عندما كنا في «أسمرا»، عام 2004، حصلت حركة جيش تحرير السودان، إحدى أذرع المقاومة الوطنية التي انطلقت وقتئذ من دارفور على عضوية تحالف القوى المدنية والعسكرية، وهو الأوسع الذي يناهض حكم البشير إثر إنقلابه مباشرة، والذي حصل عليه مجانا وهدية من الحركة الإسلامية السودانية، التي عمل على دكها ودك الشعب والوطن السودانيين.
هذا التحالف المعارض معروف بالتجمع الوطني الديمقراطي، الذي تمخضت عنه، قبل أن ينتكس وينقلب شعاره من «سلِم/ تسلم» إلى «استسلام»، أهم نتائج سياسية في تاريخ السودان الحديث، عرفه مؤتمر القضايا المصيرية بالعاصمة الإرتيرية، حيث ما زالت تلك النتائج والمرتكزات صالحة لحل أزمة الدولة السودانية. سبب تلك الإشارة، تتعلق بطلب حركة تحرير السودان للتجمع الوطني الديمقراطي بإدانة نظام البشير، بسبب عدم التقيد بمبادئ الحرب والقانون الدولي الإنساني وارتكاب جرائم إبادة جماعية وحرب ضد الإنسانية، كان موقف القوى الرئيسية في معارضة التجمع متخاذلا، بل مستنكرا، وربما في العمق غير المعلن والمصرح به، أن طلب حركة تحرير السودان ربما هو العكس، على أي حال رفض الطلب ولم يتم تبنيه، وتبين منذ ذلك الوقت وبما لا يدع مجالا للشك، الهوة الواسعة بين القوى المعارضة السودانية، وهي قوى في أغلبها معلومة في المحتوى والشكل، وكان موقفها القار عدم اعترافها بوقوع إبادة جماعية في دارفور. وهو طرح القوى السياسية العسكرية الجديدة المقبلة من غرب السودان، كانت لحسابات ومعادلات معلومة في السياسية السودانية، حيث أذكر،عندما نطل وباستمرار على القنوات التلفزيونية للتعليق أو إعلان موقف ما، سرعان ما نجدد ونعيد التأكيد، ويقابله الطرف الآخر، بأننا جماعات متمردة، تأتمر بأمر الخارج والغرب وفق وعي المؤامرة وإسرائيل واليهود لتغطية جرائم البشير الإسلاموي .
المؤكد في هذا الصدد، أن جريمة الإبادة الجماعية التي وقعت في دارفور السودانية، لم يتم التعاطي معها، بوضوح وجدية، فيما المؤيد، كان على استحياء، هذا الموقف نجده واضحا من طرف أغلب القوى السياسية السودانية المعارضة، وفق ترمومتر المعارضة السودانية، الذي لم يعرف الاستقرار في معارضته للبشير، فهي واقعة دائما بين المشاركة مع الحكم مرة، والخروج منها مرة أخرى، والرجوع إليها مرة ثانية، باستثناء بعض القوى السياسية العصية، التي اختارت عدم الركون إلى المتغير بل الثبات، ولا أخفي مرارة الدارفوريون وقواهم السياسية من الموقف الوطني السياسي تجاه جريمة الإبادة. هكذا ظلت الجريمة واقعة، بدون تسجيل موقف واضح، لا لبس ولا غموض فيه من طرف القوى السياسية السودانية، إلى أن أخذت طريقها إلى الجنائية الدولية عام 2009، وبموجب ذلك بات الرئيس السوداني مطالبا بالمثول مع أعوان ومساعدين له أمام محكمة الجنايات، فيما وضعهم الراهن، يصنف، بأنهم مجرمون هاربون، فارون من العدالة كاستحقاق دولي. أيضا هو انتصار للإنسانية في دارفور، ومحاكمة رمزية للفكر الذي أنتج الفعل الإجرامي، لأن الدوافع قبل أن تتحول إلى إرادة وفعل، يحركها وعي عقلي وفكري، وتلك رمزية أهم من المحاكمة الجنائية نفسها.
في هذا السياق، خضعت قضية الجنائية، لتسيس واستقطاب حادين في المشهد السياسي، بالإضافة للموقف الرسمي لنظام الحكم، فيما تمددت حالة الاستقطاب، إلى الموقف الإقليمي، العربي والأفريقي، إلى الدولي، وغالبا ما تكون محددات أي موقف، هي كم المصالح السريعة أو الإستراتيجية أو المؤقتة مع كل طرف. وبالاضافة لكون الرئيس السوداني، مجرما هاربا، في نظر الوطني والإقليمي والدولي، جعل منه رئيسا ضعيفا، يلبي أي شروط تفرض عليه، ما دامت تؤدي لخلاصه من هذه المحاكمة.
إلى ذلك، تحولت «الجنائية» إلى فوبيا وأيديولوجيا، تحرك عموم الفعل السياسي للبشير، ولنا أن نتخيل حجم تقلبات الحالة النفسية التي يعيشها رأس الحكم، ما يدفعه لعدم تقديم أي تنازل لمعالجة الأزمة السودانية، لأن توصيف حالة البشير الراهنة بسيطة، السلطة والحكم، تعني له تشكيل الحماية، وغيابها يعني وضع السلاسل في يديه، لا يثق بأحد، إن فقد سيطرته على الحكم، سوف يبيعه الآخرون، وهنا قد لا يستثني أحدا، حيث يثبت صحة المنطق السياسي القائل، إن مصالح الدولة تفوق مصالح الفرد. ومصالح بقاء العرش الديكتاتوري فرض كفاية ولو قتل ملايين السودانيين.
في هذا الإطار يرصد الراصد، أن ثمة تقدما كبيرا من طرف القوى السياسية في استحقاق الجنائية الدولية، قد تعود لظروف سياسية مغايرة فرضت نفسها وتغيرت فيها موازين القوى لحد كبير، وكذا أجندتها ومصالحها، إن كان مع بعضها بعضا، أو مع منظومة الحكم. وهذا ما يدفعنا إلى طرح رؤية أخرى، مفادها الاستفهامي: لماذا لا تتحول «الجنائية»، كاستحقاق وطني في ارتباط مع الوطني السوداني، إلى أحد أهم الأجندات الوطنية للمعارضة السودانية، بشقيها الثنائي، المدني والعسكري، ومن ثم إلى إحدى أولى أولويات آليات المعارضة لإسقاط حكم البشير، بل الأكثر واقعية، خصوصا في ظل، لا أقول س
قوط بل ضبابية الآليات الأخرى، وهي محصورة فيما يعرف بالثورة الجماهيرية، التي لا يمتلك مفتاحها أي أحد، ويقابلها الحكم بالضحك والسخرية، فضلا عن ذلك، سقوط مبدأ إسقاط النظام عبر السلاح، لتراجع هذا العامل أو موقف القوى السياسية المدنية الأخرى منه، بحجة أن ذلك يؤدي إلى فعل مضاد قد يؤدي إلى سقوط مؤسسة الدولة محل الصراع، وهي حجة في نظري مردود عليها، لأن فكرة ربط سقوط النظام بسقوط الدولة، فكرة جوهرها الحفاظ على جهاز الهيمنة القائم في البلاد، الذي يقوم به تابو التمركز المهيمن تاريخيا ولو عرف درجة ما من الانحراف.
إن إعادة تشكيل موقف سياسي وطني، مدعوم من طرف القوى السياسية والعسكرية الثورية السودانية ومنظمات المجتمع المدني في مؤتمر دولي، وبمشاركة المنظمات الدولية المعنية في الأجهزة والمؤسسات الدولية والدول المعنية بحقوق الإنسان والموقعة على ميثاق روما والمحكمة الجنائية، قد تدفع مجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ قرار دولي يمكنه من القبض على البشير وإنهاء حالات زواج متعة المصالح القوي الدولية مع الرئيس السوداني، كما أن هذه الدفعة الوطنية السودانية الجماهيرية المرتبطة بالاستحقاقين، السوداني والدولي، كفيلة بالقبض عليه وبسهولة وإنهاء أو خلخلة مراكز قوى السيطرة لدى نظامه، ومن ثم يبقى سهلا إسقاطه جماهيريا، لإنهاء ومحاكمة المشروع الإسلاموي الذي يرأسه، كمشروع للجريمة ومشروع للفساد ومشروع للسرقة الموصوفة، والأهم مشروع لا أخلاق له ولا علاقة له مع دين الله ومحطة تاريخية للسودانيين وغير السودانيين لكشف حيل وزيف الحكم باسم السماء عبر اللحى أو الخمار أو الخوذة العسكرية.
٭ كاتب سوداني مقيم في لندن