عثمان نواى
عندما ينظر المرء الى حجم التضحيات الجسام للجيل الجديد الذى حقق الثورة، وقد ولد اغلبه فى عهد الكيزان وخاصة جيل التسعينات ونهاية الثمانينات، يرى قدر غير مسبوق من الشجاعة والمواجهة للازمات على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. حيث اضطر هذا الجيل لمواجهة فشل خمسة عقود من الزمان منذ الاستقلال، واضطر الى دفع ثمن كل تلك الأخطاء من فشل كلي فى بناء الدولة الى أزمات الحروب والنزاعات الى الانهيار الاقتصادى والاخلاقى. وفى مواجهة هذا الوضع الكارثى بامتياز كانت خيارات الحياة كلها تنحصر فى المواجهة المباشرة مع الموت أملا فى الوصول الى بعض مقومات الحياة الكريمة.
هذا الجيل قد تصادق مع فكرة الموت من أجل ان يصنع حياة افضل بعد خوض كل المغامرات والمجازفات التى لا تقل كثيرا عن افلام المهمة المستحيلة لتحقيق النجاة لأنفسهم وان لم ينجوا هم فربما يقدمون بعض مقومات الكرامة لاسرهم، وحتى لابائهم الذين فشلوا فى تقديم تلك الحياة لهم وانقاذهم من شرور الحياة فى وطن لا يحترم الإنسان. هذا الجيل وجد نفسه بين خيارات مواجهة الموت فى البحر بحثا عن حياة فى الشط الآخر الأوروبي، او فى مواجهة الموت في اليمن، بحثا عن حياة أكرم لأسر قتلها العوز وانعدام الخيارات، حتى خرج الأطفال من المدراس ليذهبوا لليمن ويموتوا هم لتحيا أسرهم بكرامة اكثر. بينما ذهب يافعين آخرين الى التنقيب فى الصحراء عن الذهب وماتوا عطشا او انهارت عليهم المناجم والحفر وقبرت أحلامهم فى عمق الصحراء. والذين كانوا اكثر حظا ولم تبتلعهم موجات البحر او رصاصات الحوثيين او الصحراء ، غرقوا فى هموم الحياة، و تنازلوا عن اوهام الشهادات والوظائف والقمصان البيضاء، وقادوا الركشات والهايسات وترحال،وباعت الفتيات الشاى والأطعمة فى الشوارع ، ورموا الالقاب والشهادات خلف مسؤوليات تقديم القوت اليومى. هؤلاء الذين بقوا فى السودان ويواجهون موت الكرامة الإنسانية كل يوم فى كدح الحياة، كانوا هم وقود الثورة وواجهوا رصاص الكيزان والجنجويد والأمن دون دروع او حماية . هذا جيل قد اعتاد الموت طريقا للحياة. وهذا جيل لم يقدم له أحد الحلول، بل صنع حلوله بنفسه لازماته الانية. حتى المظاهرات التى خرجت اول مرة فى الدمازين احتجاجا على انعدام الخبز فى ١٣ ديسمبر 2018 ،كانت وسيلة احتجاج شجاعة فى منطقة حرب و،خرج هناك الأطفال والشباب فى ذلك اليوم وهم يعلمون ان الموت قد يكون مصيرهم وكانوا هم شرارة الثورة، ولكن يقل ان يذكرهم احد.
هذا الجيل لن يسمح بأن يقوده من لا يريدون ان يقدموا التضحيات كما قدموا هم، وهذا جيل لن ينفع معه التدليس وبيع الاوهام. وبمثل العنفوان الذى واجه به هذا الجيل الكيزان والدولة الفاشلة منذ الاستقلال ، له كامل القدرة على مواجهة اى محاولة هزيمة لأحلامه فى حياة افضل. فكما واجه الموت بلا خوف لانتزاع الكيزان فإنه جيل لن يصمت فى مواجهة اى محاولة هزيمة او خيانة لثورته. حيث ان حالة انعدام الشفافية وسواقة الناس كالقطيع ودون اى مواجهة مباشرة للأسئلة المصيرية وحالة التغييب التى تمارسها قحت وتجمع المهنيين فى إدارة الأمور ،سوف تضعهم فى مواجهة مباشرة مع الجيل المتمرد تماما على كل مكونات السودان القديم ، بينما يتضح كل يوم ان قحت تصر على ابقاء السودان القديم ولكن فى ثوب جديد. فالكاروهات وحدها لن تكفى للتمويه عن عملية إعادة انتاج آليات الفشل المزمن فى السياسة السودانية عبر التاريخ.
ومن اهم ملامح الفشل وإعادة صناعة الكارثة و التى بدأت تتشكل الان :
اولا عملية الاحتكار لاتخاذ القرارات الذى تمارسه قحت والفوقية والشللية التى يمارسها تجمع المهنيين فى قيادة الشارع السياسى والراى العام. حيث اننا نرى الان مؤتمر خريجين جديد يتشكل فى تجمع المهنيين، حيث تظل القوى الطائفية القديمة تلعب من الخلف، بينما الشلليات من الافندية “المهنيين” تسيطر على الصراع على الكراسي ويقرر الأصحاب توزيع المناصب بينهم. بينما لا توجد اى آليات لاستشارة الشارع او لجان الأحياء او التكتلات المهنية والمطلبية الشعبية والقاعدية، بما فيهم أعضاء فى قحت نفسها او التجمع ،فى من سيتولى أمرهم او فى آليات اتخاذ القرار بكل المستويات التى تقرر مصير الوطن الذى هو أكبر جدا من استيعاب وادراك والعلاقات والمعارف الشخصية للشلل واولاد الدفعة التى تقود قحت والتجمع .
ثانيا نرى عملية تجاهل لتحديات كبرى تواجه السودان مثل مسألة الحرب والسلام وبناء التلاحم الوطنى وإنهاء حالة التشظى فى الوجدان الوطنى . حيث تعود قحت وتجمع المهنيين الى حصر السودان فى الخرطوم ومثلث حمدى البغيض. حيث لم تتحرك الى الان اى وفود من قحت او التجمع الى معسكرات النزوح فى دارفور او فى دول الجوار فى تشاد او جنوب السودان او تحاول زيارة اهل السودان المقطوعين عن الوطن عنوة منذ ثمانية سنوات فى جبال النوبة والنيل الأزرق وهؤلاء وحدهم يقدرون باكثر من ٧ الى ٩ مليون سودانى اى قرابة ثلث الشعب السوداني . ان تقطع أوصال الوطن هو سيناريو يتشكل فى ظل هذه الممارسات التى تشبه تماما ممارسات القوى السياسية السودانية منذ السودنة قبل الاستقلال. الآن هناك فرصة عظيمة لبناء اللحمة الوطنية ومد الجسور بين مكونات السودان عبر توجيه الرأى العام لهذه القضايا بدلا عن خطابات التخوين والاستهتار بازمات الشركاء فى الوطن، ولكن لا حياة لمن تنادي .
ثالثا فان مخاطر خطاب التقديس للافراد والكيانات وممارسة القمع الممنهج ضد الرأى الناقد والمخالف تحت مطرقة شق الصف ولافتات صعوبة وتحديات المرحلة التى تستوجب ” التفويت وغض البصر” ومحاولة فرض حالة الثقة المطلقة فى المهدويين الجدد مدعى المعرفة الصائبة والحكمة المعطاة من الاعالى، إنما تهدد بصناعة دولة مهدية جديدة فاشلة تقصي الراى الآخر وتحتقر خبرات الآخرين وقد تنتهى الى ان تقتل ثلثى السودانيين كما حدث أثناء حكم الدولة المهدية. حيث مات الثلث جوعا والثلث الآخر فى الحروب. حتى أصبح تعداد السودان اقل من ٣ مليون عند نهاية المهدية بعد ان كان قرابة ٨ مليون فى زمن التركية.
رابعا صناعة خطاب التزييف والوهم والغش والكذب على الشعب عبر خطاب فى ظاهره البساطة وفى عمقه الاستهتار بعقل الجماهير. ونجد هذا واضحا فى الترويج للاتفاق الحالى مع المجلس العسكرى، وعدم توضيح آليات ضمان القصاص و المحاسبة التى يجب ان تشمل الطرف الثانى فى الاتفاق. فماذا سيكون موقف هذا الاتفاق اذا ما أصبح كل أعضاء المجلس العسكرى متهمين بجرائم القتل والتعذيب والاختفاء القسرى والاغتصاب التى جرت فى منذ ديسمبر على الاقل ناهيك عن مشاركتهم جميعا فى جرائم الحرب والابادة أثناء عهد المخلوع. ؟ ولكن خطاب الترويج للاتفاق لا يواجه هذه الأسئلة بل يزيف الحقائق ويصنع الوهم عبر جيوش التزييف المحترف من سياسين او نشطاء من النخبة المختارة.
هذه نقاط رئيسية من نقاط كثيرة تنبئ بأن ما يجرى الان ليس سوى تمهيد الارض لإعادة صناعة الكارثة السياسية السودانية. ولكن هذه المرة فان النخبة المتعالية تقف فى مواجهة جيل جديد لا يخشي الموت وله الاستعداد لمواجهة احتكار النخب الفاشلة للسلطة بشكل غير متوقع . و هذه المرة لن يقف هذا الجيل مكتوف الايدى لمواجهة الموت ولكنه قد يتحول الى آله لصناعة الموت أيضا، اذا ما تسرب اليه اليأس من الذين يقودون الأمور الان واستمرارهم فى القيادة بعنجهية وفوقية. فلغة الراندوك ليست مجرد كلمات والفاظ انها أسلحة تمرد على نظام سياسى واجتماعى فاشل تماما. ومجرد استخدام لغة الراندوك لا يعنى فهم منابع التمرد فيها. فمن صنعوها رفضوا كامل النظام القديم بما فى ذلك لغته، ولذلك فإن أرادت قحت والتجمع حماية واستمرار السودان بشكله الفاشل القديم، فإن لغة راندوك جديدة سيصنعها هذا الجيل لاقتلاع زيفهم كما تم إقتلاع الذين من قبلهم. ولن ينتظر جيل الاي فون خمسين سنة، فايام معدودة تكفيه لقلب موازين الأمور، ولكن قد تكون فى اتجاه اكثر قربا من الخيارات الدموية من احلام المدنية التى يتم الأعداد لفشلها قبل قيامها عبر تسليم البلاد لمدة عامين لحكم العسكر عبر الاتفاق الموقع قبل ايام . ولذلك حالة الغضب من فشل استغلال الفرصة العظيمة التى بين أيدى السودانيين الان لتحقيق أحلامهم فى دولة الكرامة، قد تؤدى الى انفجار الغضب والغبن بشكل دموى جارف لن يتمكن احد من السيطرة عليه. وهذه مسؤولية قحت والتجمع وبقية القوى التى عليها ان تفيق من غيها قبل فوات الأوان. فالجيل الذى لا يخشي الموت قادر على صناعة الموت أيضا اذا وصل حالة الياس من الطرق الأخرى ،ويجب ان تتحمل قحت والتجمع من الان مسؤولية ما قد يحدث ان فشلت فى تحقيق تطلعات الجيل المتمرد الثائر الذى لا يهاب الموت.
[email protected]