بقلم عثمان نواي
يعتبر يوم 23 أغسطس من كل عام اليوم العالمي لإحياء ذكرى تجارة الرق وذكرى انتهائها، وهو يوم قررته الأمم المتحدة لأنه يوافق يوم 23 آب/أغسطس تاريخ الذكرى السنوية لانتفاضة عبيد سانتو دومينغو (الثورة الهاييتية) التي اندلعت في عام 1791، إذ ثار آنذاك الرجال والنساء الذين استُعبدوا على مستعبديهم في الشطر الغربي من جزيرة سانتو دومينغو، وهو الشطر الذي تسمّى بعد إعلان الاستقلال بالاسم القديم “هاييتي” الذي أطلقه على هذه الأرض سكانها الأصليون. ويُعدّ مطلب الثورة الهاييتية المتمثل في الحرية مطلباً عالمياً لا تحدّه حدود الزمان والمكان. فما زال هذا المطلب الشغل الشاغل للبشر كافة على اختلاف أصولهم ومشاربهم وأديانهم، وما زال صدى صوت المطالبين بالحرية يتردد حتى يومنا هذا بقوة لا يعتريها أي ضعف أو فتور. وبمناسبة هذا اليوم ولكي نتذكر جزء رئيسي من تاريخ السودان الذي لازال يشكل حاضرنا هذه بعض الملامح لتاريخ الرق وانتهاءه في السودان وتأثير نهايته علي مجتمع الملاك في السودان. حيث انه لكي نتقدم نحو المستقبل باتجاه وطن معافي علينا أن نتواجه بشجاعة مع تاريخنا علي علاته ومآسيه واخطاؤه وجرائمه حتي متحرك خفافا نحو مستقبل حر من هذه القيود الذهنية والهقليات التي لم تتحرر بعد من نير الاسترقاق في ماضي قد أفل ووجب طي صفحته في هذه البلاد للأبد بالاعتراف به اولا ورد الحقوق الي أصحابها.
الرق في السودان والطريق لانهائه :
لا توجد احصاءات دقيقة لتحديد اعداد الرقيق فى السودان عند وصول الحكم الثنائى مطلع القرن العشرين, الا ان التقديرات التى يمكن التوصل اليها عبر المقارنة مع دول اخرى تضع الاعداد كنسبة عامة من تعداد السكان بين 20-30% . هذه النسبة قد ترتفع وتنخفض حسب مناطق البلاد المختلفة , حيث ترتفع النسبة فى المناطق الرعوية خاصة لدى رعاة الماشية, حيث يزيد امتلاك الرقيق للخدمة المنزلية وخاصة النساء بشكل كبير, اضافة الى الرجال ايضا الذين يقومون باعمال الزراعة والرعى. اما المناطق النيلية فالنسبة قد تصل النسبة الى 25% بينما تقل قليلا فى المناطق الحضرية والمدن الكبرى بحيث تقدر ما بين 15-20% من اجمالى السكان. هذه النسب اذا ما قورنت بتعداد السكان عند بداية الحكم الثنائى حوالى عام 1903والذى كان يقدر ب 1.9مليون نسمة , فان مئات الالوف من الرقيق كانوا يعيشون فى مدن وقرى السودان المختلفة , ما لايقل عن نصف مليون فى المتوسط. وهذه الاعداد الكبيرة كانت تشكل القوة العاملة الرئيسية, وايضا كانت تشكل مظهر هام للثروة بين النخب والطبقة المتوسطة. كان التحدى للادارة البريطانية يتمثل فى ايجاد ايدى عاملة تسهم فى بناء الدولة المدمرة تماما بعد نهاية المهدية, ولكن الادارة لم تكن تريد التاثير على علاقاتها الجيدة مع شيوخ القبائل والقيادات الدينية والاهلية عبر تحرير الرقيق والذين يمثلون الايدى العاملة الرئيسية فى السودان وقتها. هذا التناقض فى المصالح خلق ما يسمى ” بازمة العمال – labour problem” والتى لها جوانب اخرى متعلقة كما ذكرنا سابقا بالتراجع الكبير فى عدد السكان الكلى, وافراغ مناطق باكملها من سكانها. هذا اضافة الى عامل اخر ثقافى , يتعلق بان المجموعات السكانية فى الشمال النيلى ذات الثقافة العربية تحتقر العمل اليدوى , وانها اعتادت على عمالة الرقيق لفترة طويلة, خاصة فى الاعمال الشاقة. هذا اضافة الى التكلفة الاقتصادية المتدنية لعمل الرقيق بالمقارنة بالعمالة المستأجرة, فالرقيق من اتجاه الحدود مع اثيوبيا الذى يمكن شراءه ب 12 ريال يكلف عمله لعام كامل 2-3 ريال , بينما العامل المستاجر يكلف اكثر من 7 ريال للعام. ولذلك الجدوى الاقتصادية لامتلاك الرقيق كان لا يمكن التغاضى عنها.
لقد ارتبط تحرير الرقيق بالجوانب الاقتصادية, سواءا من جانب الحكومة البريطانية او من الملاك السودانيين. فكما ذكرنا الحكومة احتاجت للعمالة, والملاك ليس لديهم مجال للتنازل عن ممتلكاتهم من الرقيق, ومن ثرواتهم ودخلهم الاقتصادى الاساسى من الزراعة الذى كان يعتمد على عمالة الرقيق باعتبارهم قوة العمل الاساسية. هذا المشهد المعقد اثر بشكل سلبى للغاية على عملية تحرير الرقيق فى السودان, وادى الى اطالة عمر مؤسسة الرق فى السودان. هنالك جانب اخر اثر على تأخير او عرقلة تحرير الرقيق اثناء الحكم البريطانى, وهو الجانب الثقافى والمرتبط ايضا بجانب الحكومة من جهة, ممثلا فى صناع السياسات والمنفذين لها من الادرايين البريطانيين وانحيازاتهم الاخلاقية والثقافية التى تباينت بين مؤيد متحمس لانهاء الرق وبين متحفظ وداعم لاستمرار هذه المؤسسة. اما الاتجاه الاخر للبعد الثقافى لعرقلة تحرير الرقيق , كان مرتبطا بالملاك والنخب السودانية , وارتباط امتلاك الرقيق باسلوب الحياة الاقتصادية والبنية الذهنية للمجتمع فى علاقته بالعمل والانتاج , اضافة للنظرة الدونية للرقيق والتى تضعهم خارج سياق القيم الاجتماعية والاخلاقية. تمثل هذا البعد الثقافى من خلال الادراة البريطانية من خلال السياسة المتأرجحة حول عتق الرقيق فى البلاد. ونستطيع النظر الى مسألة تحرير الرقيق فى السودان من ناحية تاريخية فيما يتعلق بقرارات الادارة البريطانية وتغير اراءها وتوجهاتها عبر تقسيمها الى مرحلتين, المرحلة الاولى تبدأ منذ بداية الاحتلال عام 1898 وحتى ما قبل الحرب العالمية الاولى, والمرحلة الثانية بدأت مع نهاية الحرب.
العالمية الاولى وحتى نهاية الثلاثينيات.
تاثير انتهاء العبودية على المجتمع السودانى
يذكر بيتر ماكلوغلين ” ان الشكل الذى تتخذه العبودية فى اى منطقة من شمال السودان وردود الافعال على انهاء العبودية ترتبط بعدة شروط, منها:
1) ما اذا كانت المنطقة تقوم بالهجوم على مناطق اخرى لصيد العبيد ام اذا كانت هى نفسها يتم الهجوم عليها لصيد العبيد ام الاثنين معا.
2) ما اذا كانت المنطقة تقوم بشراء , ترحيل او بيع العبيد ام تقوم بكل ذلك.
3) ما اذا كان سكان المنطقة من العرب المسلمين , او السودانيين المستعربين ام من السكان ( الوثنيين- حسب الكاتب, يقصد السكان الاصليين من غير المسلمين وغير العرب خاصة فى جنوب السودان وجنوب كردفان)
4) ما اذا كانت المجتمعات زراعية او حضرية او رعوية.
ولكى نتتبع ردود الافعال والاثار على المجتمع السودانى بهذا المفهوم فان تقسيما اخر للمجتمع السودانى نفسه بفئاته المختلفة يقتضيه الموقف, وذلك من اجل فهم تلك الاثار من البعد الاجتماعى والمناطقى الجغرافى او الاقليمى ايضا, وابعاد ذلك على المستوى الاثنى والثقافى فى النهاية. لذلك نحتاج هنا الى تقسيم المجتمعات الى قسمين, وهما:
المجتمعات المصدرة للرقيق وهى :
السودانيين فى جبال النوبة فى مديرية كردفان.
السودانيين فى غرب السودان , والتى اصبحت مديرية دارفور بعد عام 1916.
السودانيين فى الوسط الشرقى مع الحدود مع اثيوبيا ( النيل الازرق حاليا)
النيليين الحاميين والسود وبقية سكان جنوب السودان
السكان على الحدود مع اثيوبيا الحالية وداخل اثيوبيا نفسها.
السكان من كينيا ويوغندا وافريقيا الوسطى والكنغو عبر النيل الابيض والذين كان مسار جلبهم عبر بحر الغزال وبحر العرب )
اضافة الى القادمين من غرب افريقيا فى الطريق الى الحج.
المجتمعات المستقبلة للرقيق وهى :
الرعاة , فى وسط وغرب السودان والعرب رعاة الابل, والهدندوة الرعاة فى الشرق
والمجتمعات المسلمة الزراعية على النيل شمال الخرطوم حتى الحدود مع مصرز
المجتمعات المسلمة الزراعية على النيل الازرق والابيض جنوب الخرطوم.
المجتمعات الحضرية فى الخرطوم وامدرمان.
ان هذا التقسيم يخدم رؤية الوضع السودانى من خلال الجانبين, المستفيدين والمتضررين من وجود الرق, حيث ان الرؤية تنعكس مع تغير الوضع. فالمستفيدين من مؤسسة الرق هم المتضررين الاساسيين من انهائه, كما ان المتضررين من ذات المؤسسة , اى الرقيق, فهم المستفيدين من انتهائها. هذه الصورة المنقسمة للمجتمع السودانى على مستوى الفائدة والخسارة لها ابعاد هامة متصلة بطبيعة مؤسسة الرق السودانية التى تحدثنا عنها فى الصفحات السابقة. تلك الطبيعة التى اثارت جدلا حول انهاء الرق تحت حجج عدة متعلقة بمدى اهمية هذه المؤسسة على المستوى الاقتصادى والاجتماعى والسياسى والثقافى . والاثر الذى افرزته مؤسسة الرق على المجتمع السودانى فى قسميه المصدر للرقيق والمستقبل لهم, شكل ملامح الانقسام والتركيبة المعقدة لعلاقات القوة والسلطة والثروة فى السودان. فعملية انهاء الرق فى السودان لم تكن تتعلق فقط بانهاء تجارة لا انسانية, او تحرير الرقيق ورد اعتبارهم وكرامتهم, بل كانت عملية اعادة تركيب وتشكيل المجتمع السودانى ككل فى الحضر والريف وعلى كل المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والسياسية. لقد شكل انهاء الرق فى السودان مرحلة جديدة , اعادت صياغة الهوية السودانية فى قوالب جديدة اقتضت ادراك التعقيدات التى بنيت عليها مؤسسة الرق نفسها, كما حاولنا دراسة تاريخها وتتبعها هنا منذ دخول العرب السودان واتفاقية البقط وحتى النصف الاول من القرن العشرين. ان العبودية فى السودان لم تكن فقط عادة او ممارسة اجتماعية كما انها لم تكن فقط نشاط اقتصادى, بل كانت احد المحاور الرئيسية التى بنيت عليها علاقات القوة والسلطة فى البلاد. وشكلت الخلفية الثقافية لتكوين الهوية السودانية على اسس منقسمة عبر حدود المجتمع والجغرافيا والثقافة والدين وعلاقات الانتاج. لذلك العبودية التى صنعت الثروات لبعض المجتمعات السودانية ووفرت لهم الراحة والمكانة الاجتماعية الراقية, وضمنت لهم البقاء بين نخبة المجتمع و” سادته” , كانت هى اَلة وحشية للتدمير والقتل والتشريد وانتزاع الشرف والكرامة وافتقاد الحرية وابسط الحقوق الانسانية لمجتمعات اخرى وعلى مدى قرون. ولان الاخيرين كانوا مجرد عبيد , فلم يكن لهم من الحول او القوة فى اغلب الاوقات ما يتمكنون به من العمل لاجل تحرير انفسهم بشكل كامل, ولكن عملية تحريرهم وجدت مقاومة كبيرة من الملاك المستفيدين من الرقيق.
مقاومة تحرير الرقيق
لقد خشيت الحكومة البريطانية بشدة كما ذكرنا , من ان يقوم ملاك الرقيق بثورة ضدهم اذا ما قاموا باصدار قرار مباشر بعتق كل الرقيق, وعبر عن ذلك الادارى جاكسون بقوله:” جميع السكان العرب قد يثورون ضد ما يعتقدون انه ظلم كبير, لانهم فى نهاية الامر قد اشتروا رقيقهم ودفعوا اثمناهم.” كما ان السادة من الملاك لم يسكتوا ايضا فقد قام الممثلين الاساسيين للمجتمع السودانى الشمالى من القادة الدينيين الثلاثة الكبار, السيد عبد الرحمن المهدى وعلى الميرغنى والشريف الهندى بدورهم فى مقاومة القرار الذى صدر بعتق الرقيق فى عام 1925. والذى اعتبر كل مولود بعد عام 1898 حرا بالضرورة, ولا يحق لاحد بالمطالبة به كملكية. الا ان اوراق الحرية كانت تمنح قبل ذلك بفترة طويلة , ولهذا استثير السادة وطالبوا الحكومة باعادة النظر فى سياستها لاسباب امنية واخلاقية واجتماعية. وحاولوا تبرير موقفهم بكونهم حادبين على امن البلاد ومصلحة الحكومة, وعلى اهمية نجاح مشروع الجزيرة الذى يحتاج للايدى العاملة, والتى لا يمكن ان تكون الا من خلال الرقيق, منبهين الى ان تحريرهم سيعطى الارقاء السابقين حرية لا يقدرون قيمتها . وقالوا ان اوراق الحرية كانت تمنح ” لاشخاص يعتقدون ان تلك الاوراق تضمن لهم ” التحرر” من اى مسؤوولية للعمل او تحمل الالتزامات الواجبة عليهم.” ان مذكرة السادة التى بعثت لمدير المخابرات كانت تعبر عن صوت المجتمع السودانى الشمالى عبر ممثليه الشرعيين والمتفق عليهم فى ذلك الوقت, فهؤلاء السادة هم ذاتهم الذين سافروا فى نفس العام الى بريطانيا وقابلوا الملك معبرين عن ولائهم الكامل للمملكة ومهنئين بريطانيا على نصرها فى الحرب العالمية الاولى باسم كل السودانيين.
على مستوى اقليمى وفى مناطق مختلفة جرت احتجاجات متعددة على عتق الرقيق منها احتجاج فى ابوحمد فى عام 1924, حيث حاول ملاك الرقيق الهجوم على الادارة المحلية مطالبين باستعادة رقيقهم المحررين. وفى دار معالى جنوبا طالب المزارعين الحكومة البريطانية بايقاف موجة تحرير الرقيق وفرارهم اواعطاء المزارعين اعفاءات ضريبية فى المقابل. و فى تلودى ايضا قامت ثورة عام 1906 كان احد اهم اسبابها اظهار الغضب من منع الحكومة للعرب الرعاة من الاغارة على جبال النوبة, وارغام الحكومة لهم لاعادة 120 من النوبة من الاطفال والنساء الذين كانوا قد اختطفوهم فى غارة فى العام السابق. وهناك جانب اخر اكثر اهمية لتلك المقاومة لانهاء الرق فى السودان, وهو استمرار الاتجار فى الرقيق, واستمرار الغزوات والهجوم على مناطق مختلفة. كما ان الاحكام بالسجن والاعدام احيانا على بعض التجار المدانين لم تثنى تجار الرقيق من الاستمرار فى سعيهم لتحقيق الربح حتى نهاية العشرينيات من القرن العشرين. فالسجلات الحكومية تفصل الاعداد المصادرة من الرقيق من الحدود مع اثيوبيا والقادمة من طريق دارفور ومن جنوب السودان ومن الاستوائية وبحر الغزال وجبال النوبة ايضا. فالغارات بواسطة التجار والعرب الرعاة على المناطق الجنوبية وعلى جبال النوبة لم تتوقف, كما انتعشت الغارات على اثيوبيا بشكل كبير فى العشرينات من القرن العشرين. فبعد رحلة على نهر السوباط عام 1906كتب احد المفتشين الانجليز:” ان الاتجار بالرقيق فى هذه المناطق لا زال مستمرا بكل ما يحمل من رعب.” وذكر ان 113 تم قتلهم فى الغارة و150 امراة تم خطفها واطفالهن. وفى عام 1904 اعدم احد اهم منظمى الغارات يدعى ابراهيم ود محمود بينما ادين 16 اخرين تحت قوانين منع الرق. ففى مديرية النيل الابيض اظهرت السجلات انه عام 1927 تم ادانة 263, بينما فى عام 1928 تمت مضاعفة رقم المدانين بجرائم الاتجار فى الرقيق ليصل الى 653.” فقد كانت الغزوات على النيل الابيض من حدود يوغندا جنوبا تتحرك مع مسار النهر شمالا , وكانت تتم من خلال مجموعة من صائدى الرقيق الذين وظفهم كبار التجار فى الخرطوم وغيرها” من مدن الشمال . هذه الاجراءات ضد الاتجار بالرقيق والادانات المتزايدة, تدل على ان مؤسسة الرق السودانية كانت تقاوم موتها بكل ما تحمل من قوة لفترة طويلة , ولم ترد قط الاستسلام للتغييرات التى علمت تلك القوى المستفيدة من الرق وخاصة التجار, انها ستقلب حال مجتمعاتهم رأسا على عقب.
التواءم مع مجتمع بلا عبودية
لم يكن انتهاء الرق فى السودان عملية سهلة فى تنفيذها على واقع الارض, فقد وجدت مقاومة فعلية على كل مستويات المجتمع. ولكن مع تزايد فرار الرقيق من السادة وافتتاح المزيد من المشاريع الاقتصادية الحكومية التى وفرت العمل المأجور , اصبح تفلت الرقيق من بين ايدى سادتهم وسعيهم لايجاد حياة مستقلة واستخراج اوراق الحرية امرا متزايدا وشائعا على مدى عقد العشرينيات من القرن الماضى. اذ تذكر بعض السجلات الحكومية انه فى عام 1928 فى مديرية الفونج وحدها تم اصدار 200 ورقة حرية او عتق, وبحلول منتصف العشرينيات كان فى محلية بربر اقل من 45% من الرقيق الرجال لازالوا مع اسيادهم. لكن هذه الخسارة المستمرة للقوة العاملة كانت لها اثارها الهامة على المجتمعات المستفيدة من الرق, فقد اجبرت على احداث تحولات ثقافية هامة فى نظرتها للعمل اليدوى وخاصة الزراعة. فمع خسارة عمالة الرقيق خاصة فى الخدمة المنزلية والحقول اصبحت الاسر المالكة للرقيق تحت ضغط كبير لايجاد البديل, وقد اضطرت الكثير من تلك الاسر خاصة فى الشمال النيلى الى استخدام الاطفال واخراجهم من المدارس للعمل فى المزارع ومساعدة الاسر. فالعمالة المأجورة كانت مكلفة بالمقارنة مع امتلاك الرقيق, كما انها لم تكن متوفرة بقدر كافى. وقد وجدت بعض المجتعمات المالكة للرقيق صعوبات فى العيش بلا رقيق والتواؤم مع متطلبات الحياة الجديدة التى اقتضت ان يعمل افراد تلك المجتمعات فى مزارعهم وان يرعوا ماشيتهم بانفسهم. وكانت بعض المجموعات الرعوية بشكل ما تواصل عمليات الغزو من اجل الرقيق فى الحدود الجنوبية لصعوبة تخيلها العيش دون امتلاك الرقيق الذين يرعون الماشية. وهناك مجتمعات اخرى كانت اقل اعتمادية على الرقيق تمكنت من التواؤم بسرعة اكبر. وكان لذلك النقص فى خدمات الرقيق اثرا سالبا على القدرة الانتاجية الزراعية خاصة لملاك الرقيق فى الشمال النيلى مما اضطر بعضهم الى القيام بالزراعة بانفسهم كما اتجه البعض الاخر الى العمل فى الحكومة. فاحدى التقارير الحكومية من منطقة دنقلا فى عام 1932تؤكد ” ان الزراعة الان تتم دون الاعتماد على العمالة المنزلية -التسمية الرسمية الحكومية للرقيق.” ولكن المجتمعات الرعوية كانت اكثر مقاومة ولم تتمكن من تقبل خسارة ملكيتها لرقيقها بتلك السهولة , ومع التضييق على بيع الرقيق واستمرار فرارهم اما الى مناطقهم الاصلية فى جبال النوبة وجنوب السودان او الى المدن الكبرى, بدأ الاعتماد على الرقيق القادم من غرب افريقيا واقصى الحدود الجنوبية للسودان خاصة لدى القبائل الرعوية فى كردفان ودارفور.
ولم يكن من السهل بالنسبة للاسر المالكة للرقيق التخلى عن رقيقها او منحهم حريتهم خاصة النساء اللائى لديهن اطفال من الملاك او من غيرهم. فقد وجدن انفسهن فى وضعية معقدة , حيث حاول الملاك بشكل مستمر عرقلة فرار الرقيق من النساء عبر التهديد بمنعهن من اخذ اطفالهن او اختطاف الاطفال. وقد كانت تلك احدى الوسائل الاخيرة لبعض الملاك للاحتفاظ ببعض الرقيق المنزلى. فقد حارب هؤلاء الملاك عبر المحاكم الشرعية التى كانت كثيرا ما تقضى لصالح الملاك , والذين كانوا على عكس معاملتهم السابقة للرقيق النساء, اصبحوا يطالبون بتنفيذ الشريعة الاسلامية واصبحوا يصرون على ان ينسبوا الاطفال من نسائهم الرقيق اليهم . ويصرون على اعتبار اولئك النساء زوجات شرعيات او محظيات ” سريات”, فلم يكن لديهم اى خيار اخر للاحتفاظ بالاطفال كرقيق وايدى عاملة بعد قرار الحكومة البريطانية بان كل من ولد بعد عام 1898 يعتبر حرا. فالخيار الوحيد للاحتفاظ باطفال النساء الرقيق كان عبر اداعاء ابوة اولئك الاطفال وان اولئك النساء زوجات لهم او سريات . كل ذلك حتى يتم الاحتفاظ بالنساء كرقيق فى المنزل بدون اى حقوق زوجية حقيقية. وقد كان هناك جدل كبير بين الادارييين الانجليز حول وضعية هؤلاء السريات واطفالهن, حيث لم يريدوا ان يحمل المجتمع عبء الالاف من الاطفال غير الشرعيين . واعتقدوا ان الشريعة الاسلامية تعطى ” ام الاولاد” او السريات مكانة خاصة ومنصفة الى حد ما, لهذا تم وضع هذه القضايا فى يد المحاكم الشرعية.
ولكن المحاكم الشرعية كانت متحيزة بالكامل للملاك, كما ان ملاك الرقيق كانوا يتلاعبون بالقوانين الاسلامية بشكل كبير. وكانوا يدعون الزواج برقيقهم النساء للاحتفاظ بهن ومنعهن من الفرار او الحصول على الحرية لهن واطفالهن. وكانوا يلجأون الى المحاكم الشرعية مقدمين اوراق تثبت الزواج باولئك النساء مع المطالبة بحق حضانة الاطفال. وفى النهاية اضطرت معظم النساء الرقيق الى البقاء مع ملاكهن , فحتى منتصف العشرينات فى بربر مثلا كان 70% من النساء الرقيق لازلن مع اسيادهن. ” حتى نهاية عقد الاربعينات ومطلع الخمسينات كان النساء الرقيق يعانين للحصول على حريتهن الكاملة, كما ان الملاك ظلوا يتلاعبون على القوانين رغم محاولات الحكومة البريطانية تعديل بعض القوانين لصالح النساء. بحيث فرض على كل مدعى زواج بابراز وثيقة زواج معتمدة تقنع القضاة, كما تم نقل النظر فى القضايا الخاصة بالرقيق النساء الى الاداريين الانجليز . و تم رفع سن حضانة الام للاطفال لتصل الى سن البلوغ للذكر وسن الزواج للانثى. الا ان هذه القوانين التى نفذت فى المدن الكبرى كانت لا تزال تجد ممانعة فى تنفيذها فى الاقاليم والمناطق البعيدة عن السلطة المباشرة للدولة والتى كان قضاءها يعتمد على محاكم الشيوخ والقضاء الشرعى. وبالنتيجة لم تنجح الاف النساء من التحرر من نير العبودية بشكل فعلى لسنوات وعقود تلت القرارات الحكومية الرسمية بانهاء الرق.
رغم انتهاء الرق رسميا في السودان منذ العشرينات الا ان الاوضاع الاجتماعية للعديد من الرقيق لم تتحسن على الاطلاق فقد استمر المجتمع المستفيد من مؤسسة الرقيق فى كل انحاء السودان فى وصف الرجال ” بالعبيد” والنساء ” بالخدم” والاطفال” بالمولدين” , من ضمن اسماء اخرى وصفات كلها تعبر عن الاحتقار والمكانة المتدنية فى المجتمع. ويتضح ذلك من خلال الامثال الشعبية التى وثق لها احد الباحثين الذى اجرى بحثه فى منطقة نورى فى الستينيات من القرن العشرين, والذى وثق الى ان الثقافة المحلية هناك لا زالت تنظر الى الرقيق السابقين باعتبارهم ” عبيد” ولم تتخلى عن استخدام هذه اللفظة. كما ان الامثال الشعبية لا زالت تتبنى احكاما مطلقة بدونيتهم , فمثلا احداها يقول” جده كان عبد وبعد مائة سنة سيعود ليكون عبدا”, ” ان العبد لا يفهم ولا ياتى الابالضرب.” اشار الباحث احمد الشاهى الى ان سكان مروى لا زالوا يرفضون تماما التزاوج مع الرقيق السابقين, وبالتالى بقى المجتمعين منفصلين تماما. ويكتب الباحث معلقا ” ان الوصمة الاجتماعية المرتبطة بلفظة ” عبد” دفعت الاجيال الاصغر لمغادرة القرية والبحث عن سكن فى مناطق اخرى وفى المدن الكبرى.” وتعلق هيذر شاركى قائلة ” ان افاق الاندماج الاجتماعى او امتلاك الارض او الحصول على صوت سياسى او مساواة اجتماعية تبدو ضعيفة للغاية بالنسبة لابناء الرقيق السابقين.”
ان الكلمات الاخيرة لشاركى تعبر عن اهمية تاريخ العبودية والرق فى السودان, فهذه الافاق المحدودة للاندماج الاجتماعى , هى فى الواقع افاق حدود المواطنة من الدرجة الثانية او الثالثة التى فرضت على الرقيق السابقين وابنائهم واحفادهم الى وقتنا الحاضر. وفى امتداد هذه الذهنية الثقافية اصبح الوعى الجمعى للمجتمع الشمالى فى السودان والمالك للرقيق سابقا, ينظر لكل سكان المناطق التى كانت تصدر الرقيق تاريخيا بانهم ” عبيد” ويطلق عليهم ذلك الوصف بشكل لفظى , وايضا يمثل وضعيتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى تتمثل فى حالة من الاقصاء والاستبعاد الذى حل محل الاستعباد. ” فعلى المستوى الايدولوجى فان مناطق الاستعباد كان يتم تشكيلها بواسطة المشتركين فى تجارة الرقيق من خلال التضاد بين الاسلامى وغير الاسلامى والعربى الاصل مقابل غير العربى الاصل, والبنى اللون مقابل اسود اللون, بينما اعطت كل فئة عرقية معنى وتمثيل للطرف المضاد. هذه الفئات المختلقة ضمت مصطلحات مثل ” عبد” للجنوبيين او الفلاتة او الغرابة للقادمين من غرب افريقيا وغرب السودان.” هذه التقسيمات العرقية المناطقية والجغرافية وارتباطها بتاريخ العبودية مثلت نقطة انطلاق هام لتشكيل البنية الذهية والوعى الاجتماعى للنخب السودانية الحاكمة. و التى لم تقوم بتحدى تلك المفاهيم والرؤى الثقافية الاستعلائية والمبنية على انقاض مؤسسة الرق التى استمرت فى السودان لمئات السنين.
ان تجارة العبيد كانت تفصل السودان عمليا الى قسمين على مستوى المجتمعات والجغرافيا. فانقسمت البلاد الى مجتمعات ومناطق لصيد العبيد واخرى لامتلاكهم. وهذا التقسيم يطابق خارطة الصراع والحروب الجارية فى البلاد الان. وهذا نتيجة للذهنية التى تولدت من تلك التجارة والممارسة اللانسانية واثارها على المجتمعات فى الطرفين. فالطرف المالك زاد ثروة وتمكنا من السلطة , والجانب المستعبَد تدمرت مجتمعاته واخليت من السكان قديما على يد تجار العبيد , وحديثا على يد جيوش الدولة ومليشياتها فى شكل حروب وابادة اثنية متواصلة. مبررها الاساسى هو انتزاع صفة الانسانية الكاملة عن مجموعات سكانية كاملة فى السودان بناءا على الارث التاريخى لتجارة العبيد , حيث ان العبودية هى حكم بانعدام او دونية انسانية الضحايا. وهذه الدونية ظلت تحكم العقلية الحاكمة فى السودان وتحدد هوية البلاد. فرغم استمرار الرق فى السودان الى منتصف القرن العشرين, الا ان النخب السودانية المتعلمة على يد الثقافة البريطانية والمتطلعة للغرب والحداثة , لم تقوم باى دور موثق فى الدعوة او العمل لانهاء مؤسسة الرق المتجذرة فى المجتمع. كما ان الحركة الوطنية التى بدأت فى التبلور منذ عشرينيات القرن الماضى, لم تتبنى اى اجندة متعلقة بانهاء هذه المؤسسة.
[email protected]
تعليق واحد
تنويه: بالنسبة لاقتحام اسم الفلاتة فى هذا المقال على انهم من من استعبدو خلال الفترة المذكورة انما هو فقط لتكبير حجم المقال والمعاناة اما الفلاتة فلا اعتقد انهم تعرضو للاستعباد كما ذكر كاتب المقال ببساطة لانهم ليسو ضمن ما صنف الكاتب (سود البشرة) انما هم ضمن بنيي البشرة او صفر البشرة وكذلك انهم لا يشبهون الغرابة بكافة طوائفهم مع احترامى الشديد لاهلنا الغرابة سواء كانو عربا او افارقة ،،،
الفلاتة :
حقيقة الفلاتة انهم جزء اصيل من تراب دارفور وكردفان وسنار وبورسودان وجميع اراضى السودان وليسو جزءا من الصراعات القبلية والعنصرية التى تدار من الحكومة وامراء الحرب وتجار دماء الناس ،،،،