د. فيصل عوض حسن
في حَالةٍ يُمكن وصفها باللُطْفِ الإلهي، فَضَحَت السيِّدة وزير خارجيَّة السُّودان ودون قَصْدٍ منها، استهتارها و(تضليلات) رُؤسائها ورُفقائها في ما يخص سَدَّ النهضة وأخطاره، إذ قالت في لقائها مع قناتي (العربية والحَدَث) يوم 5 يونيو 2020: لابد من وجود (دراسات) لآثار السد السَّالِبَة، و(تبادل) المعلومات حول (كِمِّيات) المياه القادمة من إثيوبيا، وذَكَرت بأنَّ هناك قضايا (فنيَّة عَالِقَة)، يُمكن حَلَّها (إذا حَسُنَتْ النَّوايا)!
أجْزِم بأنَّ هذه الإقرارات الخطيرة (غير مقصودة)، إذ ظَلَّ حُكَّامنا السَّابقون والحاليُّون و(أزلامهم) يُضلِّلوننا، بإظهار فوائد (وَهْمِيَّة) لهذا السَّد، وإخفاء سلبياته و(الثغرات) القاتلة في اتِّفاقِيَّته. وآخر تلك التضليلات، بيان وزارة الرَّي بتاريخ 28 مايو 2020، الذي نَفُوا فيه ما نَشَرَته بعض الصُحُف، بشأن اتساع الخلاف حول استئناف المُفاوضات عموماً، و(تَمَسُّك) وزير الرَّي الإثيوبي بمضامين اتِّفاق المبادئ المُوقَّع، بين الدول الثلاث عام 2015 خصوصاً. حيث سَعَت وزارة الرَّي السُّودانِيَّة في بيانها المذكور، لافتعال صِراع جانبي مع إحدى الصُحُفْ، التي نَقَلَت الخبر عن الصحيفة الأصل، مع (بَتْرْ) الأجزاء الأخطر من الخبر، و(جوهر) تصريحات وزير الرَّي الإثيوبي، واختزلت الوزارة الموضوع في نقطة انصرافِيَّة، هروباً من افتضاح (تضليلات/أكاذيب) حُكَّام السُّودان السَّابقين والحاليين، ومُمثِّليهم في اللجان والوفود ذات العلاقة بسَدِّ النَّهضة.
بالعودة لأصل الخبر الذي نَشَرَته العربي الجديد في 28 مايو 2020، نجد تأكيد وزير الرَّي الإثيوبيّ على تنفيذهم الحرفي لنَصَّ المَادَّة الخامسة من اتِّفاقِيَّة سَدِّ النَّهضة، والخاصة بمبدأ التعاوُن في الملء وإدارة السد، وأنَّهم (يحترمون) مُخرجات التقرير النهائي للجنة الخُبراء الدوليَّة، التي تمَّت الاستعانة بها قبل أربعة أعوام! كما أكَّد الوزير على إمكانِيَّة الاتفاق على الخطوط الإرشاديَّة وقواعد التشغيل السنوي، بالتوازي مع الملء الأوَّل للسدّ، تبعاً لاتفاق المبادئ الذي (يُجيز) لإثيوبيا إعادة ضبطها من وقتٍ لآخر، مُوضِّحاً أنَّ الإخطار المُسبق الوحيد (المُلْزِمْ) لإثيوبيا ضمن الاتفاق، هو إخطار دولتي المَصَب، بأي ظروفٍ غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعمليَّة تشغيل السدّ.
تصريحات وزير الخارجِيَّة السُّودانِيَّة ووزير الرَّي الإثيوبي، تُؤكِّد أنَّ السُّودان (الأرض/الشعب) في ورطة حقيقيَّة بسبب هذا السد. ففي الوقت الذي يَسْتَدِلُّ فيه الإثيوبيُّون بالنُّصُوص، والاتِّفاقيَّات المُوثَّقة و(المُلْزِمَة) دولياً وإقليمياً، يتعامل حُكَّام السُّودان ومُمثِّليه بـ(حُسنِ النَوَايا)، وغيرها من العبارات الفضفاضة غير المُعترَف بها على الصعيدين الدولِي والإقليمي! فقد أقَرَّت وزير الخارجِيَّة السُّودانِيَّة (صَرَاحةً)، بعدم وجود (دراسات) لآثار السد السالِبة، وهذا يَدْحَضْ جميع الآراء السَّابقة والحالِيَّة عن (سَلَامَة) السد، إذ كيف تأكَّدوا منها في ظل غياب الدراسات المَعنِيَّة؟! كما يعني هذا الإقرار الخطير، أنَّ جميع الآراء بشأن (فوائد) السد الخُرافِيَّة، مُجرَّد (أقاويل) دون أساس علمي رصين، أو سند قانوني واضح و(مُوثَّق)، حيث اتَّسَمَت جميع بنود الاتفاقيَّة المُوقَّعة عام 2015 بـ(الضبابيَّة)، وخَلَت تماماً من أي نُصوص (تُلْزِم) إثيوبيا أو تُؤكِّد مسئوليتها، عن تأمين وسلامة السد والتعويض عن مخاطره، أو حجم الكهرباء وأسعارها وغيرها من المُتطلَّبات!
فالمبدأ الثالث للاتِّفاقِيَّة، والخاص بتسبيب الضرر، لا يحتوي على أي (نَصْ واضح)، لتعويض الدولة (المُتضرِّرة) من الدولة (المُتسبِّبة) في ذلك الضرر كأمرٍ (مُلزم)، وتمَّت تثبيت صيغة ضبابيَّة هي: “مُناقشة التعويض كُلَّما كان ذلك مُناسباً”! كذلك الحال خَلا المبدأ الخامس الخاص بالتعاوُن في المَلءِ الأوَّل وإدارة السد، من عبارة (إلزام) وتمَّ تثبيت مُفردة (إحترام)، المُخرجات النهائيَّة للدراسات المُشتركة المُوصي بها، مما يعني (عملياً) صعوبة تنفيذ تلك (المُخرجات) أو التَهَرُّب من تنفيذها، وهذا ما قاله بالظبط وزير الرَّي الإثيوبي أعلاه، وشتَّان ما بين (التزام) قانوني وبين (احترام) وجهة نظر/توصية غير مُلْزِمَة! والمُصيبة أنَّ البند أعطى إثيوبيا (كلَّ الحق) في ضبط قواعد التشغيل السنوي دون الرجوع لدولتي المَصَب، وإنَّما فقط (إخطارهما) بالأسباب التي إستدعت ذلك! كذلك الحال بالنسبة للبند السادس، الذي لم يتضمَّن (التزام) إثيوبيا بإعطاء السُّودان كهرباء أو (حجمها) أو (سعرها)، أو مسئوليَّة (إنشاء) خطوط نقلها داخل السُّودان! وتَحاشى البند العاشر الخاص بالتسوية السَلْمِيَّة للمُنازعات، مسألة (التحكيم) تماماً لكونها (مُلْزِمَة/نهائِيَّة)، وتَمَّ تثبيت عبارة (يُحال لرُؤساء الدول)!
هناك أيضاً إشكالِيَّة حجم التخزين بسدِّ النَّهضة والبالغ (74) مليار متر، والذي يتناقض وآراء الكثير من المُختصِّين، الذين أوصوا بتخفيضها لنحو (11) مليار، وهو الحجم الذي وضعته إثيوبيا في إستراتيجيتها القوميَّة منذ أوائل الستينات! كما يتناقض هذا الحجم مع الأضرار المُتوقَّعة لتخزين الـ(74 مليار)، تبعاً لرأي اللجنة الثلاثيَّة المدعومة بخُبراء دوليين في مايو 2013، خاصَّة مع عدم التأكُّد من (سلامة) السد، والجهل بآثاره البيئيَّة والإجتماعيَّة والإقتصاديَّة، لعدم وجود دراسات من أصله وفق إقرار وزيرة الخارجِيَّة أعلاه، والتي أقرَّت أيضاً ولأوَّل مَرَّة بحقيقةٍ أخطر، هي عدم معرفة (حجم) المياه الواردة للسُّودان (حِصَّتنا المائيَّة)! وهذا ما ذكره وزير الرَّي السُّوداني، في سياق حديثه للتليفزيون يوم 6 يونيو 2020، حيث أكَّدَ على “ضرورة تبادل بيانات (مُستويات) المياه والتخزين بين السُّودان وإثيوبيا، تبعاً لتأثير سد النهضة على خَزَّاني الرُصِيْرِصْ وسِنَّار، مما يجعل الاتفاق (أوَّلاً) على مبادئ الملء الأوَّلي مهم”، وهذا إقرارٌ خطيرٌ جداً، أجزم أيضاً بأنَّ الوزير لم يقصده، وإنَّما جاء إقراره هذا كرحمةٍ إلهيَّةٍ بالسُّودانيين (المُغيَّبين)!
القضايا الدولِيَّة والإقليميَّة المصيريَّة كسدِّ النَّهضة وغيره، لا تُحَلْ بـ(التضليل) الذي يُمارسه حُكَّام السُّودان، بشأن سَلامة السد غير المسنودة علمياً، أو فوائده غير المُثبَّتة في اتِّفاقيَّاتٍ مُوثَّقة، أو بالأقاويل (المُسْتَهْتِرَة) مثل “إذا حَسُنَتْ النَّوايا” أو “أخت بلادي”، وغيرها من العبارات الفضفاضة، وإنَّما تُحْسَمْ بـ(النُصوص) القانونِيَّة الواضحة والمُوثَّقة. وهذا ما سَعَيْتُ لتوضيحه في مقالاتٍ عديدةٍ، كمقالة (حصَّة السودان في مياه النيل قُرباناً لقيام سد النهضة) بتاريخ 16 مارس 2015، و(لهم من سَجَمْ البشير نصيب) بتاريخ 25 مارس 2015، و(ملامح الاتفاقية الإطارية لسد النهضة ومآلاتها) بتاريخ 28 مارس 2015، و(سد النهضة وفبركات المُتأسلمين) بتاريخ 3 أبريل 2015، و(سَدُّ النَّهْضَةِ: تَضِلِيْلَاْتٌ وَمَخَاْطِرْ) بتاريخ 8 مارس 2020. بجانب الورقة التحليليَّة الشاملة (أوضاع السودان الراهنة: التحديات وملامح التأهيل وإعادة البناء) بتاريخ 28 أغسطس 2015، وورقة (صِنَاْعَةُ اَلَمُتَأَسْلِمِيْنَ لِلْأَزَمَاْتِ فِيْ اَلْسُّوْدَاْنْ: اَلْنَتَاْئِجْ وَاَلْمُعَاْلَجَاْتْ) بتاريخ 28 نوفمبر 2016، فضلاً عن مُدَاخلتي في ندوة السدود التي أقامتها حركة كوش، في نيويورك بتاريخ 13 فبراير 2016، وغيرها الكثير.
الواضح أنَّ هناك (تضليلٌ) كبيرٌ، لإخفاء مَخاطر سَدِّ النَّهضة على السُّودان (الأرض/الشعب)، وإظهار مزايا (وَهْمِيَّة) لا وجود أو سند علمي وقانوني لها. وهذه الحقيقة يُمكن اكتشافها بمُراجعةٍ مُتعمِّقةٍ، لبنود وثيقة السَد المُوقَّعة فعلياً، والتي خَلَت تماماً مما يُثبت أي فوائد للسُّودان، أو (ضمانات) لسلامتنا، أو (التزام) بتعويضنا عن الأضرار، ومن يقول غير هذا فليأتينا باتفاقِيَّةٍ رسميَّةٍ مُوقَّعةٍ ومُعتمدة تحوي ذلك، حتَّى نَحْسِم الأمور بالقانون دون مُفاوضات/رجاءات! ومن الأوْجَبِ على السُّودانيين الاهتمام ببلدهم (السُّودان) فقط، وعدم الاصطفاف خلف هؤلاء أو أولئك، وبعبارةٍ أكثر وضوحاً، فَلنَتْرُك مسئولِيَّة الدفاع عن إثيوبيا ومصر لشعوبهما، ولنهتم نحن بدولتنا (المنكوبة)!
نحن لسنا (وُسطاء) للإصلاح بين إثيوبيا ومصر، وإنَّما طَرَفٌ أصيلٌ مُهدَّدٌ بهذا السد الكارثي، ونحتاجُ لـ(تضمين/تثبيت) بنود قانونِيَّة واضحة وصريحة، لحفظ حقوقنا وضمان سلامة بلادنا، لأنَّ القانون لا يُقِر بـ(حُسْنِ النَّوايا) والكلام الشفاهي، وإنَّما يعترف فقط بالنُّصوص الجامِعَة/المَانِعَة. ولنتعلَّم من وزير الرَّي الإثيوبي، و(تَدَثُّره) بالاتفاقِيَّة المُوقَّعة فعلياً، والتي قد يستخدمها ضد السُّودان إذا حدث ما لا تُحْمَد عُقباه، ولنتذكَّر التعديات الإثيوبِيَّة والمصريَّة المُتزايدة على أراضينا، وغيرها من الأمور التي أوضحتها في عددٍ من المقالات، آخرها مقالتها (السُّوْدان والاحتلالُ الأجنبي) بتاريخ 1 يونيو 2020.
من السذاجة الوثوق مُجدَّداً في حُكَّامنا و(أزلامهم)، بعدما (ضَلَّلونا) واستهتروا بحاضرنا ومُستقبلنا، فلنَتَّعِظ من أكاذيبهم عن فوائد سد النَّهضة، وبالوثيقة الدستوريَّة وغيرها من الأكاذيب التي أغرقونا فيها، مع الفارق بين كل تلك الأكاذيب وبين السد، الذي يُهدِّد بقاء السُّودان من أساسه. وسبيلنا الوحيد يتمثَّل في تعديل اتفاقِيَّة السد، بنحوٍ يحفظ حقوقنا وسلامتنا، ويُعالج الثغرات والاختلالات في اتفاقِيَّة 2015، مع ضرورة طَرْح أي تعديلات على السُّودانيين قبل توقيعها، ولنعلم تماماً بأنَّ السد لو اكتمل بشروطه المُختلَّة الماثلة، فسيكون خِنجراً في خاصرة السُّودان، ومهدداً لسلامته وسيادته الوطنِيَّة.