حسب الأنباء المتواترة والمزعجة للغاية القادمة من السودان فإن الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد قد دخل فعليا حالة الانهيار التام أو الكامل. حيث أن وتيرة التسارع في ارتفاع أسعار السلع التي تعكس ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني منذ 3 أيام أصبحت لا تعد بالايام بل بالساعات. فخلال 48 ساعة فقط أرتفع سعر الدولار أو أنهارت قيمة الجنيه بما يساوي 10 ‰، حيث انخفض الجنيه من 40 الأربعاء إلى 45 يوم الجمعة. إن هذا الانهيار في قيمة العملة حسب تحليلات عديد من خبراء الاقتصاد عائد إلى أن الحكومة تقوم بطباعة أوراق العملة بشكل كبير بدون اي غطاء مالي اعتمادي حقيقي مقابل لها بالدولار في البنك المركزي. وبالتالي هناك فائض في السيولة وارتفاع في التضخم وصل إلى 127 في المائة بالمقارنة بين شهري نوفمبر 2017 ويناير 2018. وهذا التضخم هو الثاني في العالم بعد دولة فنزويلا والتي يعيش مواطنيها منذ عامين حالة انهيار اقتصادي كامل أدى خلو البلاد من السلع الرئيسية وانهيار كامل للعملة والاقتصاد هناك.
ان حكومة الانقاذ التي تتباهى بالإنجازات الاقتصادية وقدرتها على تحقيق نمو اقتصادي، هي في الواقع وصلت إلى نهاية الدائرة المغلقة. ففي بداية التسعينات وصلت نسب التضخم إلى نسب مساوية لما يحدث الآن وانهارت العملة تماما ما اضطر النظام الذي كان شابا وقتها إلى استبدال العملة من الجنيه إلى الدينار لإخفاء الانهيار الاقتصادي الذي كان يجري، وتم إخفاء الصفر في العملة الجديدة لالهاء الناس عن معرفة القيمة المتدنية للعملة الوطنية. ثم من بعد ظهور البترول وتحسين الوضع الاقتصادي قليلا تمت العودة مرة أخرى الي الجنيه. ولكن الصفر الذي فقد في التسعينات ظل مفقودا ولا زال، ومع الجنيه الجديد أيضا تمت عملية إخفاء للقيمة الحقيقة للعملة لأن الجنيه الرسمي الجديد يساوي في الحقيقة الف جنيه قديم. وهذا مما يؤكد على ما تشير اليه دراسات اقتصادية أكدت أن التضخم بين سنوات 1990 وحتى 1994 وصل إلى أكثر من 2000 %. الان وبعد 28 عاما والنظام في حالة شيخوخة سياسية كاملة ابتداءا من قيادته التي ما أصبحت قادرة على القتال كما كانت قبل 30 عاما، وحتى فكره وقاعدته الجماهيرية التي تفتت، فإن النظام وصل إلى نفس نقطة البداية ونقطة التسعينات مرة أخرى. مما يعني اكتمال دورة النظام الحالي ووصوله الي نهاية المسار.
لكن بالنظر إلى تجربة دولة فنزويلا التي كان يحكمها رجل ديكتاتور ذو شعبية جماهيرية عالية نسبة لأنه كان من العمال ومن عامة الشعب وهو الرئيس الراحل شافيز، فإن الدولة تعد من أغنى دول أمريكا اللاتينية. ومن أكبر الدول المصدرة للبترول في العالم. ولكن سياسات شافيز الذي كان معاديا لأمريكا وسيطرتها على بلاده حولته هو شخصيا من زعيم يحتفي به الجماهير إلى زعيم يلعنه الجميع. فالرجل في البداية كان رمزا لمقاومة الهيمنة الأمريكية وتمكن من تحقيق نمو اقتصادي كبير. لكنه في نفس الوقت شعر بالغرور ونصب نفسه رئيسا ابديا وقمع معارضيه بشدة مما أدى إلى تحوله إلى دكتاتور مكروه وسط الكثيرين خاصة الطبقة الوسطى المتعلمة. وفي النهاية توفي شافيز بالسرطان لكي يسيطر على النظام اخوه في مكانه في عملية توارث للحكم من نوع خاص، رغم أنها مورست في قالب انتخابات. نموذج فنزويلا منذ عامين تحديدا وتحت حكم اخ شافيز ينذر بخطر داهم اذا ما تشابه معه نموذج السودان في الفترة القادمة. فقد خرجت خلال العام الماضي في فنزويلا مظاهرات عارمة قتل فيها العشرات وتوقفت الدولة بالإضرابات وتمت محاصرة كاملة للرئيس ومطالبته دوليا بالنزول عن الحكم ولكنه رفض تماما. وهو الرئيس المغضوب عليه من قبل أمريكا واصبح غير مرغوب من كثير من دول الجوار له، لكنه رفض التنحي. وأجري الرجل انتخابات صورية ولازال في سدة الحكم إلى الان. في الحين الذي وصلت فيه نسب التضخم إلى 2600 هذا الشهر وأصبحت الدول المجاورة تفتح الحدود للمواطنين من فنزويلا لأخذ احتياجاتهم الرئيسية لأن الدولة في الداخل عاجزة حتى عن توفير البان الأطفال.
فقيمة البترول المنهارة والحصار الممارس من امريكا على فنزويلا، إضافة إلى رفض الرئيس التنحي وانتشار الفساد في الدولة أدى إلى هذه المرحلة من الانهيار التام هناك. الآن السودان وحسب تسريبات خلال اليومين الماضيين يدخل للأسف الشديد في نفق مشابه. فالرئيس قد تمت مطالبته بالتنحي من قبل دول جوار وامريكا لكنه يرفض ذلك. وفي المقابل فإن الاقتصاد لن يلقى اي دعم دولي ينقذه من الانهيار. وفي السودان البشير متمسك بالحكم خوفا من الجنائية ولذلك لديه مبررات أقوى للتمسك بالسلطة. ورغم ان الاحتجاجات الشعبية لم تصل إلى درجاتها القصوى بعد إلا أن هناك أيضا مؤشرا ان القمع قد يكون سيد الموقف في الفترة القادمة حال استمرار وتزايد الاحتجاجات مما قد يخفف من قدرتها على إزالة النظام بالسرعة والسلمية التي عهدها السودانيون في انتفاضات سابقة. حيث كانت النظم الحاكمة تسقط خلال أيام معدودة.
فالنظام السوداني اعتاد لعبة النفس الطويل التي مدت عمره بشكل مضاعف مرتين أكثر من آخر نظام ديكتاتور مر علي السودان. وبالتالي فإن التحدي الان امام القوي السياسية والاجتماعية هو الوقوف صفا واحدا والاستعداد لمعركة حقيقة ولكنها بشروط وأدوات تختلف عن أي تجربة سابقة. ان الظروف الموضوعية الحالية تفرض تفكير خارج اي تجارب ماضية للسودان في أقصاء الحكومات المتعاقبة. الآن التحدي الماثل لا يتعلق فقط بإسقاط نظام ديكتاتوري بل يتعلق بكيفية إنقاذ الدولة السودانية نفسها والمرهونة في يد مجرم الحرب والمتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. حيث انه في كامل الاستعداد لتوسيع مظلة جرائمه ضد الإنسانية لكي تشمل كل السودان عبر عمليه التجويع الكامل والتدمير الشامل للاقتصاد التي حدثت فعليا. ان الموقف الان يتجاوز اي روي أو حلول سياسية استهلاكية أو خطب حماسية. الموقف الان خطير بشكل غير مسبوق. ويهدد بتدمير كامل للسودان إذا ما استمر النظام لفترة أطول.
[email protected]