مقبول الأمين (كوكامي)
في المقال السابق توقفنا في مسألة تحقيق تطلعات جماهير شعبنا الأوفياء من خلال مشروع السودان الجديد العلماني الديمقراطي الذى يسع الجميع. في هذا المقال سوف نتطرق لفلسفة مشروع السودان الجديد التى نسعى لتحقيقها و مراحل التكوين. و من ثم نشير بصورة جلية لموقف هؤلاء من هذا المشروع الكبير و الذى لاتموت.
“عندما طرح الدكتور جون قرنق ديمبيور مؤسس الحركة الشعبيِّة لتحرير السودان فكرة مشروع السودان الجديد، كرؤية و برنامج وفكرة سياسية تقوم عليها الثورة التي قادها منذ مايو من العام 1983، لم تكن الأجواء السياسية وقتها مُهيأة بالكامل للقبول بمشروعٍ للتغيير ينطرح من خارج مركز السلطة الذي ظل مهيمنًا على الأوضاع في الدولة السودانية منذ تأسيسها في منتصف خمسينيات القرن الماضي، حيث سيطرت القوي الطائفية و الآيديولوجية و الدينية التي تعاقبت على السلطة سواءا كانت بدكتاتوريات مدنية أسمت نفسها زيفا بالديمقراطيات، أو بالإنقلابات العسكرية.
في تلك الفترة شكلت مشكلة جنوب السودان القضية المحورية في المشهد السياسي السوداني، فمنذ تمرد الفرقة الإستوائية في أغسطس 1955م و حتى إستقلال الجنوبيين بدولتهم، فشلت جميع الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان في تشخيص الأزمة بصورة سليمة. كما أن القوي السياسية و حركات المقاومة المسلحة الجنوبيِّة كانت تعاني بدورها عِللًا مُماثلة في طرح ما تبتغيه من حلول للمشكل السوداني حيث كان طرحها لا يتجاوز المطالبة بالفدرالية أو الإنفصال عن الدولة السودانية. هذا التباعد الكبير في المواقف و السياسات جاء كنتاج لإنحياز الأنظمة الحاكمة في السودان لخيار الحل العسكري و فرض الهيمنة الثقافية العربية و الإسلامية، الأمر الذي قابله الجنوبيون برفضٍ مماثل على الرغم مما إعترى حركات المقاومة و الجماعات المتمردة من صراعات داخلية و إنقسامات إستمرت لفترات طويلة، إلى حين ظهور حركة (الأنانيا) بقيادة الجنرال جوزيف لاقو في ستينيات القرن المنصرم. تلك الحركة التي كانت تطالب بفصل جنوب السودان عن شماله هي نفسها التي إنضم إليها جون قرنق من أجل تحقيق غاية إستراتيجية وحيدة تتمثل في أن يكون جزء من نضالات الجنوبيين المُبكرة بغرض تغييرها من الداخل.
في تلك الفترة إنضمّ (قرنق) إلى (أنانيا-١) و هو يحمل معه مشروعه الفكري و السياسي ؛ كيف لا و هو القادم من دار السلام (تنزانيا)، حيث كانت مبادئ و أفكار الإشتراكية الأفريقية و الـ(بان أفريكانيزم) رائجة هناك، لذلك و بطبيعة الحال كان الرجل متأثرًا برياح التغيير التي إنتظمت القارة في ظل تصاعد حركات التحرر الوطني الأفريقية، كما كانت لحوارات حقبة الستينيات تأثيرات كبيرة عليه و هو لم يزل – بعد – ضابطًا صغيرًا في (أنانيا)، و قد تجلي ذلك واضحًا في الحوارات و النقاشات التي إبتدرها مع زعيمها الجنرال (لاقو) و القيادي (أكووت أتيم دي ميان)، حول أفكار الحركة حيث كان (قرنق) يصفها بأنها حركة إنفصالية رجعية لا تحمل مشروعًا مُستقبليًا يقود إلى حل القضية الجنوبية و إيقاف الحرب الدائرة هناك.
إن أطروحة (السودان الجديد) التي قدمها الدكتور جون قرنق دي مبيور، إنبنت على قراءة سياسية عميقة للأزمة السياسية السودانية و ناقشت غياب المشروع الوطني السوداني الذي يؤسس لبناء دولة ديمقراطية علمانية موحدة، وحدة طوعية حقيقية تستوعب جميع مكونات الدولة السودانية دونما تهميش أو اقصاء سياسي أو ثقافي أو تنموى.
و قد مثل مشروع قرنق السياسي قفزةً كبيرةً في تشريح وتحليل مشكلة السودان و تعقيداتها، خاصة و أنه تمكن بجدارة وحنكة من إعادة النقاش حول العديد من تابوهات السياسة السودانية كمشكلة الهوِّية وأثارة سؤال الدين و الدولة، بجانب مُعادلة نظام الحكم في الدولة السودانية من خلال المطالبة بضرورة التركيز علي (كيف يحكم السودان؟)، بدلا عن السؤال (من يحكم السودان؟).
صحيح، أن مشروع السودان الجديد لم يتجاوز مرحلة طرح الملامح العامة للخروج من المـأزق السياسي، إذ لم يتعمق في تفكيك ما قدمه من فرضيات، و ذلك ببساطة لأن جُهده كان موزعاً ما بين بناء جبهة المقاومة العسكرية عبر الجيش الشعبي لتحرير السودان بإعتباره الأداة الأنجع للإبقاء على الحركة السياسية قيد الحياة.
و من أكبر المُعضلات التي واجهت مشروع السودان الجديد منذ بدايته كان الصراع الذي نجم جراء طرحه، مع غُلاة القوميين الجنوبيين، الذين وقفوا رغم أنهم كانوا قادة سياسيين، ضد أهداف الحركة الشعبية، خاصة فيما يتعلق بوحدة السودان. كما أن غالبية الجنود الذين إنضموا للجيش الشعبي كان هدفهم الأساسي هو الحصول على السلاح و التدرُب في المعسكرات التي أسسها (قرنق) داخل الأراضي الأثيوبية و من ثم العودة لتحرير الجنوب من هيمنة وقبضة من يسمونهم بالجلابة وتكوين دولة مستقلة في الجنوب.
إستمر هذا الصراع في شكله الخفي إلى أن وصل لمرحلة إالمواجهة في أغسطس 1991 وظهور مجموعة الناصر بقيادة ريك مشار تينج و لام أكول، و مجموعة توريت (SPLM Mainstream) بقيادة الدكتور جون قرنق. لقد كان صراعًا حول الرؤية والأهداف والقيادة فى آن واحد، صراعًا إنسحب على مواطنى الجنوب أنفسهم وإتخذ أبعادًا إثنية خطيرة فيما بعد، أدت إلى مقتل عدد من القيادات المؤسسة للحركة الشعبيِّة، الأمر الذي أعاقها وأخرها فى تحقيق الإنجازات العسكرية والسياسية في تلك السنوات، بل و كادت أن تنسفها بشكل نهائي لولا حنكة قائدها و خطابه السياسى الوحدوى الذي أدى إلى التفاف مجموعات الهامش السوداني حوله و حول مشروعه السياسي خاصة فى جبال النوبة والفونج.
يظل السؤال قائمًا: هل لايزال المشروع السياسي الذي طرحه قائد الحركة و زعيمها قابلًا للحياةِ في دولةِ ما بعد جون قرنق؟.
أما، الإجابة، و بكل تأكيد فهي: إن أطروحة السودان الجديد التي قدمت حينها كحل للمشكل السوداني يظل رؤية و برنامج قابل للحياة و التطبيق في الواقع السياسي السوداني شمالًا وجنوبًا.
و سيظل الدكتور جون قرنق واحدًا من المفكرين و القادة الأفارقة الكبار الذين بنوا أقوى المنظومات الثورية المدعومة بأفكار مستمدة من تجارب متراكمة لحركات المقاومة التي إنتظمت العديد من بلدان و شعوب القارة الأفريقية، و لاتديزال يتردظ صدى أفكاره العظيمة في الأرجاء. فقد عاش (قرنق) كمفكر عظيم و مات قائدا مخلصا و شجاعا مؤمنا بما أرساه من مبادئ سياسية و مشروع وطنى وإنساني تستسلهمه الأجيال من بعده، ليس على مستوى القطر السوداني وحده، و إنما للانسانية جمعاء، فالأوضاع لن تظل على ماهي، و التطلعات الكبيرة و المشروعة لن تموت و لا تندثر . ( إنتهى الاقتباس- الصحفي أتيم سايمون مبيور – 24 مايو – 2019 – موقع راديو تمازج”).
و نواصل……………