زعيم حزب الأمة و رئيس تحالف نداء السودان المعارض , صرح قبل أيام مضت عن رغبته في العودة لحضن الوطن المكلوم , والمحكوم بنظام الحزب الواحد منذ ثلاثين عاماً , وأعلن زعيم الأنصار عن نيته في إدارة حوار سياسي مع الحكومة , بغية التوصل إلى حل للأزمة الوطنية المستفحلة و المستحكمة , فهذه المرة يأمل المهدي في العودة عبر بوابة أخرى من بوابات سلسلة حلقات (تهتدون) , مترأساً لكيانات مسلحة شهيرة وقفت في وجه منظومة الحكم الانقاذي على مدى أمد طويل من السنين , فهل يا ترى قام حفيد الإمام الأكبر بهضم أجندة حملة السلاح , وأستوعب همومهم ومخاوفهم وشكوكهم ومحاذيرهم , ومن ثم سوف يعمل على إقناع نظام الخرطوم , بضرورة مخاطبة جذور أزمة شعوب الهامش السوداني الذين رفعوا من أجلها البندقية ؟, وهل سيصدق الصادق هذه المرة , و يقف بحزم وعزم مع قضايا قاعدته الجماهيرية في غربي البلاد ؟ , أم أنه سيكرر ويعيد سيناريو المصالحة الوطنية مع نظام جعفر النميري في سبعينيات القرن الماضي؟ , ذلك السيناريو الذي حدثنا عنه الراحل الشريف حسين الهندي , حين قال أن الصادق و بعد أن عهدوا إليه بمهمة التفاوض مع النظام الدكتاتوري والعسكري , وما أن التقى الدكتاتور حتى قذف بورقة أجندة الجبهة الوطنية وراء ظهره , وتناول القضايا الخاصة به وبطائفته , من شاكلة قضية استعادة أملاك أهله وذويه التي صادرها المايويون , إنّ ذاكرة الشعب السوداني ما زالت حيّة و متقدة وحافظة لأحداث كثيرة , خيّب ظنهم فيها زعيم حزب الأمة وأحبطهم بشأنها إحباطاً مؤلماً , على سبيل المثال أزمة جيش الأمة التي اندلعت بينه وبين اولئك المقاتلين , الذين كانوا ضمن صفوف القوات المسلحة للتجمع الوطني الديمقراطي المعارض , حينما جاءوا بصحبته بعد عودته الثانية في (تهتدون) , عبر إتفاق عقده مع ذات النظام الأنقاذي في جيبوتي قبل عقدين من الزمان , حينها شكا أفراد جيش الأمة إهمال الامام وقيادة الحزب لهم , و رميهم على قارعة الطريق دون اكتراث لتوفيق أوضاعهم , من بعد ان قدموا التضحيات العظام وشاركوا في المعارك التي أدارها التجمع الوطني الديمقراطي , المتحالف مع الحركة الشعبية بقيادة الراحل جون قرنق ضد نظام الجبهة الاسلامية آنذاك , إنّ شخصية هذا الرمز السياسي السوداني العتيق تناولتها الأقلام بالكثير من الانتقادات , ودار ويدور حول مسيرتها الطويلة في الحياة العامة بالبلاد الكثير من الجدل و اللغط , وذلك نسبة لرمادية مواقفها المترددة والمهتزة حيال القضايا الوطنية الملحة , التي لا تحتمل أنصاف الحلول و لا تنسجم مع أدبيات الأطروحات السياسية القديمة , المنحصرة في تحقيق مصالح الطائفة و تأمين ممتلكات و حقوق ورثة هذه الطائفة , وسهر الاتباع على رعاية ورفاهية رموزها , أكثر من اهتمام هذه الشخصية بتلبية طموحات وآمال و أشواق عامة الناس , بحكم أن هؤلاء الناس هم الذين تستهدفهم مشروعات واجندة مثل هذه الأحزاب الطائفية .
لو استطاع السيد الإمام الإتيان بالصيدين السمينين , (جبريل ومناوي) , إلى طاولة مفاوضات تجمعهما مع النظام الذي يسيطر عليه حزب المؤتمر الوطني , تكون المهمة التي خرج من أجلها حفيد المهدي قد أكتملت , فلقد ظل يعمل طوال سنين عمر الأنظمة المركزية بجد و اجتهاد , على ترويض المعارضة بشقيها المدني و المسلح , حتى يجعلها طيعة ومذعنة للمبادرات والتسويات التي تطلقها هذه الأنظمة , فهو مدمن على ممارسة إفشال المقاومة السياسية الجادة و القوية لانظمة الحكم المركزي , ولاعب متمرس في جرجرة المعارضين وتسليك وتعبيد الطرق , الممهدة لدخولهم في اتفاقيات سلام كسيحة و ماسحة على سطح الورم , وغير متناولة لجذور أزمة الحكم المركزي , ولا معالجة لاختلال ميزان العدالة القائم في السودان منذ الاستقلال , ويبدو للمراقب أن الطبخة ربما استوت تحت صقيع باريس القارص , و لعل هنالك ثمة مسودة لحزمة من التفاهمات أبرمت في غرف فنادق مدينة الفن و الجمال الحاضنة لبرج إيفيل , وما يدعونا لمثل هذا التكهن هو الموقف الدولي الذي اصابه الملل والضجر , والناتج عن الضبابية و التمترس و التمحور حول الذات , الذي حل برموز المنظمات السياسية المعارضة , وقادة الحركات المسلحة المقاومة لنظام حكم الانقاذ , ففي الوقت الذي يواجه فيه المجتمع الدولي تحدياته التي تشغل باله , أكثر من انشغاله بالقضايا التي حركت الضمير الانساني العالمي , مثل الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان وجرائم الحرب , فمن الجانب الآخر ترى هذه المنظومة العالمية مهمومة , ومزحومة بهواجس الطوفان البشري للمهاجرين غير الشرعيين , الذين يعبرون المتوسط يومياً ويحطون رحالهم على سواحل القارة العجوز , فنظام الخرطوم قد استثمر في تفاصيل هذه التقاطعات الإقليمية , و استغل تلك المصالح والمخاوف الدولية أيما استغلال , تماشياً مع المقولة الشائعة : (السياسة فن الممكن) , فبعد أن أرتفعت أسهم المناضلين الحاملين للواء التغيير قبل تسع سنوات و أكثر , عندما رجحت كفة قضيتهم العادلة كفة إدعاءات النظام القابض على مقاليد الأمور بيد من حديد , أليوم نلحظ ونشاهد انقلاب الموازيين و تبدل المواقف و تحول اتجاه إشارة سبابة اليد الدولية , إلى حيث وجود هذه المنظمات المسلحة , و رأينا ذات الإصبع التي كانت ولوقت قريب تكيل التهديد و الوعيد للنظام السياسي القابض في الخرطوم , قد اصبحت ما بين ليلة وضحاها تبتز وتساوم هذه المنظمات الحائرة , و تخيرها ما بين الارتماء في حضن عدوها اللدود , أو وضعها خلف قضبان نفس قفص الاتهام الذي أدخلت فيه ذات العدو من قبل.
إنّ قضية سكان هامش البلاد الذين حاق بهم ظلم الحكومات المركزية , تمر بمنعطف حرج و مثير للشفقة و الرحمة في آن واحد , فقد أرّقت هذه المتغيرات الجيوسياسية مضاجع قادة الحراك المطلبي لأطراف البلاد البعيدة , التي تشكو وتعاني قصوراً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية , و وضعتهم هذه التطورات و تلك المستجدات في محكٍ بالغ الصعوبة , وطارت بهم هذه التداعيات إلى فضاءٍ ضيق الخيارات و شحيح البدائل , فما يمر به هؤلاء القادة الحركيون الآن يعتبر اختباراً حقيقياً لمصداقيتهم , وامتحاناً لكفائتهم ومقدرتهم على تجاوز هذه المحنة , و الخروج بهذه المؤسسات السياسية والمنظمات العسكرية التي اكتسبت زخماً شعبياً واسع النطاق , إلى مرحلة أخرى قادمة من التعاضد والتلاحم و التماسك المؤسسي , المفضي إلى الحفاظ على هذا الإرث النضالي العريق الذي بذلت فيه النفس والجهد و المال , وقدمت في سبيله القرابين النفيسة من الأرواح والمهج لطلاب وشباب مخضر العود , كان يحلم ويحمل آمالاً عراضاً و أمنيات كبيرة , ببزوغ فجر جديد يعيد صياغة أقاليمه المهمشة ويبني ويصون مدنه المسكونة بالعناكب , و يفك رهنها من مركزية السلطة القابضة التي حرمت بسببها أجيال متعاقبة , حقها في الاستنفاع بالموارد الطبيعية لهذه الأراضي والثروات الإقليمية , التي كان من الأوجب أن يغار عليها السيد الإمام ويقوم برعايتها , بأعتبار أنها تمثل قاعدة جمهوره الانتخابي , والسلم المتين الراكزة اوتاده على الارض , ألذي ظل دائماً و أبداً يأخذ هذا الزعيم الطائفي إلى قمم الأمجاد السياسية , فجذور الأزمة لن تحلها الترضيات والمجاملات , و لاحتى التنازلات المناصبية و لا المحاصصات , و إلا , خبرني بربك , لماذا ضحى هؤلاء الشهداء الثلاثة بحياتهم فداءً لهذه القضية العادلة , المتعلقة بحق شعبهم المقهور في الحياة الكريمة , والذي ما يزال يلتحف السماء و يفترش الأرض في مخيمات اللجوء و النزوح و معسكرات الهجرة , وهؤلاء الشهداء الثلاثة هم : الأستاذ يوسف كوة مكي , والمهندس داوود يحي بولاد , و الدكتور خليل ابراهيم.
اسماعيل عبد الله
[email protected]