عبدالعزيز التوم
جاءت الكثير من الردود الانعكاسية من الثوار حول قرار محكمة سنار التي قضت بإدانة والي ولاية سنار الأسبق وإيداعه لدي المؤسسة الإصلاحية لمدة سنتين كتدبير عقابي، ليست لجريمة سرقة يتيمة ،ولا لحادثة سطوع منعزل على منزل شخص؛ بل لجريمة خيانة المال العام واستغلال النفوذ الوظيفي !، هذا المال المُبدد كان من الممكن أن يُنقذ العشرات، بل المئات من المرضى والمصابين المنتشرين في محليات سنار المختلفة، بل كان من الممكن أن يسد رمق جوع لجيوش من اليتامى والأرامل والحيارى والثكالى الذين هم في أمس الحاجة لِلُقمة عيش ،ومع ذلك ،نظامنا القانوني وفي ظل ثورة الحقوق والعدالة يُودع مثل هؤلاء الأشرار الي مؤسسات الإصلاح ،وأي إصلاح يُرجى منهم ! .
للمفارقة، وتأسيسا من ذات النظام القانوني يكون حكم محكمة أخري في الخرطوم عقوبة قطع اليد والرجل حداً في مواجهة شخص يُعتقد انه قام بحادثة نهب أو سرقة يتيمة، وقد هلل وكبر بعض فاقدي الإنسانية زعما منهم أن مثل هذا الحكم الوحشي والمهين للكرامة الإنسانية يتناسب معه لأنه اقدم لفعل شنيع ،علاوة على ذلك، انه ينتمي لعصابات النقروز، مع الوضع في الاعتبار لبشاعة بعض الأفعال التي يرتكبونها، إلا أن هذه الفئة مولود شرعي من رحم الظلم والاستبعاد والفرز الاجتماعي، فالمجتمع الذي يقبل الظلم ضد أي فئة اجتماعية ، فلابد له أن يكتوي بإفرازاته ! وهذا لا يعني أن هؤلاء الضحايا يمكن استغلالهم من بعض ضعاف النفوس لتنفيذ أجندة أخري، ولكنها في المحصلة تعكس الوجه القبيح للنظام الاجتماعي! في هاتين الصورتين تتبدي محنة النظام القانوني بشكل صارخ!
إذن أين تكمن المشكلة؟ ما بين قرار محكمة امتداد الخرطوم القاضي بعقوبة قطع اليد والرجل حدا، وما بين قرار محكمة سنار التي فرضت تدابير إصلاحية في مواجهة والي سنار الأسبق، هل تكمن المشكلة في القضاة؟! بالطبع لا، لان القاضي يصدر حكمه تبعا للمفهوم الذي يكونه عن طبيعة القانون، وان مضمون القواعد القانونية تعبر عن الاعتقادات والميول السياسية والأدبية والأيدولوجية لأصحابها ،فمثلا القانون الذي يمنع الإجهاض والانتحار يعكس المعتقدات المتعلقة بحرية تصرف الأنسان بحياته أو جسده، فالقانون الجنائي السوداني هو تعبير لعصارة فكرة المشروع الحضاري للحركة الإسلامية التي بُنيت علي مفاهيم مأدلجة للشريعة الإسلامية بغرض تحقيق الملذات والرغبات العدوانية لهذه الشرذمة ،وللأسف الشديد ،أن معظم القضاة مُشبعون بهذه الثقافة القانونية العقيمة التي ترسخت طوال فترة حكم هذه العصابة الإجرامية .
أن الإبقاء علي القانون الجنائي الجائر والذي لا يتماشى في كثير من نصوصه مع حيثيات العقل والمنطق والعدالة يدل علي هشاشة النظام القانوني القائم في البلاد ،وقد جاءت الفلسفة التشريعية من وراء المادة 48 المتعلق بتدابير الشيوخ علي أن الشيخ في هذا العمر قد وصل الي ارذل العمر ،واصبح بعد علم لا يعلم شيئا، أي تجاوز مرحلة العلم الي مرحلة اللا علم ،لذلك ساوي المشرع بين الشيخ الذي بلغ من العمر سبعين عام والحدث الذي بلغ السابعة ولم يبلغ الثامنة عشر من عمره، هذه الفلسفة التشريعية مُناقضة تماما للعلم الحديث والواقع ،عمر السبعين يُفترض فيه النضوج الفكري والمعرفي والسياسي، فالرئيس “جو بايدن” تولي رئاسة أمريكا في عمرة السبعة والسبعون .ولا تسقط عنه المسئولية الجنائية في أي فعل مجرم يرتكبه بعدئذ .
أن القانون الجنائي لم يتضمن نصوص مناقضة للشرعية الدستورية في البلاد فحسب، بل مخالفة لكثير من المواثيق والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها حكومة السودان، وفي ظل هذا النظام القانوني العقيم، ما الذي يتوقعه الثوار من حزمة إجراءات المحاكمة لرموز النظام الساقط في المحاكم؟ ألم تكن النتيجة معلومة للجميع؟! لماذا إهدار كل هذا الوقت والجهد في نظام قانوني لا يغني ولا يسمن للعدالة بشي؟!