الأستاذ حامد موسى مراهد يوثق
كنا مجموعة في فرقة الموسيقي العسكرية في معهد التربية بالدلنج نتدرب على العزف و خاصة (المارشات) العسكرية لمرافقة (فصيل السونكي) بالمعهد و المشارك في احتفالات اليوبيل الذهبي لمعهد ( بخت الرضا)… من بين المارشات المحببة إلينا و كنا نطرب كثيرا لإقطاعه، مارش ( مندي ) أو نوبا سلارا .. تلك المعزوفة العسكرية الأكثر شهرة بين المارشات العسكرية و التي تعزفها كل الفرق العسكرية في السودان … أثناء تدريباتنا على العزف، وقف أمامنا أستاذنا المرحوم (على جلدقون) ذلك الإنسان النبيل الجميل الرائع وسألنا عن اسم المعزوفة، فأجبنا بكل ثقة: مندي. فأضاف: و من هي مندي؟ هنا كان جوابنا صمتا. فعلا لم نكن ندري من هي مندي بل لم نفكر حتى في البحث عن سر هذه التسمية. فقط كنا نطرب للحن و الكلمات
كرو كونجا كو دون دالي
مندي كورو كونجا كودون دالي
اووووو .. دالي .. دالي
كورو كونجا كودون دالي
حكي لنا عنها و عن أسطورتها البطولية فكانت دهشتنا كيف و لم لم يوثق لهذه الشخصية النادرة البطلة المقدامة ؟ و كم زادت دهشتنا عندما أضاف: هل تعلمون أنها من قبيلة النيمانج و أنها اليوم حية ترزق و أنكم منها على بعد بضع أميال؟ وقال بعد أيام سيكون هنالك ( سبر) عند النيمانج و يمكنكم زيارتها.
و ذهبنا مجموعة لحضور ( السبر) و قدمنا الأستاذ جلدقون للأخ / حسن كنده كربوس الذي سعد و رحب بنا كثيرا عندما عرف بسبب زيارتنا لهم و قادنا الي دار الوالدة مندي. و التي خاطبها (بالرطانة) معرفا بنا، فما كان منها إلا أن رحبت بنا بحرارة بالغة … عجوز و لكنها ذات شخصية مهابة و قوام متماسك رغم تقدم العمر و وجه لا أزال أذكره.. كله فرح و سعادة.. إبتسامة كانت أعذب ما رأيت في وجه حفر الزمن عليه آثارا لا تخطئها العين.. صافحتنا بيد فيها بقية من قوة و بترحاب مقرون بابتسامة جميلة كشفت عن أسنان كاملة و ناصعة.
دار بيننا حديث طويل عن دورها في تلك الثورة التي قادها والدها الشهيد السلطان (عجبنا) و الذي أعدمه المستعمر شنقا.. تحدثت ببساطة النبلاء عن حب الوطن و بغض المستعمر و استسهلت الموت من أجل التراب … جلسة طويلة و حديث ذكريات لا يمل إلي أن شارفت الشمس على المغيب، وخرجت معنا مصرة على وداعنا خارج الدار و مشت معنا حتى ساحة الاحتفال.
ما أن شاهدها أحد مصارعي القبيلة حتى اندفع نحوها في حركات تعكس القوة و الفتوة يهز فيها و يبشر و يستعرض عضلاته، فما كان منها إلا أن أطلقت زغرودة ترحب به، زغرودة في قوة لم نصدق أنها تخرج من هذا الجسم الذي أنهكته الأيام، فكان لصدى زغرودتها فعل السحر في الجميع … اهتاج الشباب و تجاوبت معها صبيات النيمانج الجميلات بفيض من الزغاريد. أحسسنا أن هاماتنا قد زادت ارتفاعا ونحن إلى جوارها في تلك اللحظة.
وودعنا الوالدة مندي …
هذه هي مندي … مندي بت السلطان عجبنا بن أروجا بن سبا، سلطان النيمانج. وسلطان تلك البقعة الواقعة بالقرب من مدينة الدلنج و التي تضم مناطق كرمتي، النتل، تندية، سلارا، حجر السلطان و الفوس و هي المنطقة التي دارت فيها رحى المعركة بين قوات المستعمر البريطاني و جنود السلطان عجبنا.
كانت مقدمة المعركة أن (كمن) أبطال القبيلة لمفتش مركز الدلنج (هتون) في حجر السلطان و أردوه قتيلا الأمر الذي أثار غضب السلطات فدفعت بقوة مزودة بأحدث آلة عسكرية وقتها و بكل العدة و العتاد بقيادة المقدم (سميث) في نوفمبر 1917 لمقاتلة ثوار النيمانج، و رغم تفوق آلة الحرب البريطانية إلا أن فرسان النيمانج ابلوا بلاء الأبطال و هم يقاتلون قوة تحاصرهم من ثلاث جهات.
وصلت أخبار هذا الحصار الدامي و القوة الضاربة إلي مسامع مندي فما كان منها إلا أن (تحزمت) و حملت بندقيتها و ربطت ابنها على ظهرها و توجهت لأرض المعركة و قد فشلت كل المحاولات في منعها من الذهاب خوفا عليها… وصلت مندي أرض المعركة و ما أن شاهدها أبطال القبيلة حتى تعالت صيحاتهم فاندفعت مندي إلي الصفوف الأمامية تقاتل بضراوة و تغني بأعلى صوتها تشجع فرسان القبيلة و الذين أعادت لهم مندي الروح المعنوية و قوة القتال بعد معاناة الحصار و لم يقعدها عن مواصلة القتال مصرع طفلها و هو على ظهرها برصاصة من العدو، بل و في المساء عندما يهدأ القتال و يركن الفرسان للراحة كانت تواصل سندها لهم بتضميد الجراح و المشاركة في صنع الطعام. حتى أقوي فرسان قبيلتها كانوا يعجبون من شجاعتها و نشاطها الذي لا ينقطع صباح مساء لذلك تغنوا بهذه الفروسية النادرة فكانت كلماتهم هي كلمات الأغنية التي تحولت فيما بعد إلي مارش عسكري يخلد ذكراها إلي اليوم و كلمات الأغنية تحكي عن مندي التي تقاتل كالفرسان و تعالج و تطبخ…
و تنتهي المعركة بأسر والدها السلطان عجبنا و يتم إعدامه شنقا على شجرة بمدينة الدلنج في صباح يوم 27/12/1917.
هذه هي مندي المقاتلة المناضلة و التي لم ينصفها التاريخ و لم ينصفها أهل التوثيق في بلادي مما جعلها مجهولة لأغلب الشعب السوداني و هي نجم سطع وهاجا في سماء الوطنية في بلادي.
الصورة للاميرة مندي.