ألرحمة المهداة والنعمة المسداة رسول الله صلاة الله وسلامه عليه، غني عن صياحنا ونعيقنا وزعيقنا المتواصل الساعي لمناصرته، لقد نصره الله وآزره ووقاه أشر شرور عتاة المجرمين الجاهليين حتى أكمل رسالته المتممة لمكارم الأخلاق، وهو في رحاب العزيز الرحمن ليس بحاجة إلى الحماقات التي يرتكبها المعتوهون هنا وهناك تحت مسمى المدافعة والمناصرة وكف الأذى عنه وعن مقامه السامي في قلوب المسلمين، فالسيرة الشريفة الناظمة لمسيرة حياته الحافلة بالقيم النبيلة لا تستحق أن يمثل الموتورون خط دفاعها الأول، وقبل الوقوف بالسيوف والخناجر المسمومة في وجه من يسيئون إليه علينا أن نواجه أنفسنا بالأسئلة الحائرة والشاخصة أمامنا، ماذا قدمنا من دروس وشروح عن حياته ومماته (ص) لمن لا يعلمون عنه شيئاً، أم أن شبابنا قد استسهل قتل الناس دون التثبت والتحقق من واجبهم المعرفي تجاه النقل الصحيح لتاريخ صدر الاسلام، وتلقين العالمين كيف كان الرسول الكريم يعفو عمّن ظلم وقتل وسحل وأكل الأكباد بمجرد أن أعلن عن دخوله في زمرة الصالحين المهتدين.
ألنبي الأمي خاتم الأنبياء والمرسلين ينادي الخليفتين الأول (أبوبكر) والثاني (عمر) ليصعد المؤذن (بلال) على كتفيهما ليعتلي الكعبة حتى يؤذن في الناس يوم فتح مكة، على الرغم من الوضع الاجتماعي الضعيف الذي لازم بلال أيام الجهل والجاهلية الكبرى، وبرغم تمتع الأثنين الذين داس على ظهريهما بلقب سادات قريش في ذلك الزمان المظلم، كان محمد بن عبد الله مدرسة تمشي على الأرض سلوكاً إنسانياً مشعاً بالنور والطهر والنبل والوفاء، تبول أعرابي داخل مسجده فأراد أصحابه الإجهاز على من أساء إلى رسولهم الحبيب فعلاً وليس رسماً، لكن نبي الرحمة صدهم عن إيذاء الرجل فأجلسه أمامه وقدم له تعاليم الدين في طبق من ذهب الأخلاق فاستجاب مثل الحمل الوديع، زار نبينا الرحيم جاره اليهودي في محبسه فارتعدت فرائص الإسرائيلي من هول الدهشة، لأنه اعتاد على ترك الأذى أمام بيت الحبيب المصطفى صباح كل يوم جديد، فتفاجأ بتسامح وسماحة قلب هذا الجار الأستثنائي وبطيب الخاطر النبوي الذي اجبره على أن يعلن انضمامه لجماعة محمد، بن عبد الله الذي افترش رداءه لتجلس عليه مرضعته حليمة السعدية عندما رآها تفج الجموع فجاً يوم الفتح وهي مازالت عجوز مسنة ضائعة الملامح فيقول للناس (إنّها أُمي).
أليوم العظيم في حياة الرسول الكريم هو اليوم الذي دخل فيه أم القرى فاتحاً، وكان نقطة التحول الكبرى في سيرة ومسيرة القائد الأعظم حينما قالها من موقف سلطة دينية ودنيوية قوية جبّارة (إذهبوا فانتم الطلقاء)، ذات العبارة التي وردت في خطاب الزعيم نلسون مانديلا الذي بعث به إلى أبوعمار رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، الجملة التي إذا قيست بمنظار المباديء الأساسية لحقوق الانسان اليوم لوجدت من الاحترام والتقدير ما لم يجده دستور المنظمة ذات نفسها، ففي يوم الفتح العظيم أسس الرسول الأعظم لأنبل مبدأ سياسي شهدته العصور القديمة والحديثة، حينما منح الأمن والأمان والطمأنينة لأكبر زعيم معارضة بإعلانه الشجاع عن إطلاق سراحه، بل امتد الأمر لأكثر من ذلك بجعل بيت هذا المعارض الكبير ملجأً للخائفين من أنصاره فقال:(ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، وفي أشد اللحظات توتراً على محمد القائد العسكري والمفكر السياسي تجده يترك لجنوده حرية الرأي والتعبير، وخير مثال على هذه الأريحية الوافرة بين الجند وقائدهم تدخل الحباب بن المنذر يوم بدر في قرار يعد من أخطر قرارات الحروب بالقول:(يا رسول الله هذا المنزل انزلك الله إياه فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟)، فيلبي النبي الكريم نداء رأي الحباب.
ألزمان الحاضر ليس هو ذلك الزمان الغابر من حيث الوسائل والضمائر والمقاصد الأخلاقية، فكم من كلمات للحق أراد المرجفون في المدينة أن يدعموا بها الباطل ويدحضوا بها الحق، القتل والذبح من أجل إبطال مفعول ريشة رسام مجرم لا يحقق المأرب، وإراقة الدماء في سبيل كسر قلم ملحد أخرق لن تسهم في حقن سيل مداد كلماته المارقة، فالرسم يجابه بالرسم والقول بالقول والفعل بالفعل والغرطاس بالغرطاس والسيف بالسيف والقلم بالقلم، كما تنص الآية مائة واربعة وتسعون من سورة البقرة :(الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا ان الله مع المتقين)، صدق رب العباد القائل أيضاً:(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)، كل الموجهات القرآنية لا تدعوا إلى ما يسلكه بعض القتلة المأجورين الذين قصد مستأجروهم أن يرسموا صورة مأساوية لرمزية (محمد) ويصبغوها بالصبغة السوداوية المغرضة، إنّ العصبيات المتشنجة المستجيبة للأستفزازات الممنهجة لا يمكنها خدمة جدل الأديان ولا حلحلة مشكلات وقضايا الأوطان.
ألممسكون بالسيوف والبنادق في عواصم ومدن الغرب مرعبين ومهددين لأمن وسلامة المدنيين، لماذا لا يتفرغون للبحث والتنقيح في علوم السيرة النبوية الشريفة ويقدمونها في قالب عصري للشعوب التي يقيمون بين ظهرانيها، تلك الشعوب المدمنة للقراءة والكتابة والرسم والتشكيل والغناء والرقص والضرب على المعازف، لماذا لا يقوم الشباب المسلم المهاجر من موطنه الأصلي بنقل الحقيقة الجميلة والجاذبة عن المباديء الأساسية التي ينبني عليها دين الإسلام – الشهادة والصلاة والزكاة والحج والصوم – وأن أحد أهم اركان دينهم يلزم المسملين على أن يؤمنوا بإنجيل عيسى وتوراة موسى وزبور داؤود؟!!.