د.أحمد عثمان عمر
(1)
يكثر النظام الحاكم هذه الأيام الحديث عن بشريات قادمة في علاقاته الدولية مثلما صرح وزير خارجيته، ويسرب عبر أجهزته الأمنية و المتعاونين معه شائعات حول أن الإدارة الأمريكية قد وعدته برفع الحظر عنه قبل إنتهاء فترة الرئيس أوباما. في المقابل يستميت الكثيرةن في التأكيد بأن ذلك من سابع المستحيلات نظرا لإستمرار وضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب و التمديد لليوناميد و عدم وجود تحول حقيقي في موقف النظام من الحريات و استمرار الحروب و الإنتهاكات. و بكل أسف ، لا يتقدم أياً من الفريقين برؤية تحليلية توضح التصور العام للإدارة الأمريكية و تنفذ من خلاله إلى موقف تلك الإدارة من السودان و ماتريده منه كدولة و أي نظام من الممكن أن يحقق لها ذلك. و بدون تحديد ما تريده الإدارة الأمريكية إستناداً إلى تصورها لطبيعة الصراع العالمي و توازن القوى و دور وموقع كل دولة فيه ، لمعرفة استراتيجيتها و تكتيكاتها لحماية مصالحها، يصبح أي حديث عن صحة أياً من الطرفين مجرد موقف عاطفي ينحاز إلى أحدهما وفقاً لنمط تفكير رغائبي يتحرك وفقاً لأحلام لا وفقاً لوقائع عيانية ماثلة.
(2)
و إذا نظرنا إلى السياسة الأمريكية التي تقوم على رؤية متكاملة يتبناها الحزب الديمقراطي الحاكم، نجد أنها مازالت ترتكز على رؤية بريجنسكي المنظر الأول للحزب. ووفقاً لما يقوله المؤرخ و الصحفي د. وبستر تاربلي، يرى بريجنسكي أن الصراع على السيطرة و الهيمنة على مستوى عالمي، هو بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة و الصين و روسيا من الجهة الأخرى. وهو لا يرى منافساً أو عدواً يسعى للتحول إلى الدولة الأعظم ويمنع هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية ويعيق إستمرارها كقوى أعظم ، غير هاتين الدولتين. لذلك يؤكد دائماً أن الصراع الحقيقي و التناقض الرئيس هو بين الولايات المتحدة وتلك الدولتين، وأن أي إستراتيجية أمريكية لابد أن تقوم على إضعافهما حتى تستمر الهيمنة الأمريكية و يتكرس إنفرادها على قمة هرم العالم. وهو يؤمن بنقل المعركة إلى مواقع تلك الدول بهدف إضعافها، وفي هذا الإطار يأتي تحريك الأزمة في أوكرانيا و نشر الفوضى في سوريا و تعميق الأزمة مع جورجيا وتوظيف التطرف الإسلامي الروسي لإضعاف روسيا. يضاف إلى ذلك نصب شبكة الصواريخ و توسيع نطاق عمل حلف الناتو بالمخالفة مع الاتفاق الروسي الأمريكي. وهذه التكتيكات بمجملها تهدف إلى إضعاف روسيا سياسياً و إقتصادياً معاً، وتقليل تأثيرها أوروبياً عبر غازها و إقليمياً ودولياً أيضاً.
(3)
أما الصين فالمطلوب إضعافها عبر إستغلال جوعها للطاقة و إحتياجها لها، وذلك بمحاصرتها و منعها من التمدد إفريقياً ومن الوصول إلى نفط الشرق الأوسط، حتى لايصبح لها منفذ غير النفط الروسي. وهذا سيبطئ من نموها و يمنعها من التحول لإقتصاد ينافس على المركز الأول عالمياً، ويحد كذلك من نفوذها السياسي الدولي و الإقليمي. يضاف إلى ذلك محاولة محاصرتها بالتوسع في النشاط العسكري في بحر الصين، و توسيع نطاق الوجود الأمريكي في جنوب شرق آسيا، مع محاولة فرض حصار على الأسواق التي تستقبل المنتجات الصينية ما أمكن ذلك. و للقيام بما تقدم ، ينصح بريجنسكي بعدم التركيز على كوريا الشمالية و البحث عن هدنة معها، و الوصول إلى تسوية مع إيران و محاولة إستمالتها لتصبح شوكة في خاصرة روسيا بدلاً من أن تكون عدواً لا داعي لمعاداته. وفي هذا الإطار جاءت إجراءات التهدئة و السياسة الناعمة لإدارة أوباما مع كوريا الشمالية، وإستماتتها في الوصول لتسوية في الملف الإيراني، رغم المعارضة الشرسة و القوية من حليفتها إسرائيل و الدول العربية المنخرطة في المشروع الأمريكي. فأولوية الولايات المتحدة وفقاً لبريجنسكي الصراع مع الدول المنافسة و ليس إهدار الوقت في الصراعات مع دول ليس هنالك ضرورة للتصعيد معها. فهو يقدم التناقض الرئيسي على التناقضات الثانوية، ويفكر لإمبراطورية تتصارع مع من يود منافستها لا مع دول يظل دورها نسبياً و إقليمياً في خارطة الصراع الكبرى.
(4)
وسياسة بريجنسكي التي هي سياسة أوباما طوال فترة حكمه- فهو يردد ما يقوله بريجنسكي حرفياً كما يقول تاربلي- هي رؤية السودان أولاً من منظور علاقته بالصين إحدى الدولتين المستهدفتين و المنافستين. فالسودان الموحد كان يقدم للصين 7% من إحتياجاتها النفطية، وهذه نسبة مهمة و إن لم تكن حاسمة. فهي تؤثر على مجمل محصلة النمو الصيني في حال توقفها أو تعثر وصول الصين إليها. وفي هذا السياق جاء دعم الإدارة الأمريكية لإنفصال جنوب السودان برغم علمها بأن الدولة الناشئة سوف تكون دولة فاشلة بكل المعطيات. ففشل هذه الدولة في حد ذاته، يجعلها في حاجة دائمة للحليف الأمريكي من ناحية، ويقود من ناحية أخرى لعدم إستقرارها، مما يؤثر بشكل كبير على إستثمارات الصين النفطية و يمنعها من الإستفادة من حصتها النفطية التي تحصل عليها من دولة الجنوب. في نفس الوقت تبقى الحصة الأقل و غير ذات التأثير الكبير في يد دولة فاشلة و غير مستقرة أخرى هي دولة السودان الحالية. وهذا يعني أن الإستثمار الصيني في القطاع النفطي في السودان بشطريه يصبح مأزوماً و مصدراً لمشكلات بدلاً من أن يكون مصدراً للطاقة المساعدة في محافظة الصين على معدل نموها. و لو نظرنا إلى العلاقة العدائية بين دولة الجنوب و دولة السودان وهي المنفذ الوحيد لتصدير نفطها، نجد أن هذا العداء يخدم المصالح الأمريكية بقفل البلف المستمر و منع تصدير بترول الجنوب. و منع التصدير الذي قامت به حكومة السودان لإبتزاز دولة الجنوب، يخدم السياسة الأمريكية أيضاً لأنه يمنع الصين من الإستفادة من حصتها في نفط الجنوب. و بما أنه يقود لعدم إستقرار دولة الجنوب، فهو يؤسس لدفع الجنوب لمزيد من الإحتياج و الخضوع للسياسة الأمريكية. وهذا يعني أن حكومة السودان بسياستها المعادية لدولة الجنوب، كانت تخدم الولايات المتحدة الأمريكية على عكس ما يظن الكثير!
(5)
إذا أضفنا إلى كل ما ذكر تعاون النظام مع الولايات المتحدة الأمريكية في حربها على الإرهاب ، و وضع الاقتصاد السوداني تحت وصاية صندوق النقد الدولي و تدمير بنيته الإنتاجية لضمان تبعيته للإستعمار ، نجد أن النظام يعمل في خدمة الولايات المتحدة الأمريكية بشكل تام ، و يحقق مصالحها بمستوى مرضٍ جداً لها. وقد يقول قائل لماذا إذن تضيق عليه بالحظر و العقوبات و القرارات الأممية المتتابعة؟ و هذا سؤال مشروع بالطبع. والإجابة عليه تكمن في أن الإدارة الأمريكية تعلم تمام العلم أن هذه الإجراءات ضرورية لإستيعاب النظام و إحتوائه و ضمان عدم تمرده و استمرارية خدمته الممتازة. فهي لا تثق فيه و لكنها تثق في قدرتها على تطويعه بالضغط المستمر ، تحقيقاً لسياستها التي وضعتها منذ بداية عهد الإنقلاب و هي الضغط من أجل الإحتواء و الإستيعاب لا الإسقاط. وهي سياسة حققت لها مصالحها بمستوى لم يسبق له مثيل في بلادنا. و هذا يقودنا للسؤال الأهم، ماهي المستجدات التي جعلت الولايات المتحدة الأمريكية راغبة في رفع الحظر و تخفيف الضغط على النظام- إن صح الحديث عن رغبتها في رفع الحظر؟
(6)
من الواضح لكل ذي عينين أن النظام الآن يحتضر و هو على خطر السقوط ، وسقوطه بالقطع سوف يفقد الولايات المتحدة الأمريكية نظاماً طيعاً حقق لها ما أرادت، وهي بالطبع ليس لها مصلحة في سقوط مثل هذا النظام من ناحية. و من ناحية أخرى لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة ماسة للنظام لإعاقة إنسياب النفط من جنوب السودان. فسلفاكير و ريك مشار قد تكفلا بإشعال حرب أهلية من الممكن أن تعود للإشتعال في أي لحظة لأن إتفاقية السلام الهشة التي توصلا إليها تحت ضغط دولي لن تصمد طويلا على الأرجح. و الحرب الأهلية في الجنوب تخلق مناخ عدم إستقرار في القطاع النفطي و تمنع إنسيابية العملية الإنتاجية، كما أنها تؤسس لوضع الجنوب تحت الوصاية الدولية (الأمريكية) المباشرة بشكل أو آخر. فصدور القرارات الأممية التهديدية من مجلس الأمن، لن يعقبه دخول قوات روسية أو صينية في الجنوب، بل ستدخله قوات حليفة للولايات المتحدة أو منخرطة في مشروعها. و هذا يعني أن الظروف الداخلية لدولة الجنوب، فتحت المجال لسيطرة أمريكية مباشرة تجعلها في غنىً عن مجهودات النظام في الضغط على الصين. فوق ذلك ، خروج النظام من المحور الإيراني و تبعيته المطلقة للمعسكر المنخرط في المشروع الأمريكي مع أزمته الاقتصادية، يشكل ضمانة مهمة للولايات المتحدة الأمريكية وورقة من الممكن لعبها في أي مرحلة مستقبلية، خصوصاً إذا علمنا بأن كل الإستثمارات و المساعدات المتوقعة سوف تكون من هذا المعسكر حصرياً. وبهذا تكون الإدارة الأمريكية قد نفذت هدفها الأساس في السودان وهو حرمان الصين من الإستفادة من النفط السوداني، كما أنها ضمنت إستمرار خضوع النظام السوداني لها في المستقبل.
(7)
و إذا نظرنا إلى الضغوط التي تقوم بها الإدارة الأمريكية حالياً على قوى المعارضة لتوقيع خارطة طريق أمبيكي، يصبح إتجاه هذه الإدارة لرفع الحظر عن النظام وارداً إن لم يكن راجحاً. فهي تحتاج لتقديم حوار الوثبة كحوار شامل لحل الأزمة السودانية، حتى تقنع المشرع الأمريكي و الشعب الأمريكي أن رفع الحظر جاء تتويجاً لتحول في بنية النظام، ومساعدة لدولة السودان حتى تستقر. أي أنها بحاجة لحوار شامل تنتج عنه حكومة موسعة يتم تقديمها على أنها نظام بديل أسس لجمهورية جديدة. و هذا هو أساس و جوهر خطة تعويم النظام أو هبوطه الناعم بدلاً من تفكيكه. و لهذا بالذات وضعت الولايات المتحدة الأمريكية فكرة الحوار عبر ورقة بريستون ليمان التي تلقفها د. الترابي ليصنع مشروع حوار الوثبة، وهو حوار تم تبشيرنا به بعد زيارة كارتر للسودان ، فتأمل! فالحوار فكرة أمريكية صادفت هوى لدى د. الترابي الراغب في إيجاد خلاص لحركته و موقع متميز في دولة مابعد الإنقاذ، و الذي استطاع اقناع رئيس النظام بها و تزيينها له كمخرج من أزمته و أزمة نظامه. لذلك ليس مستبعداً أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية برفع الحظر عن النظام، خصوصاً وأنها استمرت في دعمه بطريق غير مباشر منذ ولادته عبر الدول الإقليمية المنخرطة في مشروعها، رغم رفعها للصوت عالياً بمعاداته . و المتأمل في هرولة بعض السياسيين الذين لفظتهم الإنقاذ نحو النظام، يدرك تماماً أن هناك تسوية أمريكية قادمة لإنقاذ النظام وتعويمه، يبحث هؤلاء عن مقعد في حكومتها الموسعة التي لن تقدم أي حلول لمشاكل السودان ومواطنه المغلوب على أمره.
abusaeeda@yahoo.co.uk