د. فيصل عوض حسن
قولُ الحقيقةِ مسئوليَّةٌ أخلاقيَّةٌ وإنسانِيَّة، ينبغي أداءها بِتَجَرُّدٍ وحِيَادِيَّة دون مُوَارَبةٍ أو تجميل، والدفاعُ الدَّائم و(المُغَالَى فيه) عن شخصٍ ما بِحُسْنِ نِيَّةٍ أو بدونها، يجعله صاحب سُلطةٍ مُطلقة، وطَاغِيةٍ مُتَكَبِّر يظلم نفسه والآخرين. فالطُغيانُ ليس فطرياً/مُتأصلاً في النَّفْسِ البشريَّة، والإنسانُ لا يُولَدُ طاغياً، وإنَّما ينشأ (الطُغْيان) في دواخله وينمو، إذا كَثُرَ المَادِحون/المُطَبَّلاتِيَّة حوله، وأيَّدوه وزَيَّنوا (سَقَطاته) وأهوائه، و(أجبروا) الآخرين على قبولها دون تقييم و(تقويم).
المُتابع لما يُسمَّى حَمْلَة (القُوْمَة للسُّودان)، يلحظ انقسام النَّاسِ لقسمين، البعض يرفضون الحَمْلَة استناداً لمُبرِّراتٍ موضوعيَّة، وآخرون يُؤيِّدونها (كَيْتاً في الكيزان)، أي نِكَايَةً فيهم فقط دون إعمال العقل، أو قراءة وتحليل البيئة المُحيطة (داخلياً وخارجياً)، مع (اختزال) الوطن في الدكتور حمدوك وجماعة قحت، ورَبْط (الوطنِيَّة) بتأييدهم وتخوين من ينتقدهم! وبعبارةٍ أُخرى، فإنَّ المُؤيِّدون حصروا الموضوع في (شخصيَّة) حمدوك ونَزَّهُوه عن الأخطاء، وخَوَّنوا/شَيْطَنُوا كل من ينتقده. ولو تَحدَّثنا عن التَبَرُّع، فلا اعترض لي عليه سواء المادِّي أو العَيْنِي، لأنَّه قِيمَة إنسانِيَّة وأخلاقِيَّة عظيمة، ولا اعتقد أنَّ أي إنسان (سَوِيْ) يرفضه، ولكن الأوطان لا تُبنى بالهِباتِ/التَبَرُّعات، وإنَّما باستراتيجيَّاتٍ وخِططٍ وبرامجٍ/سياساتٍ رصينة، وتهيئة الموارد البشريَّة (المُؤهَّلة/الكفوءة)، وهذه (ادِّعاءاتٌ) يتباهى بها مُؤيِّدوا الدكتور حمدوك، لكننا لم نَرها (عملياً)! وحتَّى لو تَطَلَّب الأمر مُساهمات/تَبَرُّعات، فتكون بعد استنفاذ (جميع) الفُرَص/الخيارات المُتاحة، ووفق دراسة دقيقة مدعومة بمُؤشِّراتٍ رقمِيَّةٍ موثوقة، ويُعلَن عنها برفقة دعوة التَبرُّع!
أبرز الخيارات/الفُرَص المُتاحة لتخفيف الاختناق الماثل، هي استرداد الأموال/الأملاك المنهوبة، خاصَّةً دَّاخل السُّودان، لأنَّها الأسرع والأسهل حصراً واسترداداً، وستُغني عن حَملات (التَسَوُّل) المُتلاحقة، لكن الدكتور حمدوك (يتغافل) عن ذلك دون مُبرِّراتٍ موضوعيَّة! كما لم يتَّخذ أي إجراءات (عمليَّة/جادَّة) لاسترداد الأموال المنهوبة (الخارجِيَّة) رغم ضخامتها، حيث أوردت جريدة “المدينة” السعوديَّة في 26 أبريل 2019، نقلاً عن ويكليكس، أنَّ عوض الجاز وحده يملك (64 مليار دولار)، وهذا مبلغٌ يُسدِّد جميع ديون السُّودان ويفيض بمليارات الدولارات! فلماذا لم يستخدم الدكتور حمدوك ووزير ماليته علاقاتهما الدولِيَّة/الإقليميَّة (المزعومة) لاسترداد هذه الأموال، بدل إغراقنا في المزيد من الديون و(استجداء) الدَّائنين لإعفائها؟ علماً بأنَّ الوقت/الجهد المُستَهْلَك لاسترداد الأموال المنهوبة (الداخليَّة/الخارجِيَّة)، أقلَّ من التفاوُض مع صندوق النقد وبقيَّة الدَّائنين، ودون تهديدٍ لسيادتنا الاقتصاديَّة والسياسيَّة!
ثُلُثَ قرنٍ من الزمان، والمُتأسلمون (يَتسَوَّلون) حتَّى أفقدونا كرامتنا/سيادتنا، وهذا كان أحد الأسباب الرئيسيَّة لاقتلاعهم، فلماذا يُصِر الدكتور حمدوك على نهجهم المُخزي؟ وأين قُدراته/مهاراته (الأُسطُورِيَّة) التي يتباهى بها أزلامه؟ لماذا لا يطَرْح سَنَدَات للشعب السُّوداني، يدعم بها خزينة الدولة، ويحفظ أموال النَّاسِ وكرامتهم و(كرامته)؟! علماً بأنَّهم فتحوا في مارس الماضي/2020، حسابين في البنك المركزي، باسم (دولار/جنيه حمدوك)، لتلقِّي التَبَرُّعات المحليَّة والخارجِيَّة، والآن يطلبون من الشعب التَبَرُّعِ مُجدَّداً، دون إعلامنا بنتيجة/تفاصيل حملتهم السابقة! والمُصيبة الكُبرى، أنَّ الدكتور حمدوك (أقرَّ) صراحةً بأنَّه لا يملك سُلطة على البنك المركزي، فكيف يُخصِّص حسابات للتَبرُّعِ، في أقلَّ من شهرين، ببنكٍ خارج سيطرته؟! هذا بخلاف حديثه السابق، هو ووزير ماليته، عمَّا أسموه صندوق الوديعة الدولاريَّة، والمِنَحْ/الهِبَات التي تَلقَّوها من الاتحاد الأوروبي وألمانيا وبعض المُؤسَّسات العربيَّة والدولِيَّة، وهي مُعطياتٌ تُثبت (كَذِب/تَخَبُّط) حمدوك وجماعته!
مِنَ المَعِيبِ والمُرِيبِ (تَجَاهُل) الدكتور حمدوك لمطابع العملة، وتَرْكِها للكيزان رغم خطورة ذلك، ثُمَّ (التَباكِي) على ارتفاع التَضَخُّم وتَرَاجُع الجنيه، وتَآكُل رصيد الدولة من العملات الحُرَّة، التي يلتهمها المُتأسلمون وأزلامهم، بالأموال التي يتلقَّونها بلا حسابٍ/رقابة من مطابع العملة! وبدلاً عن انتقاله من فشلٍ/خزيٍ لآخر، لماذا لم (يُطَهِّر) مطابع العملة من المُتأسلمين، خاصَّة وأنَّه (يتظاهر) بتفكيك الكيزان كما يزعم؟ ولماذا يَتلكَّأ في خطوات تغيير الجنيه، وتقنين تَدَاوُله المحلي (حجم الكُتلة المُتداولة)؟! ومتى سيُصدِر قوانين رادعة وفوريَّة ضد المُضاربين في العملات، كالإعدام ومُصادرة الأملاك؟! ثُمَّ أليس من المَعِيبِ والمُريب، إقرار وزير ماليَّة حمدوك بضياع 250 كيلو ذهب يومياً، ثُمَّ يُشرف وبلا حياء على فضيحة شركة الفاخر؟! ما الذي يمنع إنشاء شركة (مُساهمة) عامَّة مملوكة للدولة، تُشرف على جميع مواردنا المضمونة، كالذهب والثروة الحيوانِيَّة والسمسم وزهرة الشمس والفول والصمغ، وتعيين كفاءات (حقيقيَّة) مُسْتَقِلَّة لإدارتها؟!
قد يَتَحَجَّج (بعض) الغافلين و(آكلي الفِتَاتِ)، بقُوَّةِ العَسْكَر والكيزان، أو الدولة العميقة كما يحلوا لبعضهم الوصف. وفي هذا أقول، بأنَّ الدكتور حمدوك ارتمى في أحضان العَسْكَرْ منذ البدايات، ويعمل على (شَرْعَنتهم) دولياً/إقليمياً، استكمالاً لخيانة القحتيين الذين (شَرعَنوا) العَسْكَر محلياً. وبدلاً عن التَنازل للعسكر والتغاضي عن جرائمهم المُتواصلة، كان على حمدوك أن يكون صريحاً وأميناً مع الشعب، الذي سيحميه بمثل ما أتى به لهذا المنصب. وأمَّا (فَزَاعة) الكيزان التي يُرهبون بها النَّاقدين، ويَتدثَّرون بها لتغطية (الانحطاط/الفشل) فهي مردودة، لأنَّ الكيزان هم الذين طرحوا حمدوك على الشعب السُّوداني، وهو أصلاً لم يُناهضهم ولو بمُجرَّد تصريح، وغاب تماماً طيلة عهدهم الظلامي البالغ ثُلُث قرن. وامتدَّ (تَراخِيه) معهم حتَّى عقب إعلانه رئيساً للوُزراء، حيث ترك لهم الأملاك التي نهبوها من الشعب ولم يُصادرها منهم، وتَغَافَل عن سيطرتهم على (جميع) المُؤسَّسات الحَيَوِيَّة/المُؤثِّرة! أمَّا تمثيليات (التفكيك) الهايفة، فشَمَلت وظائف مُحدَّدة (غير مُؤثِّرة)، وجميعنا شاهدنا كيف عَيَّنهم العَسْكَر في وظائف (أكبر) من التي كانوا يتقلَّدونها، وهي في مُجملها مُعطياتٌ تجعل حمدوك (حبيباً) للكيزان وليس العكس!
جميع المُمارسات (العمليَّة/الفعليَّة) للدكتور حمدوك، تُؤكِّد عدم أمانته/صدقه مع الشعب، حيث (ادَّعى) عقب إعلانه رئيساً للوزراء، بأنَّ لديه برنامج اقتصادي مبني على الإنتاج وليس (القروض/الهِبَات)، وعدم تصدير المواد الخام إلا بعد تصنيعها، و(التزم) بمُعالجةِ التَرَهُّلِ الإداري، واعتماد (الكفاءة) معياراً للاسْتِوْزَار، وتحقيق التَوَازُن (الاسْتِوْزَاري) بين مناطق/أقاليم السُّودان، وتعزيز الشفافِيَّة ومُحاربة الفساد، وبناء دولة القانون والعدالة، وإصلاح/تحسين الخدمة المَدَنِيَّة. ثًمَّ أعلن فجأة، بأنَّه ينتظر برنامج/خِطَّة الفترة الانتقالِيَّة، من جماعة (قحت) ليُنفِّذه، وسَايَرَه القحتيُّون في (التضليل)، وأعلنوا في 16 أكتوبر 2019 عن تسليمه، ما أسموه البرنامج الإسعافي والسياسات البديلة! بخلاف الغموض المُصاحب لـ(تضخيمه) الأُسطوري، و(تَباحُثاته) ووزير ماليته (السرِّيَّة) مع صندوق النقد، حسب زعمهما المُوثَّق، وعلاقاتهما المشبوهة مع بعض الجهات الخارجِيَّة، كالتي رَعَت مُؤتمر شاتام هاوس بالخرطوم شهر أكتوبر الماضي، بمُشاركة بعض رموز الفجور الإسْلَامَوي. وزياراته المُكلِّفة (غير المُجدية) ونتائجها السالِبة، كزيارته لأمريكا التي ذهب إليها (دون دعوة)، وجاءنا ببلوة تعويضات أُسَرْ ضحايا عمليات إرهابِيَّة لا علاقة لنا بها كشعب!
هذه نماذج لأحداث/مُعطيات (مُوثَّقة)، تدفع كل ذي عقل للرِّيبةِ في حمدوك وتَوَجُّهاته، لكن الكثيرين (خائفون) من تخوين آكلي الفِتاتِ و(سَقَطِ) المَتَاع، وهذا أمرٌ يضرُّ بالسُّودان وأهله، ويُفضي لمآلاتٍ كارِثِيَّة باهظة التكاليف، ويتقاطع مع أهداف الثورة التي أتت لتغيير (المفاهيم)، وطُرُق وأساليب التفكير والمُمارسات. فالشعب حينما خرج للشوارع ثائراً، لم يَسْعَ لاستبدال طاغِية بآخر، والتصفيق لهذا بدلاً عن ذاك، وإنَّما سَعى لترسيخ ثقافة وقِيَمْ العدل والحُرِّيَّة والكرامة وعِزَّةِ النَّفس، واحترام الآخر وعدم (تقديس/تنزيه) الأشخاص، أو تحصينهم مهما كان المُبَرِّر. ومن المُحزِن، استمرار ثقافة (القطيع) والإنجرار والتَبَعِيَّة (العمياء)، وتكميم الأفواه وتخوين المُخالِفين وتهديدهم وَوَصْمَهم بـ(الكَوْزَنة) وغيرها، لمُجرَّد رفضهم للوِصايةِ والانقياد والصمت على التجاوُز والانحطاط!
ليعلم القَحتيُّون بأنَّ وَصْمَهم لمُخالِفيهم بـ(الكَوْزَنة) مَردودٌ على جماعتهم الانتهازِيَّة، لأنَّ القحتيين سبقوا الجميع بـ(التآمُر) مع الكيزان، وهم الذين (رَوَّجوا) لما يُسمَّى 2020 والهبوط النَّاعم، وكانوا ينتقدون الثورة والثُوَّار، وجميع مَسَاخِرهم مُوثَّقة. والتحاقهم بِرَكْبِ الثورة استهدف (تعطيلها/تحجيمها) لصالح الكيزان، الذين ارتعبوا وفقدوا تَوازُنهم عقب الانتشار الثوري السريع، وكان بالإمكان القضاء عليهم نهائياً، لولا (الغَدر) القَحتي المفضوح! ولنسترجع (استهبال) فُجَّار قحت، ومُفاوضاتهم (السِرِّيَّة) مع العَسْكَر، وسفرياتهم (الخِفِيَّة) والمُخزِية للإمارات وغيرها، وتلميعهم (المُفاجئ) لحمدوك ثُمَّ غدرهم و(خيانتهم) المُركَّبة بمُقاسَمَة العَسْكَر، وإفشال جهود الملايين الذين خرجوا في 30 يونيو، غضباً على مجزرة القيادة، ثُمَّ اكتمال الغدر القحتي بالوثيقة الدستوريَّة (مُتعدِّدة النُسَخْ)، وهذه المُعطيات تَدفع (الأسوِياء) لطأطأة رؤوسهم حياءً، ولكن القحتيين منزوعي الحياء والإحساس!
أبرز مفاهيم ومُتطلَّبات الحُرِيَّة والانعتاق، أنَّ الحكومة (خَادِمَة) للشعب وليس العكس، وأفرادها غير مُنَزَّهين أو معصومين من الخطأ، وأنَّ الشعب ليس قطيعاً من الأغنام يُسَيِّرونه كما يشاءون، فلنمنع صناعة الطُغاةِ والمُسْتَبِدِّين، ومن غير المعقول/المنطق إعادة (تفريخ) الطُغَاة والمُستبدِّين، عقب التضحيات العظيمة التي قَدَّمها الشعب لاقتلاع وإزاحة جَبَابِرَة المُتأسلمين وفُجَّارِهِم.. وللحديث بَقِيَّة.