قبل فترة وجيزة كتبت مقالا عن مثابرة الروائيين لإحداث التراكم في الرواية السودانية بعد الانفجار الكبير في هذا الضرب. وأعربنا حينذاك عن الأمل في أن يحقق لنا روائيو البلاد وجودا متقدما على المستوى القاري، والإقليمي، والدولي. وما خاب الظن. إذ بعد شهر تقريبا صحونا على نبأين مهمين. الأول هو فوز الروائي عبد العزيز بركة ساكن بجائزة سين السويسرية لعام 2017. ولَم يلبث الشهران أن يمرا إلا وتضاعف فرحنا بفوز الروائي بشرى الفاضل بجائزة كين للقص الأفريقي لذات العام. وفي هذا العام أيضا حملت البشريات نبأ دخول رواية الأستاذ أمير تاج السر “منتجع الساحرات” الى قائمة البوكر العربية. وكما يعلم كثيرون أن أميرا ظل يثابر في هذا المجال لسنوات طويلة، ويسهم أيضا بكتابات قيمة حول شؤون الرواية، والثقافة، والفن، عموما.
ولعل ما يميز أمير وسط الروائيين هو دأبه المستمر للاشتغال على مستوى التنوير عبر الصحافة الثقافية التي تذكرنا مقالاته بعهدها الذهبي. إذ كنا نقرأ لعلي المك وعبدالله الطيب ومحمد عبد الحي وسامي سالم ومصطفى سند وعيدروس وعبد الوهاب حسن خليفة وعيسى الحلو وعبد الهادي صديق ويوسف عيدابي وعبد القدوس الخاتم الذي رحل أخيرا. ونرجو أن نذكر أنه قبل كل هذه الأنباء المفرحة أن “شوق الدراويش” للروائي حمور زيادة نالت جائزة نجيب محفوظ للرواية التي نظمتها الجامعة الأميركية بالقاهرة عام 2014. ورغم الجدل الموضوعي، وغير الموضوعي، الذي فجره فوز حمور إلا أننا حزنا على مكان عليٍ في ذلك المحفل الإقليمي، وهذا هو المهم. واعتقد أن قيمة العمل الروائي تأتي حينما يتكثف النقد حول الفكرة اتفاقا، أو اختلافا. بل إن منتجات الفنون جميعها عرضة على الدوام للنقد، والهجوم معا. وأحيانا يتجاوز النقاد هذه المنتجات لينالوا من سيرة المنتج أكثر من تحليل، أو تأويل، إنتاجه. وهذا أيضا أمر مفهوم بالنظر إلى درجات الاهتمام، وأولوياته، ونوعيته، عند الناقدين.
وبرغم أن هناك مدارس نقدية تركز على النص، وتفضل قتل المؤلف، ولكن هناك أخرى تبحث في نوايا الكاتب، وتدرس تاريخه بمعزل عن النص لتقول مثلا عنه إنه يخدم إمبريالية محددة. ونقد الروائي، لا عمله، ليس بدعا. فالمفكرون، والكتاب، والمعلقون الإعلاميون، في العالم كله، وليس فقط في عوالمنا الإقليمية، كثيرا ما يشكون من تجاوز أفكارهم المطروحة عن عمد ليتم الإرزاء بسيرهم، أو تتبع أخبارهم الخاصة.
بشرى كان يمثل لنا أستاذ جيل، ويجلس هناك في قمة العطاء المحدث مع مبدعين مميزين. وهم من بعد أساتذة له يكبرونه سنا. حين صدرت مجموعته من دار نشر جامعة الخرطوم في النصف الأول من التسعينات تلقفناها مثلما يتلقف الجائع خبز الطابونة الطازج. والكتاب حينذاك ثروة. لا نتبادله إلا مع الثقاة ولا نستعيره إلا من الأقربين. بل إننا في زمن قريب كنا نجمع الملاحق الثقافية، والمجلات، في دواليبنا الخشبية، ونتفاخر بامتلاكها. وفِي ذلك الوقت كان بشرى نجما وسط جيله الحداثي الذي عُرف بإتقان أكثر من فن. تجد أستاذنا يحيي فضل الله بمجموعته التي أصدرتها ذات الدار: حكايات وأحاديث لم تثمر. يقرض الشعر، ويخرج المسرحيات، ويمثل فيها. وحين أشرفنا على الملفات الثقافية كان ينفحنا بمقالاته النقدية. وهناك البشير سهل والفاتح مبارك وأمفريب والسر السيد وصلاح الزين ويحيي الحسن الطاهر وقاسم أبو زيد وعبد اللطيف علي الفكي. وهؤلاء كلهم كانوا يتقنون الكتابة النقدية، وفي ذات الوقت يبدعون، كل في مجاله. بشرى كان بخلاف كتابته القصصية يكتب شعرا جميلا. ظاهره السهل الممتنع. ولكنه كان يضج بالترميز الكثيف. وهذا الشعر الفصيح العامي هو نهج بشرى وبعض الشعراء من مرحلته.
وحين التقى صاحب “حكاية البنت التي طارت عصافيرها” بمصطفى سيد أحمد في روسيا وصلنا من هناك شريط كاسيت طازج. كان المغني يصدح بكلمات بشرى: “نفسي في داخلك أعاين” و”سافر مطارات الوداع ضجت قدامك وراك”. ذلك الشريط كاد يتهتك من كثرة استماعنا له. وكثيرا ما كنا نحمله في جيوبنا حتى إن وصلنا محل مرطبات قايضت جماعتنا السماع للشريط بكوبين أو ثلاثة من العصير. وبعد فترة نمت صداقتنا مع أصحاب المرطبات حتى إنهم أدمنوا مصطفى. وكثيرا ما نمر بجانبهم، ويلحفنا صوت مصطفى في غدونا ورواحنا. حين أتى بشرى من روسيا فرحنا بمقدمه بعد أن نال درجة الدكتوراة في اللغة الروسية. وبينما كان الصمت الثقافي المصطلح المصكوك حينذاك يغيم الساحة الثقافية خرج بشرى للحديث في الندوات. أذكر له ندوتين مهمتين خفنا أنه سيعتقل بعدها. الأولى في دار حزب الأمة الحالي وكانت الهيئة القومية للآداب والفنون تشغلها في عام ١٩٩٠. إذ كان الراحل التشكيلي أحمد عبد العال قد دخل مع النظام وظل يبشر بأسلمة الفن، محاولا استقطاب المبدعين للهيئة. في تلك الندوة تحدث في المنصة ثلاثة من المبدعين وكان بشرى وسطهم. تحدث عن الكبت الثقافي والمعاناة التي يواجهها المبدعون. وعندما علا التصفيق راح بشرى يزيد في نقده الذي لم يعهده الناس في تلك الفترة بعد أن اختفى الكثير من المثقفين. وقد كان توقعنا أن بشرى سيعتقل يومئذ لا محالة، ولكن لم يمسه الوكلاء.
الواقعة الثانية كانت في عطبرة. سيرت هيئة عبد العال قافلة ثقافية إلى هناك وكنا قد تلقينا دعوة من الصديق مزمل سليمان رئيس رابطة العنادل الثقافية بعطبرة. وكان بشرى ضمن المدعوين الذين أذكر من بينهم خورشيد وخليل عبدالله الحاج وجراهام ومحيي الدين فارس والماحي سليمان ومهدي محمد سعيد ومصطفى سند وإسحق أحمد فضل الله وعلي يس وعبد الرحيم المظاعني وصلاح فرج الله وسعدية الصلحي وعمر الفاروق وعدد هائل من المبدعين والكتاب.
في تلك الندوة تحدث الأستاذ إبراهيم العوام عن مدرسة الواحد التشكيلية ولكن يحيي فضل الله وبشرى تصديا له. وصف يحيي المدرسة بأنها ركوب للموجة كما قالها بالحرف. قاصدا أن عبد العال والعوام أسسا تلك المدرسة الفنية تواءما مع جو الأسلمة الذي يغطي البلاد. وأتى بعده بشرى ليتحدث عن الكبت الثقافي والأوضاع المهينة التي كان المبدعون يعانونها من اعتقال وتعذيب وعسف. ولكن الشاعر صديق مجتبى هاجم بشرى ودافع عن النظام. بشرى من جانبه استمر في نقده حتى حدث هرج ومرج ضبطه مقدم الندوة بعد صعوبة. وقد كان كل أعضاء البعثة الثقافية يتخوفون أن اعتقال بشرى بعد الندوة. ولكن عدنا لمقر الإقامة بالدامر في ذلك الليل البهيم وبشرى يجلس في وسط الحافلة التي أقلتنا.
ولعلي أذكر بشرى بتلك المشكلة التي نشبت بين محيي الدين فارس وصديق مجتبى في منتصف الطريق حتى إن فارسا أوقف الحافلة وأخذ بغضب حقيبته ونزل من الحافلة ليقول إنه عائد إلى عطبرة ليقضي الليل مع صديقه العطبراوي، والذي غنى له “لن أحيد”. ولكن بشرى ومصطفى سند ذهبا إليه واقنعاه باستحالة المهمة وأصلحا بين الاثنين.
لم يبق بشرى في السودان طويلا بعد تلك الأيام إذ وجد نفسه ضمن المحالين للصالح العام من جامعة الخرطوم فغادرنا الى السعودية ليعمل بإحدى صحفها. ولكن ظل من هناك يواصل في الكتابة للخرطوم القاهرية الى أن جاء الإنترنت لنلتقي به عبر المنابر الثقافية ووسائل التواصل الاجتماعي. وقبل أعوام سخاءنا جدا وفي ذاكرتنا تاريخه المشرف كمثقف أن يتقبل من علي عثمان جائزة زين، وألقينا عليه باللوم على هذا الصنيع. ولعله تقبل رأينا بصدر رحب.
أما عبد العزيز بركة ساكن فقد حرمتنا ظروف الغربة من التعرف عليه من قرب. وأذكر أنني حين عجت للسودان عام 2006 تعرفت عليه بعد انتهاء ندوة عقدتها جماعة القصة حاضر فيها الأستاذ معاوية البلال الذي كان عائدا للتو من مهجره في أستراليا. قرأت لساكن “الجنقو مسامير الأرض” و”مسيح دارفور” واستمتعت بقدرته السردية التي اتفق النقاد قبل حيزه على الجائزة أنه يمثل صوتا روائيا جديدا ومميزا. وبالمقابل قرأت معظم ما كتب عنه خصوصا أنني لست أملك مفاتيح نقد الرواية. وربما اعترف أن متابعة الروايات والأفلام والمسلسلات هي نقطة ضعفي الكبيرة. ولذلك لم أنمي ذوقا في معرفة الأشياء التي تعمق العقل القصصي بخلاف متانة السرد وجزالة اللغة والقدرة على توظيف بناء قصصي. وربما جاءت معضلتي أنني برغم قراءتي لنقد الروايات وجدت أن المعايير في العمل السردي متقلبة ويصعب الاتفاق حولها، وغير هذا أن العمل الروائي مفتوح على أسئلة الكون الأيدلوجيا والبيعة والسياسة وحياة المجتمعات، ومن هنا تتعدد التفاسير للعمل الروائي. ولكن على كل حال ذهبت معظم الأحكام والانطباعات في صالح بركة ساكن، وهكذا قفز ليحتل مكانا عليا في مستوى جيله والأجيال التي سبقه حتى حاز على جائزة الطيب صالح التي تتعهدها مركز عبد الكريم ميرغني.
حين كنت أقدم برنامجا ثقافيا يوميا عبر إذاعة عافية دارفور قصدت استضافة ساكن لأفهم رؤاه الفكرية والثقافية، ولكن لظرف أسري طارئ كلفت الزميل ناصف صلاح الدين بإجراء المقابلة ولعله توفق في محاورته ربما بشكل أفضل مني، كون ان الصديق ناصف يفهم في السرد الروائي أكثر مني.، ولكونه قرأ كل روايات الجيل واستطاع عمل مقاربات في أسئلته بشكل يدل على تمكنه من معرفة روايات بركة ساكن.
من خلال الروايتين اللتين قرأتهما لعبد العزيز بركة ساكن، معززا بالدراسات والمقالات النقدية التي تناولت أعماله، أحسست أن ساكن ينزع إلى معالجة قضايا التساكن داخل منظوماتنا الإثنية. وبصورة أخري يمكن القول إنه يتبنى منهجا سودانويا في النظر إلى كيفيات الحلول للقضايا المجتمعية، وربما أحيانا يكشف عن حرص على التطرق إلى المسكوت عنه داخل بنية الثقافة السودانية. وخلاف ذلك لا مناص من التأكيد أن ساكن يمثل جزءً من تيار ثقافي يمثل القطيعة مع معطيات الثقافة المركزية. وأيا كان الاتفاق مع رؤيتي المختزلة هذه كما بدت لي، فإن الهم هو أن الروائي ساكن حاز على التقدير الأدبي المحلي والعالمي وترجمت أعماله لبعض اللغات. وما فوزه بجائزة سين السويسرية سوى حسم لجدل كبير حول قدرته ككاتب روائي مميز. ومهما كانت آراء القلة الذين ينتقدونه فإن مشروع ساكن الثقافي النقدي الطابع إشكالي في حد ذاته. بل إن كل المشاريع الثقافية، والفكرية، المحلية والعالمية، والتي تعتمد ثيمات الإصلاح، تعد عرضة للرفض هنا، وهناك بحكم الطبيعة الجدلية للبشر في مقاومة التجديد. فالطيب صالح نفسه، كمثال أقرب إلينا، شكا من بعض الدراسات التي عالجت رواياته، وفوقا عن ذلك جاء الاتهام بعروبيته في مقابل السودانوية التي افترضها بعضنا فيه، لتعمق حزنه على كتابات كثيرة انتاشته خارج محور السياق السردي.
ليس أمام ساكن، والحال هكذا، إلا المزيد من الإصرار على مراكمة العمل الروائي ما دامت نفسه قادرة على خلق مجالات للحوار حول رؤاه، وأفكاره، ذلك رغم أنه كثيف الإنتاج في ظل هذه الفترة القصيرة التي عرف فيها. وكما قلنا إن هذا الحوار بموضوعيته، وغير موضوعيته، سيظل يعقب الإنتاج الفني. ولكن يبقى الحكم للجمهور، وهو المعني بالأمر. إذ إننا نعرف أن العمل الإبداعي لا يمكن أن يجد كل الرضا أو القبول من المتلقين. ولا بد أن غاية الكاتب هو إثارة ذهن قراء الرواية ليقفوا على بينة من تصوراته بعد الاستمتاع ببنائية العمل الروائي، وتناقضات شخوصه، والسرد الذي يلتقط التفاصيل المهمة التي ربما لا يراها الرجل العادي. على أن النجاح الباهر الذي حققه ساكن للرواية السودانية سيفتح مجالا للروائيين الشباب لتجاوز عقدة الطيب صالح، كما يرى بعض النقاد، ليؤكدوا أن حواء السودانية قادرة على إنجاب غير الروائي العظيم الذي عرف بالسودان، ويعد من أكثر الأدباء العرب، والأفارقة، الذين ترجمت أعمالهم للغات الإنسانية.
إن فوزنا بجائزتي سين وكين وسط هذه الإحباطات السياسية مؤشر كبير إلى أن بلادنا تحتاج فقط إلى الاستقرار حتى يعيد العالم الاعتبار لقيمة الفرد السوداني، وعمله. وما من شك أبدا أن الجائزتين قد حفزت الكثير من الأدباء، والروائيون خصوصا، على المثابرة في العطاء. فالذين لم يشملهم الاعتراف المحلي والعالمي أمامهم الفرصة لتجويد أعمالهم حتى ينالوا ما يستحقون من اهتمام محلي، وإقليمي، ودولي. ونأمل أن يفهم الإخوة الروائيون أن فوز ساكن، وبشرى، هو فوز لمشهدهم الروائي جميعا، وهم يتناوبون فيه لقيادة الوعي السوداني نحو وطن للديموقراطية، والتسامح، والتقدم. وما من شك أن كل أعمالنا الروائية تتكامل بعضها بعضا لتمنح المتعة لقرائها، وتنشط أذهانهم، وتحرض عقولهم على الانفتاح.