محمد أبكر
ربما الكل يعرف ويدرك على وجه الكفاية بأن إشكالية الإنسان الأولى – وهو على أديم الأرض – لهي السعي والجهد الكبير لفهم وإستيعاب الكيفية التي بها يقدر على الإمساك بتلابيب لوازم تأمين وجوده ومتطلبات وجوديته ، فضلاً عن ضمان موجبات كريم العيش، وسهولة الحياة ووضوح المصير، وسيما تلك التي تتعلق بإشباع الذهن وإعمال العقل وكبت جماح الفضول وإسكات صياح غريزة الإستطلاع والبحث والسعى نحو المعلومية والمعرفة وأعمال الحكمة.
ولما كان العقل هو المناط بعمل وتفعيل كل ذلك وأكثر فقد فعل أفاعيله الجهيدة وعمل حراكه الحثيث; فإكتشف هذا الإنسان الأشياء الكثيرة والموجودات الجمة نحو الشئ المذهل والعظيم; فإذ بين كل ذلك خلق وإكتشف ظواهر ومظاهر متعددة ضمنها :العقل ثم الخطابة فالقراءة والكتابة بأنماطها المتمايزة، فضلاً عن ظاهرة الطباعة بألوانها المغايرة ثم وسائل الإتصال وتقنيات الإعلام المختلفة.
وعندما نرجع إلي مبتدى نشوء الصراع بين القلم(الإعلام) والزناد( السلطة)، فنجد أنه قديم الزمان; فإذ مذ نشوء الظاهرة السياسية والإتصال السياسي بإقتران مصطلح السلطة( بالمفهوم السياسي والدستوري) في مقابل نشوء مفاهيم الإتصال ومقولات الإخبار ومصطلحات الإعلام وترميزات الخطاب وإحالات النصية ولوازم النقد. فمن ذلك الحين كانت البداية لحضور الصراع بين القلم والزناد ضمن مجموع صراعات الأضداد، ونزاعات التناقضات في إطار الشخصية الإنسانية ككلية مجردة.
فالقلم – كما هو معلوم- لهو مناط التعقل والدراية والفهم والقراءة، ولازمة الإستقراء والتأويل، ومطلب العلم والحكمة، بينما الزناد – بمقصود قمة ممارسة السلطة السياسية في الإكراه والقمع- لهو أداة الإقصاء من الوجود، والإبعاد عن الحياة، وتهميش حق البقاء موتاً; وبالتالي فالإعلام يرنو نحو الإخبار والتنوير والتوعية والإدراك، في حين سلطة الزناد واجبها التجاهل الوجودي قتلاً – فى أقصى حالات التهميش – ورفد أنهر الدماء والدموع وحرث سهول الأحزان والجراحات، علاوةً على مقاربة أوجه التسلط والتظلم والإغتيال والموت.
فالإعلام يسعى إلي إخبار الناس وإستنارتهم وتوعيتهم، بينما الرصاص يجتهد نحو تكبيل تلك الأقلام وقمعها، وتسطيح ثقافة تقديس الحياة، وتضليل الأرواح عن غريزة البقاء، وتغليف الأدمغة عن إحترام الوجود مقابل إستهواء العدم.
ولكن تبقى قوة القلم وأثره وتأتيره وردة فعله أكبر مما يمكن أن يفعله سحب الزناد رغم سرعته الضوئية; فبالقلم – الذي هو مناط الإعلام ووسيلة البحث والتخاطب المقروء – سقطت أعتى الأنظمة وذهبت أقوى الحكومات، وأُقِيل أكبر الزعماء والجبابرة، وقُتل أصد الطغاة وغُيبت أكبر أوجه الدكتاتورية والإستبداد والشمولية.
فليس بعيداً عن التاريخ – مثل قضية نيكسون،و معلولية حرب العراق وفتنام و إحالات الصراع الإسرائيلي والفلسطيني في (١٩٤٧م) وبعض الإلتماسات هنا وهناك – ; حيث يرجع قيام ما يسمى بــ”ثورات الربيع العربي2011- …م” – علاوةً عن أسبابها الوجودية والسياسية والإجتماعية والثقافية – إلي الدور العظيم الذي قام ولا يزال يقوم به الإعلام نحو تنوير الشعوب، وتوعية الناس وإستنهاض هممهم، وتشحيذ العقول إلي النهضة والثورة والتغيير، فضلاً عن تأمين لوازم كريم العيش، وضمان أنساق المواطنة; فالثورة التونسية وُجدت عن إرادة التغيير وتأمين أكثر لرخاء الحياة والإستنارة الإنطولوجية الكبرى، بينما الثورة الليبية تعود إلي البحث عن الذات والإنعتاق من عبودية الجهالة والشمولية وحكم الطغاة الشمولي، فضلاً عن البحث عن الحضور الوجودي بين الأمم والمساهمة الكافية ضمن التطور الإنساني للشعوب، أما الثورة المصرية ترجع إلي الرغبة في التغيير والإرادة نحو الوعي الأكبر بالحياة والكون ناهيك عن ممارسة السياسة والإجتماع والإقتصاد، في حين تعود الثورة اليمنية إلي إستعادة ضغائن التاريخ، وإعادة صورة الإرض كما كانت، فضلاً عن الرغبة في الإستيعاب السياسي والثقافي والإجتماعي، والوعي الحضاري للبلاد والشعب، بينما العراقية سعياً و بحثاً عن إحالات قوة العلاقة بين الله والإنسان، والأخير بالله، وتمكين صور التدين وأشكال التعبد وألوان الخضوع اللاهوتي، في حين ترجع الثورة السورية – والتي لا تزال،و لم تضع الحرب أوزاراها عندها بعد – إلي البحث عن صورة حياة آخرى، ونمط حكم وعيش آخران، علاوةً على الرغبة في الإمساك بتلابيب الشخصية الشئ الكافي، وهذا ناهيك عن بعض شرارات نشوء الثورة في السودان والأردن ولبنان والسعودية وبلدان آخرى،وهذا الأخير – السعودية – لا يزال في طور التخطيط العلماني البطئ، والمنهجية الزمنية التي تحتاج إلي قدر كبير من الوقت والجهد والإجتهاد والعمل لقيامها، والتي حين تقوم ستكون ذي دوي أكبر، و ذات إحالات غير محسوبة وتحولات غير مقدرة.
وبالتالي فقد لعبت ولا تزال تلعب وسائل الإعلام بأنماطها المغايرة وتقنياتها المختلفة أدواراً عظيمة في قيام نهضة المجتمعات ونشوء الثورة، فضلاً عن توجيهها ورعايتها والأخذ بيدها نحو المقصد المرجؤ، والهدف المخطط له…
وهكذا فمهما تفعل الأنظمة القمعية على ظهر الشعوب، وتكميم أفواه الإعلام الحرة; كُتابها مصادرها ومديريها، ومصادرة أنساقها وصياغاتها المقروءة وتعديل قوانينها، فإنها تبقى عاجزة عن شلها وإغتيالها وقتلها عن الوجود، ذلك لأن الإعلام ظاهرة أنطولوجية بالأساس لا يقدر أي نظام أو حكومة أو حزب أن يوقف سيرورته ويشل حركة صناعته ولوازم وجوده; فبالقلم الإعلامي إستطاع الإنسان الذهاب شاواً بعيداً نحو الرُقي الأخلاقي والإنساني والتقدم الحضاري والتطور التقني والتنمية الآجتماعية والوعي السياسي والإنماء الثقافي والتمدن الوجودي.
mabakarm28@gmail.com
* كاتب وصحفي سوداني – الخرطوم