عثمان نواي
ان الشعب السودانى وخاصة شباب الثورة الذى خاض المعارك اليومية ولازال ضد النظام السابق وضد هيكلة الدولة السودانية الفاشلة منذالاستقلال ،يبدو أنه اكثر ثورية ويتخذ مواقف اكثر جذرية وقوة ورغبة فى التغيير الشامل من النخب الحاكمة والقوى السياسية التى أصبحت جميعها دون استثناء تقريبا تلعب دور الفرملة لتيار الثورة الجارف الذى يبدو ان النخب تخشي من ان يجرفها فى طريقه.
فبعد تصفية الملعب تقريبا من الكيزان كلاعبين رئيسيين فى قمة السلطة ،رغم وجودهم فى كل مستوياتها الأخرى ، فإن النخبة الحاكمة الان والتى كانت المعارضة سابقا والتى كان بعضها الحاكم للسودان قبل الإنقاذ، هذه النخبة ترى نفسها الان فى مرآة الشارع السودانى. هذا الشارع الذى لا يحمل ذاكرة طيبة عن هذه النخب كما أنه لا يرى من فعلها الحالى ما يصنع له ذاكرة جديدة إيجابية. حيث ان أزمة القوى السياسية الحزبية والكثير من النخب والمفكرين وحكماء الأمة المفترضين ،انهم يصرون على اللعب فى ملعب جديد بذات الأدوات القديمة. ومن الملاحظ انه لم يتم القيام باى خطوة حقيقية سواء فى اتجاه المحاسبة او تفكيك النظام السابق او حتى ملفات السلام وغيرها الا من بعد الضغط القوى من شباب الثورة عبر التظاهرات او وسائل التواصل الاجتماعى. اذن فان القائد الحقيقي وصاحب الخطة الحقيقية للتغيير الجذرى ليست الحكومة ولا قحت ولا تلك النخبة المتجابنة فى ثوب يدعى الحكمة، ولكنهم شباب الشارع الجسور الذى واجه الرصاص اعزلا رافعا يده كما فعل الشهيد عبد العظيم، الذى رفضوا ان يضعوا له تمثالا خوفا من ان يستمر فى تذكير إخوته بتلك الجسارة التى تمثل قدرة الفرد على هزيمة نظام .
ان عيوب الأحزاب السياسية السودانية لا تعتبر نتاج لقمع ثلاثين عاما من حكم الإنقاذ ، كما تحب الأحزاب ان تبرر لضعفها، بل الحقيقة هى ان عيوب الأحزاب السياسية هى التى ادت الى ان يحكم السودان الكيزان والى ان يستمر حكمهم لمدة ثلاثين عاما. ولن يتم تغيير الواقع السودانى بمفهوم بيت الشعر العربى العدمى القائل ” داونى بالتى كانت هى الداء”. والحقيقة ان الأزمة ليست في الأحزاب كجزء طبيعى من تكوين الحراك السياسي لاى دولة ،فالحزبية ليست هى المشكلة، وهذا ما يجب ان يدركه بشكل واعى جدا الشباب السودانى الثائر ،فالازمة ليست في وجود احزاب من الأساس لان الأحزاب او الحركات السياسية الاجتماعية هى الوسيلة الوحيدة لتنظيم أراء وتوجهات المجتمع سياسيا للوصول لدولة ديمقراطية فيها أجواء من التنوع والحوار وتداول سلمى للسلطة. ولكن المشكلة هى فى الأحزاب السياسية القائمة الحالية فى السودان، فهى فى الواقع ليست سوى كيانات هشة ،غير ديمقراطية فى داخلها ،وتاريخها وحاضرها علامته الوحيدة هى الفشل. اذن يبقى السؤال حول فشل المرحلة الانتقالية الحالية او الخطر الداهم عليها ينبع من هذه الأحزاب نفسها وتلك النخب التى تدعى الحكمة الثورية.
ان الخط الداعى الى عدم الشطط فى العداوة ضد الأحزاب السياسية وبما فيها احزاب النظام السابق شعبى ووطنى وغيرها ،هو ذات الخط الذى يحاول ان يقتلع من الثورة صفتها الأساسية، الا وهى قدرتها على صناعة تغييرات حقيقية واستبدال نظام بنظام واقتلاع النظام السابق من الجذور . واذا كانت القوى السياسية تعتقد انها افضل من النظام الساقط، فان هذا لا يعنى انها جيدة، بل هى تحتاج الى تغييرات جذرية حقيقية داخلها والا فهى أيضا ليست صالحة لخوض عملية تغيير النظام القديم . ان الهروب من ضرورة مواجهة العيوب الجوهرية فى القوى السياسية السودانية وان تظن فى نفسها بديل صالح للحكم بحالتها الراهنة، فإن هذا هو عين الشطط وبل طريق إعادة ذات الأخطاء التاريخية التى اضاعت الثورات السابقة تحت مظلة الخوف من الثورة المضادة. حيث ان التحالف السياسي الراهن هو الذى يقوم عبر أعضاء منه بطعن الثورة فى ظهرها بصناعة تحالفات بديلة مع كل قوى الثورة المضادة بما فيها العسكر والكيزان أنفسهم ، و( الصادق المهدى) هو المثال الأكثر وضوحا،فباى منطق يتم قبول ما يقوم به المهدى وحزبه؟
ومحاولة تجنب مواجهة الإصلاحات الثورية الضرورية وعدم اعادة بناء التحالفات على اسس وقواعد تشبه تركيبة المجتمع السودانى المتغير، سوف تقوم بانتاج نظام قمعى بلا شك لانه لا يستوعب معظم قوى الشعب الحية. كما ان حالة الكسل الفكرى وانعدام الهمة التى تعتبر الصفة اللازمة للنخب المهيمنة وصناع الرأى فى السودان تصيب المرء بالحيرة. فإذا كانت النخب السياسية والاجتماعية جادة في احداث تغييرات حقيقية فى تركيبة المجتمع المتخلف وفى مصفوفة التاييد والحشد السياسى المبنى على القبلية والجهل والتى يستغلها العسكر او القوى التقليدية والتى تستغل جهل وفقر عامة الشعب ، فلماذا لا يخرج قادة هذه النخب وخاصة المستنيرين منهم من صالات الندوات المكيفة وغير المكيفة والمدعومة من المنظمات وغير المدعومة، لماذا لا يرتدون العراقى والسروال ويذهبون فى جولات فى كل بقاع السودان كما فعل غاندي عندما وصل الى الهند من جنوب أفريقيا وهو محامى عالمى.. فقد خلع الرجل البدلة ولبس ما يشبه التوب والسروال السودانى وطاف أصغر قرى الهند ليتواصل مع الناس. لم يحدثهم بالإنجليزية ولم يتحدث لهم عن شكسبير او الكتب الفلسفية بل تحدث معهم عن فقرهم وجلس معهم على الأرض حافيا.
ان نخبوية النخبة السودانية هى التى تحرق الوطن كل مرة وتسلمه الى العسكر والكيزان والقوى التقليدية الظلامية من طائفية وغيرهم ،وربما الان الى الجنجويد فى اخر مراحل الانحطاط. فالنخبة السودانية تفضل ان تتسخ خارطة الوطن بالدماء وان تتقطع أوصال الوطن بالانفصال على ان تتسخ أقدامهم وتتعرق اجسادهم فى السعى لرتق أوصال الوطن حفاة متواضعين كما يفعل القادة والحكماء الحقيقيين. وفى ذات الوقت يتركون الساحة خالية لامثال الصادق وغيرهم لكى يملئوا الفراغ وبعبئوا ادمغة الناس بكل الإجابات الخاطئة، ثم يتحدث بعض من مدعى الحكمة عن الدور المهم ااذى تلعبه الطائفية! انها تلعب دورا كان يجب ان تلعبه ذات هذه النخب و المثقفين وبل ان كانت صادقة فى سعيها للحرية والديمقراطية لانقذت أولئك البسطاء من خديعة(( اوهام المتهمدى)) او غيره.. لكن للأسف لا تريد تلك النخب سوى ان تلعب ذات لعبة الحكم بالوكالة كما كان يفعل الاستعمار، يحكمون وبارتياح دون ان تتعفر أقدامهم ودون عمل جاد لتحقيق المعجزات الممكنة التى حققتها دول كانت أفقر منا وأكثر تمزقا. فهم يريدون ان يتخاطب الشيوخ مع قبائلهم والطائفية مع اتبعاهم ويبقى النخب فى ندواتهم يخاطبون بعضهم البعض، وفى النهاية يتباكون على الوطن عندما يحكمه الكيزان او الطائفية او العسكر ! .
ما يجب ان يعيه الشباب الثائر هو أنه لا يجب ان يرهن مستقبل ثورته الى أيدى احزاب فاشلة فعليه ان يكون احزابه الحرة التى تمثله وصناعة تيارات عريضة جامعة، وان يخرج الى كل قرى وبوادى السودان فى قوافل توعية وتواصل. فى كوبا عندما قامت الثورة تم تفريغ طلاب الجامعات لمدة عام ليقوموا بخدمة وطنية مجانية لمحو الأمية فى كل البلاد وقد كان، فى الهند يقوم المهندسين والتقنيين بما يسمى مشروع الحفاة الذين يسيرون عبر الهند لتعليم الناس ابسط سبل إصلاح تراكتراتهم الزراعية حتى لا تتوقف زراعتهم، هذه أمثلة لدينا بوادر تشبهها من شارع الحوادث ومجددون وغيرها هى التى صنعت كل النظام البديع فى اعتصام القيادة، “الحلم السودانى الموؤود” ، هؤلاء يجب ان لا يبعدوا عن القيادة، ولكن قيادة كل الوطن هذه المرة. ويجب ان لا يترك الشباب الواعى الساحة لهؤلاء الحكماء المدعين ورثه شيوخ بيع المحايات، الذين يريدون الان بيع محايات حكمتهم المدعاة فى( فتيل )) الحفاظ على الثورة. كما ان من صُلح من عضوية الأحزاب السياسية الذين لم يياسوا من قدرتهم على إصلاح احزابهم عليهم التعجيل بتحركات ثورية تشبه ثورة اقتلاع الكيزان، لأن الثورة لا تتجزأ.. ولن يكون هناك مستقبل جيد للسودان تحت هذه الهرجلة وضياع البوصلة الذى يحكم الفترة الانتقالية ، وسوف تدلهم الخطوب على هذا البناء الهش اقتصاديا وامنيا فى فترة اقصر مما يتمنى الكثيرون، اذا لم يستعيد الشباب زمام ثورته ويصنع كيانات سياسية قوية سواء بثورات على الأحزاب القائمة او صناعة قوى وتيارات جديدة تنظم الشارع وتطرح مشروع بديل للحكم فى السودان ، وهذا يجب أن يحدث قبل ان يصدروا قانون منع التظاهر وما يحدث بعد ذلك يعلمه الجميع ..
[email protected]