د. فيصل عوض حسن
تَشهدُ الخرطوم منذ 15 أبريل 2023 اشتباكاتٍ مُسلَّحةٍ مُتزايدة، تمَّ فيها الاستحواذ على مراكز الشرطة والمواقع والشوارع الاستراتيجيَّة، ونهب الشركات والمتاجر والمنازل والأشخاص، والاعتداء على المُستشفيات ومحطَّات الكهرباء والمياه، وتهريب المُدانين بمُختلف الجرائم من السجون، وإصابة وقتل المُواطنين بالأسلحة المُختلفة (قذائف طائرات ومدافع وبنادق وغيره)، وهَجَرَ السُكَّانُ منازلهم مُجبرين للأقاليم أو خارج السُّودان، وسَارَعَت الدول لإجلاء ديبلوماسيّيها وحَمَلَة جوازاتها، وتزدادُ التعقيدات يوماً بعد يوم!
أمين عام الأُمم المُتَّحدة قال بأنَّهم (لم يتوقَّعوا) خروج الأمور عن السيطرة، وأنَّهم (مصدومين) من اندلاع الحرب، وذَكَرَ مبعوثه للسُّودان بأنَّ هناك “طرفاً ثالثاً أشعلَ الأزمة”، دون تحديد ذلك الطرف! والبعض يقول بأنَّ الاشتباكات سببها فترة دَمج (الجنجويد) في الجيش وكيفيَّة مُعالجة رُتَبِهِم العسكرِيَّة، حيث طَالَب البُرهان ورُفقائه بمُراجعة الرُتَب العسكرِيَّة للجنجويد وألا تتعدَّى فترة الدمج سنتين، بينما يُطالب حِمِيْدْتي باستيعاب مُرتزقته بنفس رُتَبِهِم خلال أكثر من 10 سنوات! أمَّا القحتيين ومُؤيديهم، فيدَّعون بأنَّ الاشتباكات بسبب رفض البُرهان لما يُسمَّى (الاتفاق الإطاري)، وأظهروا (تَنَاغُماً) واضحاً مع المُرتزق (حِمِيْدْتي)، كضامنٍ للمدنِيَّة الموءودة، بينما يُؤيد المُتأسلمين البرهان كـ(حامٍ) للسيادة المفقودة، مما ساهم في (تشتيت) الرأي العام وتضليله! والمُدهش/المُريب، أنَّ أحد طَرفَيِّ الاشتباكات قال بالحرف: إنَّ الفائز في الحرب خسران، ووصفها الآخر بـ(الحربِ العَبَثِيَّة)!
للوصول إلى تفسيراتٍ/استنتاجاتٍ موضوعِيَّةٍ بشأن دوافع/مآلات هذه الأزمة، يجب تَدَبُّر جميع الأحداث والمُعطيات، بتَجرُّدٍ وبعيداً عن العواطف والأهواء. وكمثالٍ، فإنَّ البرهان وجيشه تابعوا (لأيامٍ عِدَّة) أرتال الجنجويد، ودخولهم الخرطوم ومروي وغيرهما، فلماذا سَمَحَ البُرهان ورُفقائه بنقل وتحريك تلك الآليات والحشود، دون اتِّخاذ الإجراءات الاحترازِيَّة/التأمينيَّة اللازمة؟! لماذا لم يمنعوا (الجنجويد) من التَمَركُزِ، بالمناطق السكنِيَّة ومقرَّات الجيش وبقيَّة المواقع الاستراتيجيَّة؟! ألا يعلم البُرهان ورُفقائه أنَّ مُجرَّد حشد (المُقاتلين) وأسلحتهم يعني استعدادهم للقتال؟! وإذا كان البرهان ورُفقائه صادقين ووطنيين حقيقيين، لماذا سمحوا بامتلاك (الجنجويد) لأسلحة تهدد الجيش والبلد برُمَّتها؟! أين الاستخبارات العسكرِيَّة وتقاريرها التي لم يسلم منها حتَّى (الباعة المُتجولين)؟! ولماذا اكتفى البُرهان بتحصين مَقر قيادة الجيش، وأهملَ المُدُن والمناطق السكنِيَّة التي يقصفونها الآن بحجَّة مُواجهة (الجنجويد)؟! والأهمَّ من كل هذا لماذا (يختفي) البُرهان ورُفقائه، ويتركون أزلامهم يملأوا الدنيا بـ(ضجيجٍ) يُخالِف الواقع المُزري والمُحزن؟!
من المُريبِ جداً، أن تتركَّز الاشتباكات في الأحياء السَكَنِيَّة/الشعبِيَّة، ومن المريب أنَّ يكون جميع الضحايا من (العامَّة)، بينما يحيا (قادة) المُتأسلمين والبرهان وحِمِيْدْتي ومُساعديهم وعائلاتهم في أمانٍ، ليس فقط الآن، وإنَّما منذ بداية حراك ديسمبر 2018، فهل يُعْقَل أنَّ يكون ذلك (صُدفة)؟! لماذا الخسائر دائماً (محصورة) في الشعب؟! والأكثر ريبة، تلك الدعوات (المُفاجئة) والكثيفة لتشجسع سُكَّان الخرطوم على (الهجرة الجماعِيَّة) للأقاليم أو الخارج؟! من يتبَنَّى تلك الدعوات ولماذا؟ وهل سينجوا النَّاس إذا (هاجروا جماعياً) بالداخل أو الخارج؟ ولماذا ينحصر التهجير في (عامَّة) النَّاس، بينما يبقى المُتأسلمين والبرهان وحِمِيدْتي ومُساعديهم وأسرهم، آمنين ومُرفَّهين في القصور والمنازل الفخمة؟! ولماذا يتعرَّض المُواطنون المُتمسكِّين ببيوتهم للاعتداءات المُتواصلة، بينما يُسْمَحْ (للمغادرين) بالخروج دون اعتراض؟!
نحتاج للتَدَبُّر في الجُرأة المُتزايدة لـ(قادة) المُتأسلمين وأزلامهم، الذين اختفوا تماماً مع بداية حِراك ديسمبر 2018، وظهورهم (الحَذِر) مع فَض الاعتصام، ثُمَّ اختفائهم عقب مسيرات 30 يونيو 2019، ثُمَّ مُعاودة الظهور (التدريجي) عقب اتفاق القحتيين مع البرهان/حِمِيْدْتي ورُفقائهم، وصولاً لإعلان خروج (فُجَّارهم) الذين (زعموا) أنَّهم محبوسين في كوبر. نحن بحاجة لاستحضار وتَدَبُّرِ جميع هذه الوقائع والمُعطيات، لنُدرك (حقيقة) الاشتباكات الماثلة وأهدافها. بالنسبة لي، لم ولن أُصدِّق أبداً (سقوط) المتأسلمين من أساسه، ناهيك وجود صراع بين أزلامهم البرهان/حِمِيْدْتي، رغم فواصل (الرَدَحي) المُتبادلة بينهما، لأنَّهما مُجرَّد (أدوات) تنفيذيَّة رخيصة، وتجدون شرحاً تفصيلياً أكثر في مقالاتي (اَلْمَشَاْهِدُ اَلْأَخِيْرَةُ لِمَخَطَّطِ تَمْزِيْقِ اَلْسُّوْدَاْنْ) يوم 21 أبريل 2019، و(حِمِيْدْتِي: خَطَرٌ مَاْحِقٌ وَشَرٌّ مُسْتَطِيْر) بتاريخ 29 أبريل 2019، و(اَلْسُّوْدَاْنِي اَلْأصِيل وَاَلْجَنْجَوِيْدِي اَلْمُرْتَزِق) بتاريخ 5 يونيو 2019، و(السُّودان بين مليشيات المُتأسلمين والجَنْجَوِيْد) بتاريخ 14 يونيو 2019، وغيرها.
إنَّنا نحيا تطبيقاً كثيفاً لمضامين الإدارة بالأزمات Management by Crisis، ذلك الأُسلوب الإداري (المُدمِّر) المُسْتَنِدْ على صناعة/إيجاد الأزمة من العدم، للـ(تغطية) على المشاكل القائمة، أو لتحقيق أهداف مُستحيلة/صعبة، بدءاً بمرحلة التمهيد أو تهيئة مسرح الأزمة، مروراً بمرحلة التصعيد والتعبئة، ثمَّ مرحلة المُواجهة العنيفة والحادة، فمرحلة السيطرة على الكيان المُسْتَهْدَف عقب فُقدانه التوازُن، انتهاءً بمرحلة السلب الكامل والتحكُّم والتطويع. وبعبارةٍ أوضح، فإنَّ الاشتباكات الماثلة (مصنوعة) لتحقيق أكثر من هدف أبرزها تعطيل الحراك الشعبي و(إرهاب/إجبار) سُكَّان الخرطوم على (الهجرة الجماعِيَّة)، باستخدام الطائرات والمدافع والاعتداءات المُتواصلة في الشوارع والمنازل من جهة، وإيقاف الخدمات الضروريَّة من كهرباء ومياه وعلاج وغيره من جهةٍ ثانية، ودونكم دعوات (الهِجرة الجماعِيَّة) المُريبة والمُفاجئة، للأقاليم أو خارج السودان، ثُمَّ احتلال ونهب المنازل جهاراً نهاراً، وإجبار السُكَّان على المُغادرة و(التساهل) مع المُغادرين، و(التضييق) على المُتمسِّكين بالبقاء، بما يتطابق مع مضامين مرحلتي (التصعيد والمُواجهة العنيفة والحادَّة)!
الهدف الثاني للاشتباكات، هو استكمال (مُثلَّث حمدي)، ذلك المُخطَّط الإسْلَامَوي المُعلَن رسمياً سنة 2005، والذي حَصَرَ السُّودان في (دُنْقُلا، سِنَّار والأُبَيِّض)، واستبعدَ جميع المناطق الواقعة خارج هذا المحور، وهي الجنوب (قبل الانفصال) وأقصى الشمال والشرق والمنطقتين (جنوب كُردُفان والنيل الأزرق) ودارفور، وفق ما فَصَّلته في عدَّة مقالات، آخرها (السُّودانيون ومخاطر تجزئة القضايا المصيرية) بتاريخ 5 أبريل 2023. فما أن بدأت الاشتباكات إلا وسمعنا وشاهدنا (تمثيليَّة) الجنود المصريين مع (الجنجويد)، ثُمَّ إطلاق سراحهم دون تفاصيلٍ (مُوثَّقة/واضحة)، ثُمَّ تَواتَرَت الأنباء عن الوجود العسكري المصري، سواء في مروي أو غيرها، بحجة مُساندة البرهان ضد الجنجويد، بالتوازي مع (تزيين الهجرة الجماعِيَّة) لمصر، التي (تَنَاسَى) الجميع احتلالها الفعلي لحلايب والأراضي النُوبِيَّة، ثُمَّ تَوَاتَرَت الأنباء عن تَعَذُّرَ دخول السُّودانيين وبقائهم (عالقين) عند معابر مصر المُقامة أساساً في (أراضينا المُحتلَّة)، وعاد بعضهم لدياره ووجدها منهوبة ومُخرَّبة، أي (مِيْتَة وخراب ديار)! من جهةٍ أُخرى، استغلَّ الإثيوبيُّون افتقاد الشعب للتُوازن بفعل الاشتباكات المصنوعة، فتَوغَّلوا أكثر داخل أراضينا السُّودانِيَّة، و(تَشدَّدوا) في المَدَاخِل الحدوديَّة مع السُّودان، بخلاف مظاهر (السُخرِيَّة/الشَمَاتة) التي أبداها بعض مُواطني (أخت بلادي)! وفي ذات السياق، انتشرت أنباء عن حشود (جنجويديَّة) في إريتريا تُهدِّد بدخول السُّودان، وهي جميعاً أمورٌ مُتوقَّعة وحَذَّرنا منها منذ سنوات في مقالاتٍ عِدَّة، كمقالة (اَلْاِلْتِقَاْءُ اَلْإِثْيُوْبْيُّ اَلْإِرِيْتْرِيْ: قِرَاْءَةٌ مُغَاْيِرَة) بتاريخ 23 يوليو 2018، و(اَلْسُّوْدَاْنُ مَسْرَحُ اَلْدُّمِي) بتاريخ 5 أغسطس 2018 وغيرهما. وجميع هذه المآسي لأنَّ السُّودانِيّين ابتلعوا (الطُعْم)، ووقعوا في (فِخاخِ) التضليل المصنوعة باحترافِيَّة، ضمن مرحلتي (التصعيد والمُواجهة العنيفة والحادَّة) المُشار إليهما أعلاه!
الهدف الثالث لهذه الاشتباكات، يتمثَّل في الظهور العلني لـ(قادة) المُتأسلمين، عقب إكمال البرهان/حِمِيْدْتي ورُفقائهم لمهامهم، وتمَّ التمهيد لهذا الظهور بتمثيليَّة هروب المساجين (المزعومة)، وسيتواصل ظهورهم تباعاً وصولاً لمرحلة السلب الكامل والتحكُّم والتطويع، وحينها سيقبل غالِبِيَّة (المُتبقِّين مِنَّا) بأي حل/صيغة، لتخفيف الضغط والإرهاب الماثل، ولن ينتبه الكثيرون لتَمَدُّدِ المصريين حتَّى شمال دُنْقُلا، أو تَقَاسُمِ الشرق بين الإثيوبيين والمصريين والإريتريين والإماراتيين والرُّوس وغيرهم، أو ابتلاع إثيوبيا للنيل الأزرق، أو للاقتتال الذي سينشأ بجنوب كُردُفان بعد تحويله لإقليم (حبيس). أمَّا دارفور، فقد تَمَّت تهيئتها للفصل تماماً، بتغيير تركيبتها السُكَّانِيَّة، وقتل/تشريد أهلها (الأصيلين)، وتوسيع الفجوة (الإنسانِيَّة/الوجدانِيَّة) بينهم وبين بقيَّة أهلهم السُّودانيين، ورُبَّما يلجأ إليها المُرتزق حِمِيْدْتي بِحِجَّة (هروبه) من البرهان وجيشه، ثُم تسليمها لسادته بالخارج، مع (تزيين) هذه الكارثة وإظهارها كانتصار! ولاحقاً سيَتخلَّص السادة من هذا المُرتزق، وبعض تُجَّار الحرب القادمين من جوبا، كما جرى للكثيرين الذين سبقوهم في (العَمَالَةِ) والارتزاق! أما سُّودان (دُنْقُلا، سِنَّار والأُبَيِّض)، فسيحيا تحت السيطرة الكاملة للمُتأسلمين وأسرهم وأزلامهم، لأنَّهم يسيطرون على الثروة والسُلطة والعلوم، ولأنَّهم الأكثر انبطاحاً و(عَمَالة) للطَّامعين بالخارج، وهذا يعني أن الخاسر الوحيد من كل هذا هو (عامَّة الشعب)!
المُحصِّلة، أنَّ المُتأسلمين وسادتهم بالخارج ماضون في مُخطَّطهم، عبر أزلامهم البرهان وحِمِيْدْتي والقحتيين و(مقاطيع) اتفاقيات جوبا، فلا ننخدع بعباراتهم المُضلِّلة (لا للحرب)، أو حماية المدنِيَّة والحفاظ على السيادة وغيرها من الأكاذيب، لأنَّهم أشتركوا معاً في (صناعة) جميع أزماتنا، دون سُقُوفٍ أخلاقِيَّةٍ أو إنسانِيَّة، ولنستحضر مَجزرة القيادة، التي جرت جهاراً نهاراً، أمام البرهان/حِمِيْدْتي والقحتيين وغيرهم، وكان ضحاياها الحصريُّون من (عاَمَّةِ الشعب)! وما يُسمَّى مُجتمع دولي اتَّخذَ موقف المُتفرِّج (مُعبِّراً عن قلقه)، بعدما أوعز للخونة بسحق الشعب، والآن حزموا أمتعتهم وغادروا لبلادهم، وتركوا البلاد لتحترق، وسيأتون لاحقاً لقطف الثمار فوق جماجمنا.
ليتنا نعلم بأننا وحدنا الخاسرين، وأننا المعنيون بإنقاذ أنفسنا، وتلك النجاة لا تكون بـ(الهجرة الجماعِيَّة) للأقاليم، لأنَّ البرهان/حِمِيْدْتي (مأمورين) بالقضاء علينا وتسليم السُّودان (خالياً مِنَّا)، بخلاف مُعاناة أهلنا المعيشية بالأقاليم، وإذا تَحمَّلوا شهراً أو اثنين فسينهارون بعدها. وأمَّا الهجرة لمصر وإثيوبيا، فهي (أسوأ)، فكلتاهما تحتل أراضينا، وكلتاها تعجز عن تغطية حاجات مُواطنيها، وبالتأكيد لن يحتملونا وسنضطر للعودة، ولكننا سنعجز حينها، لأنَّ بلدنا ستكون تحت قبضة آخرين!
حديثي قد لا يعجب البعض، لكنه الحقيقة التي لا ينفيها المُكابرة/الإنكار وضجيج الأرزقِيَّة والغافلين، ويجب قولها إبراءً للذمة وتوثيقاً للتاريخ، وأملاً في أن نَتَّحد ونشحذ الهِمَمْ ونُواصِل المَسير. أثقُ تماماً في لطف الله، ثُمَّ قدرة الشعب على إكمال التغيير، ولنا في مليونيَّة 30 يونيو 2019، التي أعقبت مَجْزَرَة القيادة أُسوةٌ حَسَنة، حيث تَنَادَى السُّودانيُّون وخرجوا للشوارع، رغم البطش الإسْلَامَوِي/الجنجويدي، وشعبٌ بهذه الصلابة والشجاعة، لا يُسَلِّم مصيره للمُتأسلمين وأزلامهم البُرهان وحِمِيْدْتِي، ولا يَركنُ للعُملاء وتُجَّارِ الحروب وسادتهم بالخارج.. وللحديث بَقِيَّة.