اخيراً فعل خيراً مسؤول ملف مسار دارفور عند تصريحه في منطقة كولقي بضرورة تأسيس نيابة متخصصة في جرائم المعلوماتية يكون مقرها الفاشر، هذه الخطوة تعتبر اكبر داعم لتحقيق السلم والأمن المجتمعي باقليم مازالت جراحه غير مندملة، عاست به ابواق المتفلتين اخلاقياً فساداً بدس السم بين مكونات السكان المنكوين بنار الفتنة العرقية التي ضربت لحمة ونسيج المجتمع الذي كان متسامحاً قبل ان تندلع نار الحرب الللعينة به، لقد دفع البؤساء ضحايا الصراع المجنون ارواحهم ثمناً للتصعيد الاعلامي المثير للضغائن والمستخدم لمصطلحات الفرز الاثني، فالحروب دائماً تبدأ بالكلام لا سيما اذا كان هذا الكلام معتمداً على وسائل الميديا الحديثة المقتحمة للغرف الصغيرة ببيوت الاسر والغازية للمكاتب الخاصة والحكومية، فقد حوكم من قبل احد الاعلاميين الممتلك لاذاعة تبث سموم البغض والكره العرقي بين الهوتو والتوتسي ابان حروب الابادة الجماعية بجمهورية رواندا، لاسهامه الشراني الواسع النطاق استغلالاً لميكروفون اذاعته في ضرب اسفين بين القبيلتين، ولما للاعلام السالب بدارفور من دور خطير في تأجيج نار الفتنة العشائرية، سوف يكون لهذه النيابة المتخصصة أثر بالغ في تضميد الجراح وكبح جماح النفوس الشريرة.
اختيار الفاشر كمقر للنيابة المعنية بالجرائم الالكترونية المقترحة جاء متناسباً مع جغرافيا شمال دارفور، باعتبارها اكثر البقاع المتأثرة بشبح الاقتتال العرقي والدموي الذي اطل بوجهه القبيح طيلة العقود المنصرمة، والمنطلق من الشحن الضغائني غير المبرر والمبني على التهيئات والتقديرات والبواعث الشخصية، فاذا عقدنا مقارنة عامة بين انعدام التسامح بين المكونين الاجتماعيين بشمال الاقليم وجنوبه، نجد ان مساحة تقبل الآخر بين سكان جنوب الاقليم هي الأكبر نسبياً، بدليل أن اطراف الصراع الحكومي والمسلح لم تستطع جر المكون الجنوبي للحالة الاستقطابية التي نراها بالشق الشمالي، ودليل آخر على انعدام الاستقطاب الحكومي والمسلح هو اندلاع الحروب القبلية بجنوب الاقليم حتى بين بطون المكون الاجتماعي الواحد بعيداً عن الأجندة السياسية، بعكس الحالة الشمالية التي قسمت المجتمع هنالك الى فريقين، فريق يوالي حملة السلاح الذين تمردوا على الحكومة وفريق ثاني يعتبر حاضن اجتماعي للقوات الحكومية التي تعود جذور ضباطها وجنودها لاثنية بعينها، هذه المعادلة جعلت من اتفاق السلام المهدد بالانهيار أن يكون كل المستفيدين من مخرجاته ينتمون لهذين المكونين الاجتماعيين النقيضين.
الانتقادات الناقدة لتوجيهات مسؤول مسار الاقليم المهدد بالانقسام لا تستند الى مبرر سوى الوقوع في فخ فوبيا المكون الاجتماعي الذي تمت شيطنته طيلة حقب الصراع، فالرجل كونه يجلس على رأس هرم الجهاز المنوط به انزال مقررات السلام المخزول لارض الواقع، تفرض عليه مسؤوليته الاخلاقية أن يسعى للحد من التفلتات الكلامية التي هي اخطر من التفلتات البنادقية، بتوجيه ادارة الدولة العليا لانشاء نيابة أمن معلومات بالمدينة المركزية بشمال الاقليم المنكوب، والذين يصرّون ويمعنون في استخدام عبارات السباب العرقي والقبلي المسيئة لمكون مجتمعي دون آخر، لا يريدون أمناً ولا سلماً اجتماعياً يكون الناس فيه سواسية كاسنان المشط متساوين في الحقوق والواجبات والخدمات، إنّهم ذات الأشخاص الذين زادوا اوار النار المشتعلة منذ عقدين، لقد استمرأوا الطرق على وتر العرق والقبيل العشائري ومنح صكوك المواطنة لمن تستهواه افئدتهم، ونزع هذا الصك ممن لا يتفق مع مشروعهم العنصري، لذلك جاءت ردة فعلهم قوية وهائجة عندما تحدث رجل السلام عن الجريمة الالكترونية، هذه الجريمة التي يسهل اثباتها عبر التتبع والتحقق من ارقام الهواتف الذكية المسجلة باسماء اشخاص حقيقيين ببطاقات وكروت هوية وطنية معتمدة.
الواقفون ضد مشاريع انشاء النيابات والمحاكم ومراكز الشرطة والقوات المختلطة لحفظ الأمن، لا يمكن ان يكونوا معول بناء اللمستقبل المشرق للأرض المحروقة، ولا يمكن أن يكونوا من المبشرين بالسلام المزعوم، ويجب أن يوضعوا في خانة المتآمر صاحب الجند الخفي الذي ما اتخذ حصان جوبا الا طرودة منه، وما ابتغى من المشروع الهش المؤسس بجوبا غير ممارسة (التقية) تجاوزاً للمرحلة الحالية حتى يلحق ليؤسس مشروعه الخاص المبني على وهم القبيلة، فالاتساق مطلوب ممن يطرحون انفسهم دعاة للخير والعدل والجمال، اذ لا يمكن ان يتفق الداعي للسلم مع الحانق والخانق لرقاب الناس والكاسر لروتين العمل الاصلاحي الراجي رتقاً لما انفتق من نسج مجتمعي، وهذه المرحلة التي اوصلنا لها شباب ثورة ديسمبر المجيدة من حرية معتبرة ومقدرة يجب علينا ان نعض عليها بالنواجز ونحصّنها بالمحاكم والنيابات لا ان ندعها للمتنطعين الذين لا يكترثون لما يقولون، والذين لا يلجمهم وازع دين ولا كابح خلق عائلي ولا واخز ضمير انساني.
اسماعيل عبد الله
[email protected]