يقول كرين برنتون في كتابه (دراسة تحليلية للثورات) : ” أن الثورات تنشأ على الأمل وفلسفاتها مبنية على التفاؤل”. الأجواء الكئيبة التي تسود الشارع السوداني هذه الأيام والتي تبعث على التشاؤم والشعور بالغبن والاحتقان وانسداد الأفق، رغم أن لها دور في استفزاز الناس للقيام بفعل مضاد لكن لها جانب اخر سلبي وهو انها هذه الأجواء المتشائمة تغذي مخاوف الكثيرين من المستقبل وتزيد من توجه المترددين نحو السكون وليس الحراك. وبالتالي فإن الشجعان الذين يخرجون إلى الشارع يظلون الأقلية بينما تبقى بقية المترددين والمتشككين والمتشائمين ضحية للدعاية السلبية التي يروج لها النظام. ولكنهم أيضا ضحية الخطاب الخاطئ الذي تطلقه المعارضة.
ان اغلب أن لم يكن كل خطاب المعارضة يركز على توضيح عمق الأزمة وتبين الخطر الداهم ومدى سوء الأحوال وسوء النظام الذي صنعها. في الحقيقة ان الشعب السوداني من اكثر الشعوب وعيا وهو شعب مسيس بالكامل بلا جدال، لذلك هو يعي جيدا ماهية الأزمة ومدى عمقها. لكن السؤال الذي لم يقدم له إجابة خطاب المعارضة هو المخرج من كل هذا وما إذا كان هناك أمل في الخروج اصلا وما إذا كان هناك أمل في واقع أفضل. ان الامر لا يتعلق ابدا بالبدائل بالمفهوم التقليدي لمن سيحكم أو حتى كيف ستدار الدولة السودانية. ان الشعب السوداني يبحث عن تلك المؤشرات والافعال التي تعطيه ذلك الاحساس بالامل وبأن هناك مستقبل أفضل ينتظره غدا.
ان التخلص من النظام لكونه نظام سيئ جداً ليس سبب كافي لشعب واعي مثل الشعب السوداني صبر طويلا على كل قواه السياسية وجربها جميعا. ان الشعب السوداني ينتظر أن يكون السبب في الدعوات للتخلص من النظام هو إمكانية صناعة نظام آخر أفضل منه. السقوط فقط ليس دافعا كافيا . البناء هو الدافع الاقوي. وهذا البناء الذي يبحث عنه الشعب يبدأ من عملية صناعة التغيير والتحالفات القوية التي بإمكانها أن تقلب موازين اللعب على الحاكمين الان وتثبت انهم لن يكون لهم مكان في المستقبل فالسودانيون غير راغبين ابدا في تجريب المجرب. لذلك فإن أي تغيير قادم مهما كان شكله أو مالاته فإنه بالتأكيد لن يشبه ابدا اي تغيير آخر سبق في تاريخ السودان الحديث.
التفكير خارج الصندوق يستدعي خطابا مغايرا حاملا لرؤية مختلفة لواقع البلاد الحالي ومستقبلها وعبر معادلات قوة متزنة ولكنها بسيطة في ذات الوقت. إحدى أهم محاور الخطاب الذي يجب أن يحل محل الخطاب الحالي هو تعريف العدو. حيث أن عدو الدولة السودانية الان هو تنظيم الإخوان المسلمين والحركة الإسلامية المسلحة بكامل أطرافها واذرعها التي كانت نتيجة تجربة حكمها تقسيم البلاد وإيصال الوطن لحالة الانهيار الحالية. وبناء عليه فإن هذا التنظيم بكل مكوناته هو مهدد للأمن القومي السوداني. فقد فرط في أرض السودان وثرواته ولذلك فإن إنهاء وجود هذا التنظيم في السودان يجب أن يكون هدف رئيسي الان.
ان عدم تعريف العدو الموحد بهذه الطريقة سوف يؤدي مستقبلا إلى صدمات في حال حدوث أي تغيير. لأن هذا التنظيم مؤهل وقادر على التحور ومحاولة القفز على ظهر اي ثورة أو تغيير قادم. والشواهد الان ماثلة من دخول بعض الإسلاميين في ثوب الضحية ومحاولة اقتحام الحراك الشعبي. ان اي سقف للثورة يقبل وجود الإخوان المسلمين هو سقف متدني لن يؤدي إلى أي تغيير جذري. هذه المواجهة تعني أن الاذرع المسلحة التابعة للنظام سوف تبدأ في التحرك وسوف تحاول السيطرة على ما تبقى منه وتستخدم أقصى درجات العنف وتوظيف المزيد من المرتزقة مثلما تفعل النظم المجرمة.
ان الجانب الآخر من المعادلة ومن الخطاب الذي يحتاج إلى تعديل هو تقديرات تكلفة التغيير. فخطاب بعض قادة المعارضة الذي يتحدث عن الصوملة أو يتحدث عن ضرورات الانتقال السلس، إنما يضع الأمور في كفة الاستمرار على الوضع الراهن، ويقلل من الأمل في التغيير للعبور لواقع أفضل. هذا الخطاب يتجاهل تماما وجود القوى السياسية والعسكرية السودانية القادرة على ضبط الأمور وإعادتها إلى موازينها الحقيقة. فتضخيم حجم الكيزان وإعلاء شأنهم في مقابل وجود جيش وحركات مسلحة وقوى مدنية وشعب كامل مناهض لهذه الفئة هو في الحقيقة عملية هزيمة نفسية لأي ثورة قبل انطلاقها.
ان ميزان القوة الذي يستعرضه بعض خطاب المعارضة الان امام الشعب السوداني يضع النظام في مستوى أعلى من قدرة كل القوى الثورية على تغييره وهذه صورة خاطئة. الصورة الصحيحة تتطلب إدراك التحديات وتوضيح سبل مواجهتها بما في ذلك مليشيات النظام وعنفها. وهنا يجب استصحاب حقيقة رئيسية وهي كيفية رؤية المعارضة نفسها لمعسكرها. الواقع السياسي السوداني يوجد فيه صراع مسلح وحركات مسلحة تقاوم النظام. هذه الحركات هي في الواقع إحدى المراكز الرئيسية في خلخلة عضد النظام، وبالتالي لها دور مركزي أيضا في إزالته بشكل كامل. ولكن بالتأكيد لن تستطيع إزالته لوحدها لا عن طريق العمليات العسكرية ولا عن طريق الحراك المدني ولا حتى عن طريق طاولة المفاوضات.
فالنظام والتنظيم الذي يرعاه هو أزمة وطن كامل، وبالتالي لا يمكن لأي مجموعة وحيدة تحمل عبء إزالته. ولكن عملية إزالة هذا التنظيم السرطاني ونظامه هو في الحقيقة فرصة تاريخية لكل مكونات الشعب السوداني للتوحد والوقوف في صف واحد كل حسب إمكانياته وخبراته ومن موقعه للعمل على تحرير البلاد و بناء الدولة السودانية. اذن هذه الفرصة للوحدة الوطنية عبر عملية تحرير السودان من الكيزان هو فرصة لاعادة موضعة حركات المقاومة المسلحة في داخل الحراك الوطني عبر تحالفها مع الشعب ومع قوات الشعب المسلحة في عملية موحدة لأجل تحرير السودان من الكيزان كتنظيم ونظام.
ان هذه الفرصة التاريخية تتطلب من الحركات المسلحة أيضا التقدم بخطاب واضح يفتح خطوط الاتصال مع القوات المسلحة السودانية التي تحارب تلك الحركات منذ زمن، ودعوة الشرفاء منها ليس فقط للانحياز للشعب بل للتعاون مع هذه الحركات لإقتلاع السودان من براثن تنظيم الإخوان ونظامهم المجرم اللاوطني. انه حري بقوات الشعب المسلحة التي تغولت على مهامها مليشيات لا تمت للمهنية العسكرية بصلة ونهبت مواردها وامتيازاتها حري بها أن تراجع مواقفها عن حماية نظام لا يراعي حرمات الوطن، وان تعود إلى عقيدتها الوطنية. فالجيش الذي فقد الكثير خلال حكم الكيزان لديه الان فرصة تاريخية لتغيير وجهته التاريخية في ممارسة القمع وقتل السَودانيين ولعب دور في حمايتهم وحماية الوطن ولعب دوره الأساسي والدستوري. ان خطاب المعارضة يجب أن يعيد تعريف معسكرها عبر إطلاق خطاب جامع لكل القوي الوطنية الحالية التي هي جزء من صناعة المستقبل لامحالة. وبالتالي فإن الجيش هو بلا شك جزء رئيس من حماية السودان كارض في المستقبل. وفي حالة نشوء تحالفات حقيقية تشجع الرتب الأصغر في الجيش التي لديها غضب محتقن للانضمام إلى معسكر التغيير هو خطاب ضروري في الوقت الراهن. لابد أن هذا الخطاب الذي يروج للتحالف الموسع بين الجيش والحركات المسلحة كقوي ردع حامية للبلد والشعب ضد تنظيم الإخوان المهدد الأكبر للأمن القومي السوداني، هو خطاب ينزع فتيل المخاوف من الحركات المسلحة نتيجة للدعاية السلبية من النظام ، كما أنه سيفتح أرضية مشتركة جديدة لاستيعاب مختلف لأزمات الصراع المسلح في السودان عبر إنهاء الحرب بين أطرافها الحقييقين الذين يحاربون على الأرض سواء من الجيش أو الحركات. يجب أن يعي الجيش أن سيادة السودان لا تهددها الحركات المسلحة بل يهددها التنظيم الذي يبيع أرض الوطن ويفرط في حدودها، وليس حركات المقاومة التي تدافع عن شعبها.
ان هذه الخطوات نحو تغيير الخطاب السياسي وإعادة تعريف الأعداء واعادة تعريف الشركاء الوطنيين هو الذي سيؤدي إلى صناعة الأمل حيث أن عملية صناعة التغيير هي أهم من التغيير نفسه. لأنها المعركة ألتي سيتوحد خلالها الشعب السوداني بشكل غير مسبوق، وهنا دور الخطاب المعارض في الترويج لهذه العملية التي هي نفسها وسيلة هامة للتعديل في نظرة السودانيين لأنفسهم والي بعضهم البعض وفرصة لحلحلة أزمات تاريخية مستعصية. لذلك فإن نجاح عملية التحضير للتغيير والتحالفات نحو التغيير هي الأمل الذي ينتظره السودانيون وبالتالي ستشكل لديه رؤيه أوضح حول مستقبل أفضل وأكثر استقرارا وهذا ربما ما سيجعل من الشعب قائدا لعمليات التغيير المقبلة بدافع قوي من الأمل والثقة في المؤشرات التي قد تبعثها فيه هذه التوجهات في الخطاب السياسي. لذلك فإن إعادة النظر واجبة الان وفورا في كيفية الانتقال بخطاب المعارضة نحو صناعة الأمل بدلا من تغذية الإحباط والتردد لدى الجماهير.
[email protected]