ايليا كوكو
من وحي مدرسة كاودا ؟ ستظل هذه الكاودا في وجدان الشعب السودان و العالم معقل التمرد و حاضنتهم . لكنها عند الثوار هي قلعة الصمود و التحدي و هي عندهم عرين الرجال الشجعان البواسل الاحرار. و عند الاخرين كاودا هي المدرسة الاولي للعلم و النور و المعرفة كل ما ذكر يمكنك نسبته لكاودا.
في بداية عهد حكومة الرئيس عبود تم طرد البعثات التبشيرية و المرسلين الاجانب من السودان و طبق نظام الحياد التبشيري ضد المسيحية والمسيحيين في جبال النوبة . واجه المسيحيين في جبال النوبة اضطهاد شديد و تضييق في ممارسة عباداتهم الروحية و احرق الكثير من الكنائس و اعتقل بعض قادتها و زج بهم في الحرسات و السجون . و لأن كل المناطق التي وجدت فيها الارساليات كان أهلها يدينون حصرياً بالمسيحية بعد ان تركوا دياناتهم التقليدية او الوثنية بمعني اخر كان أغلب سكان تلك المناطق مسيحيين او ثنييين. فعملت حكومة عبود علي اسلمة تلك المناطق بتحويل الارساليات المسيحية الي خلاوي و معاهد اسلامية كما عملت علي اسلمة و تعريب تلك المناطق قصرياً و حصرياً . كانت عملية الاسلمة تتم بأساليب شتي كالاغراء المادي و الوظيفي و بالزواج فلا يمكن قبول مسيحي في عمل او وظيفة الا بأعلان الشهادة و تغيير دينه المسيحي الي الدين الاسلامي و تغيير اسمه النوباوي الي اسم عربي . تم تعريب الاسماء بتغيير و تبديل كل الاسماء الاصلية بالاسماء العربية الاسلامية . بل كانوا يسخرون و يضحكون علي اللغات والاسماء النوباوية و مثل كوكو و كودي و تيه او كافي و في المدارس و يتم كتابة كلمة حمار علي ظهر أي تليمذ نطق او تكلم بلغته و يتم مطاردته من باقي التلاميذ خلال يوم كامل حتي لا يكررها . و قد نجحوا نجاح كبير في نبذ الكلام باللغات المحلية و غرسوا في نفوس التلاميذ بأن الرطانة او اللغة المحلية هي الوجه الاخر للجهالة و التخلف و هي لا تناسب المتعلم . ففي هيبان مثلاً لا يزال الكثيرين من المتعلمين يختشي او يخجل من الكلام بلغته الأصلية الا في نطاق ضيق جداً و يرون ذلك نوع من التخلف . فقد أهمل الاباء و الامهات الذين دخلوا المدارس و تعلموا اللغة العربية و الدين الاسلامي التواصل مع اولادهم باللغات الاصيلة و اكتفوا بتلقينهم اللغة العربية فقط حتي البيوت فأحدثوا بذلك شرخاً كبيراً في الهوية اللغوية النوباوية في كثير من مناطق جبال النوبة . شملت عملية تغيير الدين مقابل العمل المجندين في الجيش و الشرطة و عمال التعليم و الصحة و الاعمال و الوظائف الحكومية كلها حتي الهامشية منها . فتحول الكثيرين خاصة فئة الرجال الطالبين للوظائف الحكومية بهذه الاسباب و الاساليب من المسيحية الي الاسلام و ليس عن قناعة او ايمان حقيقي . و ما يجدر ذكره هنا هو عدم قناعة الكثيرين بتغيير دينهم المسيحي لكنهم كانوا مضطرين بسبب الوظيفة او الاضطهاد .
و هذه الممارسة و الاسلمة جعلت الكثيرين منهم يعودون فيما بعد الي المسيحية . خاصة بعد ثورة مايو و حكومة الرئيس جعفر محمد النميري الذي اتاح الي حد كبير حرية الاديان و كفل و سمح للمسيحيين بممارسة دينهم و عباداتهم الروحية بحرية شبه كاملة . في عهد النميري سمح بتدريس التربية المسيحية للطلبة و التلاميذ في المدارس بعد ان سمح للأطفال الذين الذين كانوا يدرسون التربية الاسلامية و تمكن بعض المدرسين الذين اسلموا من الرجوع الي المسيحية و من ثم عملوا في تدريس التربية المسيحية في البداية في الكنائس و بعدها في المدارس . استمرت الحريات الدينية في السودان حتي تاريخ اعلان الشريعة الاسلامية لتدور الدوائر مجدداً علي المسيحيين قمعاً و اضطهاداً و تضييق في الحريات الدينية . هذه الجزئية مهمة جداً في الدلالة علي حقيقة عدم وجود التشدد و روح التعصب الديني في جبال النوبة . كما تأكد مدي التسامح مع الافراد المتحويلين من هذا الدين الي الدين الاخر فالمجتمع و الاسرة يتقبلون بعضهم بأريحية و لطف و مودة و في ذهنهم الجمعي ان الدين لله و الوطن للجميع .
قبيل الذهاب الي مدرسة كاود الابتدئية كانت مدارس الاحد و الخلوة و ثم مدرسة هيبان الابتدئية المحطات الاولي في مشوار التعليم و التعلم و كسب المعرفة . و كان الاطفال في ذلك العهد الباكرة في هيبان لا ينفرقون كثيراً بين مدرسة الاحد و الخلوة او بين الجامع و الكنيسة فوقتها لم يكن الروضة موجودة . و كان الاهل متسامحين في امور الدين و متعايشين الي حد كبير و هذا ما جعل الاسر المسيحية ترسل ابنائها الي الخلوة حتي يتمكنوا من دخول المدرسة كما ذكر. ليس هذا فحسب بل كانت الاسر لا تبالي بالزواج الديني المختلط و لا يرفضون زاوج ابنائهم او تزويج بناتهم للطرف الاخر كزواج المسيحي من المسلمة او المسيحية من المسلم . فاذا قدر لك زيارة هيبان و كنت ضيفاً او غريباً لا يمكنك التفريق او التمييز بين المسيحيين و المسلمين الا في الكنيسة او الجامع . و في الاعياد يتبادل الجميع تهانئ و أمنيات العيد دون حرج فأعياد المسلمين هي اعياد المسيحيين و اعياد المسيحيين هي اعياد المسلمين . فتجد المسلمين كما المسيحيين يستعدون للعيد بالجديد و يشترون ملابس العيد للأطفال و البلح و الحلاويات و يخبزون الخبائر بحسب امكانيات الاسر . و الادهي من ذلك اتذكر ان بعض الاسر المسيحية كانوا يشترون الخراف و يضحون في اعياد الضحية كما المسلمين تماماً . و في ايام اعياد الفطر و الاضحية يذهب الاطفال بدون فرز الي الجامع فرحين مهللين مكبرين في مواكب الذكر و النوبة و هي تجواب انحاء هيبان . كما في اعياد الميلاد و الكرسمس تجدهم ايضاً ينشدون و يترنمون بالترانيم الروحية ، يلعبون و يرقصون غير عابهين بأختلاف الاديان !!!
و لم يكن أمر التحول من هذا الدين الي الدين الاخر أمراً مستهجناً في المجتمع الهيباني كما تم الاشارة و المسلم و المسيحي وجه لعملة واحدة . في البيت الواحد في أغلب البيوت في هذه البلدة قد يكون الاب مسلم و الام مسيحية او العكس . فالكل هنا يمارس عبادته و شعائره الدينية بعفوية و حرية كاملة لا يعكر صفائها و نقائها أي نوع من انواع التمييز و التفرقة الدينية .
علي هذا الاساس تربي ونشأه و عاش كل أهل هذه المنطقة في تعايش و سلام اجتماعي ثقافي ديني متفرد و متميز جداً . و كانت كل المدارس بها نظام الداخليات التي تتوفر فيها كل الامكانيات الحياتية اليومية لكل فرد من التلاميذ . من الاكل و الشراب و أدوات و مستلزمات الطلاب من الكتب و الكراسات و الاقلام و كل المعينات الدراسية متوفرة حتي الملابس توفر للمعوزين و المحتاجين من التلاميذ المساكين و الفقراء . و القبول في الداخلية طبعاً كان متاحاً فقط للأطفال الذين يأتون من القري و الاماكن البعيدة من المدرسة اما اطفال اسر المنطقة و القربيين فيقبلون خارجية بمعني انهم يقيمون مع اسرهم في بيوتهم يذهبون الي المدرسة كل صباح و يعودون الي البيوتهم ساعة الفطور و من ثم يرجعون الي المدرسة لتكملة باقي الحصص . و في احياناً كثيرة لا يتمكن بعض تلاميذ الخارجية من العودة الي المدرسة بعد ساعة الفطور لأسباب مختلفة تتعلق ربما بعدم وجود الفطور اصلاً في البيت . و احياناً يتأخر هذا التلميذ او ذاك لان ابوه و امه كلفته بعمل ما في البيت او تم ارساله لقضاء مهمة ما للأسرة كرعاية الاغنام او حتي لانه بمزاجه لا يريد الرجوع الي المدرسة لحضور و تكملة باقي الحصص . و احياناً يكون الفطور كأساً من عصير العيش الذيذ الدسم المشبع و المنعش المنعس ( المريسة ) و المريسة هي شربوت و شراب روحي لأغلب النوبة و هو بمثابة مشروبهم او أكلهم المفضل في ان . فكثير من النوبة يعتبرون هذا الشراب او المشروب أكلاً فكرم الضيافة لا تكتمل الا بتقديم المريسة . فهي تقدم في كل المناسبات في الافراح و الاتراح في مناسبات الزواج و النفاير و كل الاحتفالات الكبيرة لا تتم بدونها بأي حال من الاحوال فبغياب بخسة المريسة و كأسها تكون الفرحة ناقصة و لا تكتمل الافراح الا بحضور البخسة والكأس في الوسط.
هذا الامر متعلق بفطور تلاميذ الخارجية فقد يكون فطور التلميذ او الطالب كأس مريسه معتق تأثر في مزاج و نفسيات هذا التلميذ فيذهب او لا يذهب الي الحصة و اذ ذهب فهو في وادي و الحصة في وادً اخر. فلا جدال في ان الداخليات كانت و ستظل دائماً النظام الامثل لجميع الطلاب و التلاميذ في جبال النوبة خاصة و في كل الريف السوداني الي يومنا هذا . ننوه هنا بأن المريسة ليست حكراً علي النوبة وحدهم فقد ظلت المريسة مشروب لكل السودانيين في كل أقاليم كردفان و دارفور و جنوب السودان حتي نهاية عهد الرئيس جعفر النميري و بداية تطبيقه للشريعة الاسلامية الشهيرة بقوانيين سبتمبر . لكنها أي المريسة ظلت لأسباب عنصرية بحته سمة و وصمة عار و ماركة في جبين كل النوبة حتي الذين لا يشربونها او يتعاطونها . فالنوباوي مسلم مسيحي هو شراب المريسة و النوباوية فدادية حتي لو كانت أم الفريق شمس الدين كباشي او الدكتور صديق تاور .
بالطبع درس كل اولاد هيبان مرحلتهم الابتدائية في مدرسة هيبان من الخارجيه لأنهم من أطفال هيبان أهلهم و اسرهم و بيوتهم قريبة من المدرسة . و كانت ساعة الفطور كافية تمكنهم من الذهاب الي البيوت و تناول وجبة الفطور سريعاً و العودة الي المدرسة بأرتياح . و لان حصص بعد الفطور لايوجد بها تمام الحضور و الغياب فهذا مكن بعضهم من دك الحصص التي لا يريدنها او يرتاحون لمدرسيها و حضور الحصص التي يحبذونا يحبها عادي . يحدث كل هذا دون ان يلاحظ استاذ المادة بعض المتغيبيين عن حصصه . و لان هذا الامر كان صعباً بسبب عدد التلاميذ الكبير المتكدسين حشواً في الفصل الواحد كان الكثير من الاود يتسيبون و لا يتابعون دورسهم بحرص او ادني نوع من الأنتظام .
أنت هنا لا تستطيع ان تقول بأن الاسر كانت مقصرة او مهملة في حق تعليم أبنائهم و بنتاتهم بأي حال من الاحول فكل ظروف و جوبات ذاك الزمان من الماضي السحيق كان مختلفاً جداً . فحتي فهم الكثيرين من الاباء و الامهات عن التعليم و أهمية التعلم و جدواه كان قاصراً و لم يكن فهمهم للعلم فهماً ناضجاً و مكتملاً فالكثيرين كانوا يعتبرون المدارس نوع البذخ والرفاهية التي لا لزوم لها او داعي . لذلك كان هذا الجيل من التلاميذ يرتاد المدارس بأرداته و رغبته و دافعه الشخصي المحض في التعليم . فالاسرة لا تلزمهم الزاماً للذهاب الي المدرسة و بعضها تري في التعليم مضيعةً للوقت الذي يمكن الاستفادة منه في عمل مفيد و منتج يفيدهم بعائد مادي سريع .
عليه كان جل الاطفال من التلاميذ يذهبون الي المدرسة و يعودون سريعاً الي البيوت بعد انتهاء الحصص راميين كتبهم و كراساتهم في اقرب مكان في البيت ثم يدلفون و يخرجون سريعاً الي اللهو و اللعب . و يشكل اللهو و العب عنصر اساسي في شقاوة الاطفال و الطفولة كما يعد جزء رئيس و مهم في العملية التربوية للنشئة في ذاك الزمان . زمن لم يوجد فيه لا راديو و تلفزيون او اندية مشاهده و دور السينما . حتي لعبة كرة القدم كانت تعد نوع من الترف الزايد و نادراً ما يوجد كرة قدم واحدة في المدرسة او المنطقة كلها . و فيما بعد استحدث الاطفال كرة الشراب . فالهوايات الرياضة الطبيعة المتاحة كانت تتمثل في المصارعة و الصيد و القنيص و لعبة الكده و الشليل و الصلص هذه هي افضل لعب و رياضات الاطفال من الاولاد بينما تمارس البنات لعبة الزمباره و الرقصات الشعبية رياضة كما نط الحبل جلب الماء و الاحتطاب ايضاً كان نوعاً و الرياضة للبنات بل نزهة و رفاهية حتي ظهرت لعبة الروندس التي يتباري في لعبها الاطفال و الشباب من الجنسين في الميادين العامة و ساحات الكنائس .
بعد الرجوع الي البيوت يتسابق الجميع في الخروج و الذهاب الي الجنائن و المزارع و الحقول جرياً لاصطياد الفئران و القنافذ و الطيور من القماري و الدباس و الزرزور . او البحث المزارع عن الفول و حفر الكبس و الكبس هو عملية حفر مزارع الفول السوداني و البحث تنقيباً عن متبقي الفول في التراب بعد عمليات الحصاد . فالكبس فول لذيذ جداً و اطعم كثيراً من الفول العادي في البيت كما ان فول البيت و السمسم يكون حلواً شهياً للأطفال فقط عندما يتم سرقته خلسةً من الراكوبة او السويبة في غياب الامهات . و من ناحية اخري كان لسرقة المنقه و الجوافة و قصب السكر و الفواكة الاخري في الجنائن و المطاردات التي تتم من اصحابها بعد ثالثاً في المتعة و المجازفات التي تزكي في نفوس الاطفال روح المغامرات و حب اظهار الذات و البطولات عند قصها و حكيها لبعضهم في الليالي المقمرة حيث يحلو الانس و السمر . و تلك الليالي كانت تعج ايضاَ بحفلات و مناسبات الافراح المختلفة من زواج و خطوبة و نجاح كلها كانت خصماً من العملية التعليمة للأطفال فتلك المناسبات تتم غالباً المواسم الصيفية و هي الفترات الدارسية . كما ان لقصرة الفترة الدراسية جبال النوبة ركن اساس في تدني التحصيل المدرسي للتلميذ و ثأثر سلباً في نسب النجاح و المنافسة لآن هذه الفترة الدراسية في أغلب مناطق جبال النوبة لا تزيد بأي حال من الاحوال عن المئة يوم في أحسن الاحوال بينما المحدد لها في باقي مدارس السودان هي 210 يوم للفترة الدارسية بالاضافة الي الكورسات الصيفية التي لا وجود لها هنا .
زمن الطفولة زمن مشحون و اليوم فيه قصير جداً و لا يوجد فيه اوقات للفراغ و الرمتلة . هذا بعكس الوقت عند الشباب حيث يتوفر لبعضهم أوقات فراغ مشحون بالقرف و الزهج و الممل .
قضي صاحبنا كوكو و هو احد أطفال هيبان و قصته هنا تشابه قصص و روايات كل اطفال زاك الزمان و المكان . حيث يقضون سنينهم الدراسية الابتدائية في اللعب و الجري حتي يدركهم السنة السادسة و امتحانات الثانوية العامة المتوسطة . و كما سبق الاشارة يمتحن للشهادة الابتدائية نحو الف من التلاميذ ليتم قبول اقل من المئة تلميذ في مدرسة هيبان الثانوية العامة . فاكثر من عشرة مدارس و اكثر من الف طالب يقبل منهم ل اقل من مئة ناجح فيا له من ظلم فادح !
بالطبع لم ينجح كوكو في المرة الاولي كما لم ينجح الكثيرين من اترابه ، فكل المؤشرات و الدائل و البراهين اعلاه كانت تشير الي ان نتيجة الرسوب متوقعة و حتمية . و حتي الذين يحظون بالنجاح لا يتم قبول جلهم لكثرة الناجحين و ضيق فرص القبول . و من بعد الرسوب و الفشل ينافسون علي فرص الاعادة الضيقة ايضاً و الاعادة هي الاخري ضرب من الحظ فليس كل تلميذ طموح راسب ممكن ان يجد فرصة في الاعادة . فيا تري ما المصير المنتظر لكوكو و كل الباقين من اولاد هيبان الراسبين في الاعادة في مدرسة هيبان او الذهاب و الاعادة في مدرسة كاودا ؟
فاصل ثم نواصل 3