إسماعيل عبد الله
ما زلنا نتلقى صدمات الإنعاش بفضل بعض الخيّرين من جيراننا لإفاقتنا من سباتنا العميق , الشكر لمن ذكّرنا و أستفزنا , لنستشعر انتمائنا الأصيل للتاريخ والتراب الإفريقي العريق , القول الفصل جائنا من اصحاب المعبد الحقيقيين , فقطعت جهيزة قول كل خطيب من خطبائنا النجباء , ابتداءً من الأديب الاريب الراحل محمد أحمد المحجوب , ومروراً بالظاهرة العالمية والعبقري الروائي الطيب صالح , ومعه الدكتور والبروفسور الخبير بانساب العرب عبد الله الطيب , و انتهاءً بسيد الخطابة و البلاغة الشيخ الدكتور عصام احمد البشير , كوكبة مستنيرة وضالعة في شئون اللغة العربية وتاريخ وسير العرب , فقد قدم هؤلاء الفتية للمكتبة العربية المقروءة و المسموعة و المرئية , القدر الكبير من الاسهامات الادبية والثقافية و الدينية , و لكن , لم يشفع منتوجهم الفكري هذا لأمتنا السودانية المنهزمة دوماً أمام الاستعلاء العروبي , فلقد شهدت ساحة منتديات بعض الشباب العرب الناشطين هذه الايام , كيل من التغريدات المؤلبة للنعرات العنصرية و المثيرة للكراهية بحق الرئيس السوداني , فهذا الموقف لو تعلمون لا يميز بين جميع مكوّنات سكان السودان , وهذه النظرة المزدرية للانسان السوداني لا تتوقف في استهدافها عند الجعلي ولا الفوراوي او الدينكاوي, بل تشملهم جميعهم من الغرب الى الشرق ومن الجنوب الى الشمال , انه انطباع عام عن (الزول) السوداني في ذاكرة أهل المعبد , فمهما استعلى بعضنا على بعض في الداخل السوداني , فسوف يظل وعي المركز العروبي تجاهنا انطباعي من الدرجة الأولى , وهو تاطيرنا في رمزية شخصيات معينة ومحددة شهدها تاريخ العرب والمسلمين , ومن امثلة هذه الشخصيات : كافور الإخشيدي , و الصحابي بلال بن رباح , و أبرهة الحبشي , وعنتر بن شداد العبسي .
العالم اليوم يمور ويغلي كالمرجل , بالانتفاضات و الثورات الشعوبية الناهضة والباحثة عن الجذور , فدونالد ترمب جاء من زخم المجتمع الامريكي الابيض , الذي يؤمن بأنه هو الامجد و صاحب السبق والجدارة في الارتقاء بكل مكونات السكان الامريكان , الى عوالم التقدم و الرفاه , بل يرى ترمب ان البيض في شمال الكرة الارضية اصحاب فضل على بني البشر في نهضة الحضارة الانسانية , ملغياً كل اسهامات الحضارات القديمة التي قامت في جنوب العالم , لقد كان واضحاً في خطابه العنصري وغير مبالٍ بانتقادات الطوباويين من كتاب الرأي في مجتمعه , ذلك لأنه يعلم علم اليقين أن العرق هو المحرّك الاساسي للصراع في هذه الدنيا , فمنذ ان خلق الله سيدنا آدم و أنزله الى الارض , كان أول صراع قد اندلع اساسه وبنيته التحتية هي الاستعلاء والخيرية و الافضلية وأنانية النفس البشرية , وكان قد وقع بين إبنيه هابيل وقابيل , فدنيا اليوم انتظمتها موجات من الصحوات الشعبوية السابرة لاغوار امتدادات موروثاتها البعيدة , فكل التحالفات التي نشهدها في واقعنا المعاصر يلعب فيها العامل الإثني و الانتماء الحضار دوراً محورياً , فالناظر الى روسيا بوتين اليوم , لا يرى اية علاقة بينها وبين روسيا بوريس يلتسين بالأمس , فتلك كانت باهتة اللون و الانتماء و التوجه , وكانت العوبة في يد الامريكان الذين كانوا يفعلون بها ما يشائون , اما بعد حضور القيصر فلاديمير , فقد اختلفت الموازيين , لا لشئ سوى لأن القيصر قد عاد الى إرث أجداده القياصرة , فتمسك بالوتد الذي دفنه الاسلاف في عميق التراب , فاستعاد هيبة بلاده وجعلها رقماً صَعُبَ على أقطاب العالم تجاوزه , وذهب معه ألأكاسرة في ذات الخط , فقد هبوا للخلاص من إستلاب الحضارة العربية لإرثهم الفارسي , و انتهجوا نهجاً ايدلوجياً بغطاءٍ طائفي وإسلامي , ليستعيدوا أمجاد إمبراطوريتهم التي تم القضاء عليها في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.
أيها السودانيون , ماذا انتم فاعلون ؟ , وانتم احفاد تراهقا وكوش , و بكم تم بناء الحضارة الاولى في الدنيا , و في ارضكم كانت أول مدينة تعمل على صهر الحديد إسمها (مروي) , فأطلق عليها الغربيون إسم (بيرمنجهام افريقيا) , كيف تسنى لكم القفز فوق كل هذه الإمتيازات لتستجدوا رضاء الآخرين , إرجعوا الى جذوركم الافريقية فهي طوق النجاة الاوحد الذي سوف ينقذكم من حالة التيه هذه , فلم يكن جدل الهوية الذي فتح نافذته كتاب ومفكرون سودانيون عالمين ببواطن ترسبات العقل الجمعي السوداني , من قبيل الترف الفكري ولا مقصداً للاستصغار , بل كان مكاشفة صريحة وشفيفة مع النفس , و اعترافات صادقة بالزيف الذي علق بالعقل و الوجدان السوداني , فعندما يقول الدكتور الباقر العفيف (إنها متاهة قوم سود في ثقافة بيضاء ) , فانه يعني ما يقول و يريدها صدمة كهربائية عالية الفولتية , لكي تنعش ذاكرة الشعب الجمعية المستلبة من قبل الوعي العروبي , ذلك الوعي الذي بذل فيه الدكتور محمد جلال هاشم عصارة فكره ليخرج منه احفاد كوش من الظلمات الى النور , وهي ذات الغيبوبة الحضارية التي يحاول الدكتور ابكر آدم إسماعيل إخراجنا منها , في خضم صراعه الفكري المحموم , مع أنموذج هذه المركزية العروبية في السودان , وهو نفس هروبنا الكبير من حقيقة انتمائنا للعرق الزنجي , الذي ظل الشاب الثائر عبد المنعم سليمان عطرون يحذرنا من عواقبه.
إنّ زبد الاوهام و الخيالات و الترهات سوف يذهب مجافياً لأرض واقعنا المأزوم , وسوف يمكث في أرض سوداننا الحبيب ما ينفع مواطنيه , فالحقيقة الراسخة و الواضحة وضوح شمس الظهيرة في صيف خط الاستواء , تجسدها القاعدة الحياتية التي لا مفر منها مطلقاً , والتي جائت في صيغ تعبيرية مختلفة , وكلها تصب في ماعون واحد من امثال وحكم ومواعظ من شاكلة : (لا يصح الا الصحيح) , و(القنطور أصله تراب) , و المثل الدارفوري : (أم سلمبويتي ولا كدكاي زول) , و (تلصق الطين في الرجلين ما ببقى نعلين) , و (من ترك قديمه تاه) , و (الماعنده قديم ما عنده جديد) , هذا مع تأكيدنا التام أن هذه الامثال والحكم و المواعظ , يوجد ما يقابلها في المعنى و المقصد في لغات النوبة و الهدندوة والدناقلة , وفي ألسنة الفور والبني عامر و الزغاوة والمحس والمساليت و الانقسنا , و في كلام الشلك والحلفاويين والنوير والميدوب و الدينكا.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com