والتَوازُن (الاسْتِوْزَاري) بين الأقاليم، مما أسهم في تأجيج القَبَلِيَّةِ، وهو أمرٌ فَصَّلته في مقالتي (إِلَى أَيْن يَقُوْدُنَا حَمْدوك) بتاريخ 24 سبتمبر 2019، و(المُتَلَاعِبون) بتاريخ 24 أكتوبر 2019، و(اِسْتِرْدَادُ الثَوْرَةِ السُّودانِيَّة) بتاريخ 3 فبراير 2020 وغيرها. ويُمكن القول إجمالاً، بأنَّ المُجتمعين في جوبا وجماعة قحت والمُتأسلمين وصنيعتهم المُرتزق حِمِيْدْتي، يستخدمون جميعاً (فَخْ) القَبَلِيَّة، التي يدفع تكاليفها (عَامَّةَ) السُّودانيين على اختلاف أقاليمهم. وبعبارةٍ أُخرى، ظَلَّت الجماعات (مدنِيَّة/مُسلَّحة) والنُخَبْ المُتدثِّرين بالقِبَلِيَّة والدَّاعين لها، على مَرِّ العُهُودِ في مأمنٍ هم وأسرهم، نحن فقط الضحايا الحصريُّون لـ(فِتَنِهِم) وخياناتهم المُتلاحقة.
أما يخص الاحتلال، سواء بِغَلَبَةِ السِّلاحِ أو المال، فقد ازددنا سوءاً، وأضاف حُكَّامنا (مصائباً) جديدة، لكلٍ من الاحتلال الإثيوبي والمصري، وبدلاً من تقديم شكاوي رسميَّة و(جادَّة)، ضد مصر وإثيوبيا لدى الجهات العدلِيَّة الدولِيَّة، كمجلس الأمن والأمم المُتَّحدة والاتحاد الأفريقي وغيرهم، يُؤدي حُكَّامنا دور (الوسيط) في خلافات الدولتين بخصوص سد النهضة، ويتغافلون عن احتلالهما لأراضينا ومُهدِّدات السد لبلادنا. وأكمل الدكتور حمدوك المصائب، حينما طَلَبَ (مُنفرداً) ودون تفويضٍ شعبي، من الأُمم المُتَّحدة (الوِصَاية) على السُّودان، وَسَلَّمَ مجلس الأمن إدارة وتنظيم جميع شئوننا (الدَّاخِليَّة والخارجِيَّة)، وجَعَلَه رقيباً وحسيباً على بلادنا عبر بعثاته/عملائه المُرتقبين، دون حدودٍ أو استثناءات، وهو أمرٌ فَصَّلته في مقالتي (مَتَى يَنْتَبْهْ اَلْسُّوْدَانِيُّون لِعَمَالَةِ حَمدوك) بتاريخ 10 فبراير 2020. بخلاف عدم استرداد المساحات الشاسعة التي باعها المُتأسلمون للصين وروسيا والسعوديَّة، وميناء سَوَاكِنْ الممنوح للأتراك والتَرَبُّصِ الإماراتي بميناء بورتسودان، والأطماع الإريتريَّة التي تَنَاوَلتها في مقالتَيَّ (اَلْاِلْتِقَاْءُ اَلْإِثْيُوْبْيُّ اَلْإِرِيْتْرِيْ: قِرَاْءَةٌ مُغَاْيِرَة) بتاريخ 23 يوليو 2018، و(اَلْسُّوْدَاْنُ مَسْرَحُ اَلْدُّمِي) بتاريخ 5 أغسطس 2018، وغيرها الكثير. وبالمُحصِّلة، نقول بأنَّنا نُعاني من الاحتلال ونحتاجُ للاستقلال، وهذا هدفٌ يتطلَّب قدراً وافراً من الصدق والتفكير الجاد والوحدة، والمواقف (الصَارِمة) والعاجلة مع الدول المُحتلَّة!
بالنسبة لتَحّدِّي الاقتصاد، فقد حَذَّرتُ منه بشدَّة، وقلتُ بالنَّص: “أنَّ الاقتصاد يُمكن تطويعه لـ(تركيعِنا) وتحوير خياراتنا، خاصةً مع التدمير الإسْلَامَوِي المُمَنْهَج لعناصر وأدوات الإنتاجِ بالبيع أو الرَّهن، وإغراقنا في الديون”. وللأسف حَدَث ما حَذَّرتُ منه، والمسئولِيَّة الكاملة يتحمَّلها الدكتور حمدوك وجماعة قحت، ولقد فَصَّلتُ هذا في مقالاتٍ عديدة، آخرها مقالتي (فَلْنَحْذَر صِنَاعة الطُغَاة)، بتاريخ 6 أبريل 2020. وبعبارةٍ أُخرى، نَجَحَ المُتأسلمون، عبر أزلامهم العساكر، وبِتَخَاذِلٍ من الدكتور حمدوك وجماعة قحت، في (خَنْقِنا) اقتصادياً، وإغرقونا في أزماتٍ معيشيَّةٍ وأكاذيبٍ مُتلاحقة، ليتمكَّنوا من استكمال تفكيك ما تَبَقَّى من البلاد، عقب استسلام الشعب المُنْهَك من فرطِ الأزماتِ المُتراكمة، ولا أبلغ على ذلك من فرحة البُسطاء والغافلين الماثلة بفِتاتِ المُرتزق حِمِيْدْتِي (المنهوب) من ثرواتنا، وتهليلهم بأيلولة أمر الاقتصاد لهذا المُرتزق، بمُوافقةٍ (مُنكَسِرةٍ) من الدكتور حمدوك، الذي لم يَرتَقِ لمُستوى الثقة والأمانة، وفشل فشلاً ذريعاً رغم تضخيمه (الأسطوري) المُتواصل!
قد تبدو مُفرداتي (قاسية) لكنها تعكس الحقائق (المُعاشة)، وتحكي عن الواقع الذي يستحيل إنكاره أو تجميله، وليتنا نعي خطورة وأبعاد هذه الحقائق، ونتعاطى معها بجِدِّيَّةٍ وسُرعة وتَجَرُّد. فالثأرات والغبائن المُشتعلة في الصدور يُطفئ نيرانها (القَصَاصُ) من المُتأسلمين وأزلامهم، وعلى رأسهم البرهان وحِمِيْدْتي ومُعاونيهم. وتغيير التركيبة السُكَّانِيَّة، يُحْسَمْ بتَرابُطنا وتعزيز وحدتنا، وليس بالتحشيد القَبَلِي ضد بعضنا البعض. وتحرير أراضينا المُحتلَّة، يكون بخطواتٍ قانُونِيَّةٍ دوليَّةٍ وإقليميَّةٍ عاجلة، وليس بالتقافُزِ والاستجابة (للوساطات/الأوامر) وقبول الفِتاتِ كعطايا وهِبَات! والاقتصاد لن يتحسَّن بالأحلام والأكاذيب والتَوَرُّط في المزيد من القروض، أو التعويل على العلاقات والأشخاص، وإنَّما بالصدق والفكر والتخطيط السليم وقُوَّة الإرادة، واسترداد أموالنا المُستحقَّة وإيقاف العبث بمُقدَّراتنا ومواردنا المُستباحة.
لقد عايشنا (ضلال) وازدواجِيَّة الكيانات (المدنِيَّة/المُسلَّحة)، وانتهازِيَّتهم وتَنَاقُضاتهم وروابطهم الهَشَّة، وتَلَاعُبهم بالقِيَمْ والمبادئ، وظللنا دوماً (ضحاياهم) الحصريين، ولم نَجْنِ غير الحسرةِ والخراب، ونُوشِكُ الآن على التلاشي، وهذه حالة لا تُجدي معها (الرَمَادِيَّة) ولا المُجاملات والغَشَامَة، فلْنَلْتَف حول شبابنا بلِجان المُقاومة وندعمهم بكل قُوَّتنا، فهم أكثر أخلاقاً وصدقاً من الذين يحكموننا الآن، ولا تنقصهم الكفاءة والتأهيل. وكما أجبرنا البشير على الاختفاء وابن عوف على التَنَحِّي، فبالإمكان اقتلاع هؤلاء والحفاظ على ما تَبقَّى من البلاد والعباد.