صلاح شعيب
ماذا يعني علي عثمان محمد طه حين يقول في مؤتمر للمجلس القيادي لحزبه إن “ما حققته الإنقاذ من إنجازات نقل السودان نقلة حضارية تنموية شاملة في الإنسان والموارد مما يؤسس لنقلة أكبر في مستقبل الايام”.
بأي المقاييس توصل هذا القيادي الإسلامي إلى هذا الحكم القيمي الضال؟. وهل يمثل انهيار المشاريع الاقتصادية للدولة، وهجرة عقولها إلى الخارج، وموت أكثر من مليون مواطن في حروب الجنوب، ودارفور، والمنطقتين – في الثلاثين عاما الماضية – تنمية للإنسان السوداني عموما، أم أن ما يقصده ضمنيا هو التنمية البشرية التي حدثت لكوادر حزبه، وتعدد موارد رزقهم، وتحولهم من خانة الفقراء إلى رحابة الثراء الحرام؟ وهل هبط السيد (A.O.M.T) من كوكب آخر حتى غاب عنه إدراك عمق التشظي الذي أصاب النسيج الاجتماعي السوداني القومي، والمحلي، بسبب هيمنة الإخوان المسلمين على موارد البلاد وخزينتها العامة؟
وهل راجع طه نفسه ليتيقن كم أن سياساته، أثناء توليه ملفات عديدة، قد أهدرت المليارات من الدولارات في مشاريع وهمية (ربوية) تعلقت بالبنى التحتية أم أنه فقط يخادع نفسه ويمنيها؟ وهل يعني انهيار الأجهزة النظامية من جيش، وقوات شرطة، وحيازة الحركة الإسلامية لمليشيات قاتلة هو عين التنمية، أم أن في عيوننا غشاوة حتى لا تستبصر هذا الدفاع الوطني المتطور في مشاته، وبحريته، ونسوره الجوية؟ وهل اعتبر طه بحقيقة عشرات الآلاف من تلاميذ المرحلة الابتدائية الذين يذهبون للمدرسة بلا وجبة إفطار حتى يعيد الحكم القيمي كرة أخرى؟
الحقيقة أن هناك الكثير من التردي العظيم في البلاد المدحض لحديث طه، والذي هو ليس إلا جزء من مكابرات قادة الإخوان المسلمين الذين يغيرون مواضع الكلم، ويضخون الكذب أمام الرأي العام، ويدافعون عن فشلهم بالمزيد من الفشل في قول الحقيقة.
-٢-
أما وإن كان حديث علي عثمان يمثل جزء من الاستهلاك المحلي فما من مشاحة في أن “يكب السكر ساكت”. فهذا النوع من التصريحات التي دأب قادة النظام ترديدها بين الفينة والأخرى لا تأتي إلا حين يزداد أمر بلادنا سوء في سوء. فقد لاحظنا أيضا أنه كلما كثرت الأزمات، وغاب هناء الحكومة، نادى الإسلاميون على أطراف الأزمة للجلوس القرفصاء لأجل حل القضايا الشائكات. وتلك هي سياسة الأنظمة الاستبدادية التي ما لها من راد غير المقاومة. فجوهرها هو الاحتيال على المكون القومي، والتذاكي الممجوج عليه، متى ادلهمت خطوب المتسلطين. ذلك رغم أن معظم الناس واعية بما جرى، ويجري، أمام أعينهم من فشل حكومي بشأن تمتين أسس التقدم، والوئام، والسلام. ولعل لعلي عثمان الوافر من الأسهم في خلق هذا الواقع المتردي. فعصبيته الأيديولوجية، ومخاتلته اللزجة، لا تدعه يعترف بفداحة ما سببه الإسلام السياسي في شل استقرار البلاد، وما سببه هو شخصيا من تحطيم لمكتسباتها إبان قيامه بمهام المخطط لما بعد الانقلاب، ووزارة التخطيط الاجتماعي، ثم الخارجية، وكذا نيابة رئاسة الجمهورية.
وفِي كل هذه المناصب كان أمير الجماعة الثاني يستهدف مصلحة تنظيمه فوق مصالح السودانيين كافة، ولذلك يتحمل علي عثمان شخصيا مسؤولية هذه الدماء التي سالت مدرارا نتاج تخطيطه الشرير، ويتحمل كذلك الضيق، والعسر، الذي جلبه للسودانيين بسبب تخطيطاته لاغتيال حسني مبارك، وضلوع إرهابه في أماكن أخرى. وعلى ناحية ثانية فإنه مسؤول عن فشل الحركة الإسلامية في إحراز تقدم على حل القضايا المستعصية بما أثبت من خواء فكري، وتهور سياسي، وشبق نحو استخدام السلطة حتى أذل شيخه، وعجز عن فهم وظيفة الدين والدولة معا.
من جانب، فإن ادعاء علي عثمان بهذه النقلة الحضارية للسودان دحضه القادة الإسلاميون المنشقون بألسنتهم الحداد، وأصدروا مؤلفات في هذا الصدد، وهناك شهادات جمة وثقتها الحوارات الصحفية، والتلفزيونية. بل إن شيخهم نفسهم نعى مشروع حركته التى سقى بذرتها وقال إن تلاميذه أفسدوا في الأرض، والتهموا مال الدولة “بشكل عجيب”، على حد تعبيره. أما من هم ما يزالون يناصرون الفكرة والحكومة فقد أكدوا أن الإنقاذ التي أنجبتها، وأرضعتها، الحركة الاسلامية وصلت إلى سبيل مسدود، وانتهت صلاحيتها في السلطة. ونحن هنا في غنى عن إيراد مئات الشهادات لعدد هائل من الإسلاميين الذين حزن بعضهم للأوضاع التي أوصلوا إليها السودانيين، ومن أولئك ياسين عمر الإمام الذي يكفي قوله إنه يخجل من دعوة الناس للدين.
يقول د. الطيب زين العابدين القيادي الإسلامي المعروف إنه “على يد حكومة الإنقاذ تدهورت وتهالكت كثير من مؤسسات ومشروعات الدولة التي بنيت على مدى سنوات طويلة منذ الاستعمار مثل: الخطوط الجوية السودانية، السكة الحديد، مشروع الجزيرة، الخطوط البحرية، الخدمة المدنية، نظام التعليم العام والعالي، نظام الصحة والعلاج، الزراعة والصناعة، تشويه نظام الأجور والمعاشات، إفساد عدالة المنافسة الاقتصادية بتأسيس شركات حكومية (مع بعض منسوبي الحزب الحاكم) ومنحها امتيازات تفضيلية وإرساء العطاءات والمشتريات على هذه الشركات المدللة دون منافسة..” وهل بعد كل هذا تمت النقلة الحضارية لإنسان السودان وموارده؟.
-٣-
إن من نتيجة خواء طرح الحركة الإسلامية أن السودان يعيش تحديات وجودية عظيمة قد تعصف بكيانه الإداري الموروث. إذ ليس هناك صلاحا في الحكم في جميع جوانب الحياة. ولا تقتصر الأزمات في الاقتصاد فحسب، وإنما يعايش السودانيون إحباطا لا مثيل له، نظرا للورطة التي أدخلهم فيها الإخوان المسلمون، والذين ثبتوا حكمهم القهري بثمن باهظ للغاية. إنهم لم يأبهوا بإهدار دماء الملايين في سبيل أن يستلذوا بخيرات السلطة ومن ثم سلوا السيوف لقطع رقبة كل من يماثلهم في حمل السلاح. أما من أراد أن يحتج سلميا، أو أن يعبر برأيه أدخلوه زنازين التعذيب، أو مهدوا السبيل لنفيه، أو حاصروا مصادر رزقه، وذلك كل ما في جعبة الإسلاميين من بدائل لمسايسة شرفاء البلاد. وهذه هي الدولة الإسلامية التي يفتخر علي عثمان بأنها أنجزت تنمية شاملة للإنسان السوداني، وموارده.
لقد أضاف طه لحديثه ذاك مادحا الإنقاذ بأنها “منذ تفجرها وحتى الآن تركز على وضوح الرؤيا وترتيب سلم الاولويات وشحذ الهمم وجمع الكلمة، مبيناً أن الانقاذ بهذه الثلاثية استطاعت تحقيق العديد من الانجازات.”؟ والسؤال إن لم يكن هذا هو التدليس ذاته فماذا يا ترى يكون؟!.
إن كل ما يقول به علي عثمان هو النقيض تماما. فمن ناحية اعتمدت إنقاذ الحركة الاسلامية على التجريب في السياسات حتى إذا فشل استعاضت بآخر. فيكفي أنها من القناعة بالجهاد أجبرت إلى الاستسلام لشروط المجتمع الدولي، ومن الاقتصاد الإسلامي قفزت إلى سياسة التحرير الاقتصادي وفق شروط الطفيلية العالمية، ومن قتل من سمتهم تجار العملة إلى السماح لهم بمزاولة المهنة ثم تهديدهم مرة ثانية. إن الإنقاذ لم تشحذ إلا همة الإسلاميين للتنعم بغنيمة الدولة. وتلك كانت أولوية الحركة الإسلامية، ومبتغى وصولها للسلطة. أما الحديث عن جمع الكلمة فهو الكذب الصراح، ولا ينم إلا عن انحدار أخلاقي في تزوير حقائق الواقع، هذا إذا أدركنا الآن الشقاق الحاد بين مكوناتنا الفكرية، والسياسية، والثقافية والاجتماعية، من جهة، وبين السلطة، من الجهة الأخرى. عموما لا نعتقد أن أكاذيب علي عثمان ستجمل واقع البلاد البئيس، بقدر ما أنها تواسيه مع جملة الإسلاميين الذين يعانون من أزمات ضمير جراء خيبة مشروعهم الحضاري الذي يحرسونه الآن بالاستبداد، والتدليس، والتزوير.