المبدأ الذي اشتغل به المؤتمر الوطني، وأبقاه على السلطة دون السقوط مبسط، ولكنه قذر. فبعد أن اقتنع الإسلاميون أن تجربتهم في الحكم الإسلاموي وصلت إلى طريق مسدود فكروا في ترك شغل الدين والاعتماد على ثقل الدم فقط. فانطلاقا من مثلث حمدي عمل الإخوان على الارتكاز على التحيز القبلي كمصد للسقوط الداوي. وقد ساعد في ذلك التوجه انضمام معظم أبناء الغرب من الإسلاميين إلى المؤتمر الشعبي، ومعظم أبناء الوسط والشمال إلى المؤتمر الوطني. كما أن نشوء الحركات المسلحة التي ضمت أبناء مناطقها بأغلبية كاسحة أسهم فيه بعض الإسلاميين بشكل لا تغفله العين. وفي هذا المناخ، والذي مثلت ما سميت المفاصلة ميلادا له، تحولت الساحة السياسية إلى بيع وشراء نخب المركز، وكذلك، الأقاليم التي شهدت النزاع الدموي. وبالتالي تعالى الصوت القبلي على الصوت القومي ما نتج عنه اضمحلال البدائل القومية التي تنادي بها النخب التي لم تتورط في هذا التحدي العصيب الذي ما تزال تواجهه البلاد.
فعلى مستوى التنظيمات السياسية التقليدية فإنها عجزت عن منافسة الحكومة في هذه الساحة الجديدة. وطبقا لذلك فشلت الأحزاب أيضا في الإبقاء على الجانب القومي، أو الأيديولوجي، للصراع. ذلك بعد أن تشتت النسيج السوداني في المركز والأقاليم معا، وتمخضت الولاءات الأولية ذات البعد المطلبي في كل بقاع السودان حتى ينصفها الحكم الفيدرالي. وهكذا ما بقيت قبلية واحدة إلا وأعلنت عقد مؤتمرها حتى تعلن ولاءها للمؤتمر الوطني والذي شجع إعلاميا، من جانبه، هذا التوجه. بل إن تقسيم الولايات صارت عبره الحكومة خاضعة لابتزاز القبيلة الموالية لها، حتى انتهينا إلى ما يقارب الخمسين ولاية، وذلك في بلد حكمه الإنجليز بعدد من الموظفين لا يتجاوز عددهم الألف.
ولقد شاهدنا بسبب المبدأ القبلي للمؤتمر الوطني كيف أن نخبا كانت كثيفة التحرك لإسقاط الحكومة تحولت إلى أكبر مدافع عنها. وبعض من هؤلاء النخب المؤدلجين يسارا، ويمينا، ومعهم مستقلون، عرفوا اللعبة السحرية مع النظام وتواثقوا لينتموا إليه. ولم يبخل عليهم، إذ وظفهم في مجالات الإعلام، والدبلوماسية، والوزارة. وعلى قمة هؤلاء كان الدكتور محمد إبراهيم الشوش، والدكتور خالد المبارك، والدكتور أحمد بلال. ولقد ترك كل هؤلاء النخبة علمهم، وتجاربهم، من وراء ظهرهم، وعرضوا في حلبة النظام بالرقبة، والأرداف، بوصفهم رافضين لـ”تمزق السودان” إن تركه الإسلاميون. وما أسهل تبريرات الذين يتخذون موقفا سياسيا ما، فدائما ما يكون مدخلهم إلى وظيفة الحكومة هو البدء بمهاجمة الشهيد محمود محمد طه، أو مهاجمة المحكمة الجنائية الدولية، أو شيطنة مشاريع الحركات المسلحة، أو صف الحركة الشعبية بأنها تتبنى مشروعا استئصاليا. وهكذا تصل الرسالة ثم يرد الطغاة برمي اللحمة المتسخة على الأرض كي يلتقطها هؤلاء المؤلفة قلوبهم الجدد.
-2-
وكي لا ننسى فإن مبدأ الحكومة القبلي هذا سبقه إجراء الحكم الفيدرالي الذي وقف على رأسه الدكتور على الحاج. إذ قسم بعون تنظيمه السودان ضمن كنتونات جهوية، ثم قبلية، لضمان سيطرة الحركة الإسلامية على مجمل المواطنين السودانيين، ما دام أغلب ممثليهم في الحكم الفيدرالي سيهرولون إلى منصة الولاء لحكم الإنقاذ في مقابل منحهم النفوذ في مناطقهم، كما هو حال هؤلاء الانتهازيين الذين ينشطون في الريف ليثروا باسم التمثيل الجغرافي. ونتيجة ذلك أفرزت وضعا تحولت فيه البلاد إلى محميات قبلية قوية الشوكة. ولاحقا لما حمي الوطيس، وصارت الجهوية والقبلية أمر واقع، ولا بد أن تتعامل الحكومة التي صنعتهما مع إفرازاتهما، تأثرت الأقاليم جميعها بهذا السرطان القبلي الذي صعبت السيطرة عليه. وقد أعاد هذا الفوران القبلي البلاد إلى سنوات ما قبل المهدية، حيث كانت العشائرية تستحوز على ديارها، وحواكيرها، وعمودياتها. تحارب يوما هذه القبيلة، وتغير يوما على تلك، أو تتحالف مع هذه وتلك لاكتساح أراضٍ زراعية، أو مراعٍ تخص قبيلة أخرى.
لكل هذا لا بد أن نفهم أسباب ضعف تياراتنا السياسية التي تمثلها أحزاب ذات ثقل تاريخي، إذ نقلت سودان ما قبل وبعد الاستقلال من مرحلة العشائرية إلى مرحلة تشكل بدايات التوحد القومي على فكرة. وهذا الضعف الحزبي الذي نتج عن تحوير الصراع التاريخي بين السلطة المركزية ومعارضيها السياسيين ليأخذ بعدا جهويا، تأسس على الصراع في الملعب السياسي بين نخب المركز والهامش، كما قد يراه بعضنا، ولكن لا يغوص في معرفة امتداداته. ففي مستويات أخرى نشب الصراع القبلي بين نخب الإسلاميين بعضهم بعضا، وبين نخب الهامش المواليين للسلطة بعضهم بعضا. أي أن القبيلة حطت بنفسها الأمارة بالسوء إلى بطونها، وأفخاذها، حتى شاهدنا أبناء الزيود وأولاد عمران الذين نشأوا على تاريخ العمومة التليدة وقد مثلوا بجثث قتلاهم من الجانبين. وهناك لاحظنا الصراع الدموي بين قبيلتي البني حسين والرزيقات الشمالية، أو المحاميد الذي مات فيه ما يقارب الألف بسبب ذهب جبل عامر. وكذلك رأينا الصراع بين الرزيقات والمعاليا الذي حصد أرواحا عزيزة للجانبين. وعلمنا بذيول المجزرة الدامية بين الشكرية والحلاويين في حلفا. أما في ريف أمدرمان فوقعنا على آثار القتال الدامي حول العشب بين الجموعية والهواوير الذي راح ضحيته نفر عزيز للقبيلتين. وإذا شملنا جنوب السودان الذي استقل فإن الحكومة مسؤولة عما جرى في الحرب بين رياك مشار الذي دعمته معنويا، وماديا، وعسكريا، ضد سلفاكير بحجة وقوفه مع الحركات المسلحة.
-3-
ربما خدعت بعض رموز الأحزاب المركزية، أو نخبها، لفترة طويلة بمبدأ الحكومة الشيطاني الذي جعل محور الصراع التاريخي بين “هم” و”نحن”، حتى أنها فضلت بقاء الحكومة بحجة عدم نضوج ما سمته البديل. ولكن الشئ الملاحظ أن قيادات تاريخية وشبابية من الحزبين الكبيرين قد اتخذت مواقفة قوية ضد توظيف أبناء السادة في السلطة استجابة لتحقيق مبدأ الحكومة الذي يتغذى على رمزية قيادتي الحزبين لثقلهما ضمن المحور الجهوي. ولكن هذه المواقف أدت إلى تشطير الحزبين كما أرادت الحكومة بسبب ابتعاد هذه القيادات عن العمل الحزبي، أو تمحورها في تنظيمات جديدة مبعثرة، أو تجميدها لعضويتها. وفي كل الأحوال كان المنتصر هو المؤتمر الوطني الذي يواجه اليوم مصيرا قلقا بعد أن فشلت سياسة الاعتماد على شغل الدين أولا، ثم ثقل الدم ثانيا.
يتوقع المرء أن المزيد من العصيان المدني سيجلب التغيير الذي تنسدل خطوطه الآن على المشهد الوطني. وذلك بعد أن نشطت الروح القومية للسودانيين للتخلص من نظام التفرقة العنصرية. ولا بد أن المستقبل سيكون لسودان خال من أي محاولات لبننة، أو صوملة، كما يسعى إلى ذلك وحده المؤتمر الوطني. كل التخويفات التي ما أنفك الإنقاذيون يهددون بها الشعب السوداني سوف تذوب في الهواء آن عاجلا، أم آجلا. فلا أحد غير الإسلاميين يرفض أن تتعافى البلاد، ويتحقق فيها وضع ديموقراطي قائم على الحرية والمساواة والعدل، حيث لا يقهر فيه أحد، أو يظلم لمجرد أنه غير منتم لأيديولوجيا الإسلام السياسي. الإسلاميون فقط هم الذين شيطنوا الساحة السياسية واستخدموا أحط الأساليب غير الإنسانية للتحكم على رقاب السودانيين بعد أن كذبوا عليهم، وأذلوهم، وسردوهم، واغتصبوهم، وجلدوهم، وأفسدوا ذمم الكثيرين منهم. ولذلك سوف يدركون يوم انتصار الشعب حقيقة ضعفهم، وحتما لن يكابرون حينئذ أن اختباءهم في جحورهم سيكون الحل الأمثل لهم.
[email protected]