انتهى الزمن الذي يشتم فيه الناس لإثنائهم عن التعبير عن آرائهم المخالفة للمجموعات. هذا الزمن هو زمن المعرفة المفتوحة على أفق التجربة الإنسانية الممتدة. إذ لا مجال لقسر الناس على السكوت لمجرد الإشارة إلى أصولهم العرقية حتى يبتعدوا عن المنابر العامة التي فيها يعبرون عن الحق، والخير، والجمال. أما الزبد فسيذهب جفاء مثلما دل التاريخ. الذين يظنون أن مجرد تعيير المخالف بقبيلته سينقص من شأنه، أو شخصه، أو حكمته، يسيئون إلى أنفسهم قبل أن يعبروا عن سوء طويتهم، وحاجتهم إلى الاغتسال من درن الماضي، والتواءم مع حركة التاريخ الإنساني. ود. الواثق كمير ليس هو أول، أو آخر، من تعرض للغمز من قناة قبيلته عبر الأسافير. ففي بلادنا تاريخ موثق، ومؤسس أيضا، عن معايرة مرة للناشط القومي بقبيلته. طال هذا الأمر قمم هرمنا السياسي، والاجتماعي، والثقافي، وما يزال يعطل مسيرة الاندماج القومي. فأبسط مثال من الماضي أن الزعيم الأزهري رسمته كاريكاتيرات جريدة الناس وهو يجلس على الأرض ليطلب “الكرامة”، بينما تقبع عصاته بيمينه، وقرعته بشماله. أما حاضرا فالكاتب إسحق أحمد فضل الله قد نضح قلمه بما فيه بعد المفاصلة ليقحم تشادية الترابي في الصراع، وكأن الانتماء إلى دولة تشاد، إن صح، يحط من قدر شيخه! وذلك المقال القذر موجود في الأرشيف ليعبر عن كيف أن الدم بالنسبة لبعض الإسلاميين المتوجب عليهم إسداء نماذج الدين المتسامحة أثقل من الدين حين يجد الجد. كما أن الكاتب سمع بأم أذنيه بعد اتفاق الدوحة إلى من يتعرض إلى جذور التجاني السيسي الفوراوية ليشكك في أهلية قيامه بأمر السلطة الانتقالية.
أما رئيس البلاد المفترض فيه التصريح بكل ما هو مسؤول، ومعقول، من قول فقد خرج يوما إلى الناس ليضرب الأستاذ فاروق أبو عيسى من حيث أراد في مقتل. وقال ما قال من عبارات نقلت على الهواء مباشرة تتماشى مع نهجه في التلفظ العرقي الشبيه لما جاء في حديث الغرباوية. وحتى في التعليقات التي تنشر تحت مقالات الكتاب في كثير من المواقع تعرض الإسلاميان غازي صلاح الدين، وعلي الحاج، إلى أقذع أنواع العبارات من معارضين، والتي تهدف افتراضا الإساءة إلى أصولهما العرقية. ومن خلال التجربة في كثير من مجالات العمل العام لاحظت أن موضوع تبخيس القبيلة يسم بعض تصرفات كثير من الناس المشتغلين في هذه المجالات التي ينبغي أن تنصهر فيها معاني القومية، على أن يحكم على الفرد بعطائه الذي يقدمه للمجتمع العريض، وليس بأي شيء آخر. وأشهد الله أنني كنت أجلس يوما أمام منتدى لتكريم رجل دين في قاعة الصداقة، وحين وشحه مسؤول كبير نط مدير قاعة الصداقة نفسه ليقول لجاره: ياخي ده فلاتي. وقد شعرت كأن شخصا صب ماءً ساخنا على رأسي. فكيف لرجل استؤمن على إدارة هذه المؤسسة التي أنشأها الآسيويون لتدل على معنى الصداقة أن يسعى إلى إقحام القبيلة في موقف كهذا، وربطها برجل تحج إليه الآلاف من بقاع السودان لتدرك عنده السكينة الروحية. الكاتب نفسه لم يسلم بجريرة شعيب هذه. فبعضهم ربط الاسم بقبيلة الفلاتة أيضا حتى إن كاتبا إسلامويا معروفا وصفني في مقال ضدي بأنني من الذين أتوا إلى السودان على ظهور أمهاتهم. وليتني كنت فلاتيا، أو هوساتيا، لأتشرف بالانتماء لهاتين القبيلتين اللتين تتوطنا على ثقافة غنية امتدت إسهاماتهما الفقهية، والثقافية، والفنية، على طول الحزام الأفريقي. وفي السودان أعرف كثيرا من أفراد هاتين القبيلتين اللتين قدمتا أبدع ما يكون على مستوى السياسة، والفقه، والتجارة، والاقتصاد، والرياضة، والطب، والهندسة، والاكاديميا، وغيرها من المجالات. ودون ذكر أسماء فإن الذين يتحدرون من القبيلتين المذكورتين أفضل من أطربوا السودانيين، وشووا غناء أمدرمان بشيةٍ من ألحان عميقة، وما أجمل أصواتهم الغليظة، والآسرة، والقوية. عجبا، ما لهم كيف يحكمون. ما أعرفه أن هناك خمسة من فناني الدرجة الأولى الذين شكلوا ذوقنا الفني، وملأوا المكتبة الغنائية بجياد النغم بينما جذورهم تعود للقبيلتين.
-2-
حين استمعت إلى ذلك التسجيل الذي تعرض فيه د. الواثق إلى الشتم من أحد المنسوبين للحركة الشعبية تعجبت لهذا التطفيف. وشككت في بادئ الأمر بأن لا بد أن هذا أمر ملفق للنيل من الحركة التي ظل الواثق ينتقدها بكثير من موضوعية في مقالاته الأخيرة. كان مرد التشكيك أن الذي ينتمي إلى الحركة الشعبية إنما هو الذي تشرب نظرية السودان الجديد التي تنادي بوجود مستقبل متسامح للبلاد تنمحي فيه الأفكار القبلية بالصورة التي طرحها الراحل جون قرنق. وظننت أن كادر الحركة الشعبية، أي كادر، مثقف قوميا بما فيه الكفاية حتى لا يقع في آسن النظرة القبلية الضيقة التي قادت الآلاف إلى مهارق الموت لهزيمة رسوخ القبلية، أو الدفاع عنها. ولاحقا اتضح لنا أن ذلك الكادر إنما هو شخص معارض بلحمه، ودمه، ويعيش في خارج السودان. ولقد سعدت جدا أن قامت الحركة الشعبية بفصل ذلك العضو، والذي هو أصلا كان قد تعرض، كما قال بيان الحركة، إلى مساءلات تنظيمية نسبة لخروجه عن خط الحركة. فأشخاص مثل هؤلاء موجودون في المجتمع، وفي كل حراكاته يصولون ويجولون بغير هدى. وإذا أردنا بصدق أن نبني سودانا جديدا فما علينا إلا أن ننظف مؤسسات المعارضة من كل الذين يمارسون ذات الأفكار، والتصورات، والمواقف العرقية، التي تمارسها جماعات داخل السلطة. والحقيقة إن كمون أسس العنصرية في تاريخ البلاد، والذي استورثناه من تاريخ الاسترقاق، سواء على مستوى السلطة، أو الأفراد، ينبغي ألا نتصور أنه صنيع النظام فحسب. فهذه الثقافة ينهل منها بعض المعارضين للنظام أنفسهم، والذين لم يحموا أنفسهم من التحلل من تلك الثقافة البغيضة. ولهذا السبب فإن التغيير باتجاه الديموقراطية يمثل فقط مدخلا لتأسيس ، ونشر، ثقافة التسامح الديني، والعرقي، والجندري. وهذه العناصر الثلاثة للأزمة هي التي أدت إلى الأزمة التي أقعدتنا بنا دون تحقيق الاستقرار للبلاد. والثابت أن هذه الأزمات لا تحل بالتصورات الفكرية وحدها، والتي تعتبر عند بعض الناس مواضيع ثانوية تختفي باختفاء الاستبداد، أو هزيمة البنية الرأسمالية الفوقية، أو إقامة الدولة العلمانية، أو الإسلامية، أو الإنسانية، أو المدنية، أو الفيدرالية، أو غيرها من أنماط التفكير المتصل بضبط سياقات الدولة. إذ لا بد من ابتداع القوانين الصارمة التي تحرم الإساءة للدين، أو العرق، أو الجندر، وتهين كرامة الإنسان، وتغمط حقوقه. ولا يغرننا أن مؤسسات الديموقراطية وحدها يمكن أن تخفي هذه الظواهر. فبالرجوع إلى تجربة حكم ثورتي أكتوبر وأبريل نجد أن الديموقراطيين فشلوا في فهم أسباب الاستقرار الحقيقية في البلاد. ولذلك التهمهم غول الدين، وحاصرهم التمرد الجنوبي، وعجزوا عن معالجة ضمور مساهمة المرأة.
إن من حق الواثق أن يعبر كما يحلو له نقدا للحركة الشعبية أو عموم المعارضة ويجب أن يواجه تصوره الموضوعي بالحجة الموضوعية. وقد تعرضنا من قبل إلى مقالاته التي رأينا أن مضمونها لا يتسق مع حقيقة الواقع المعاش، ولا سند له في فهم جوهر الإسلامويين، ومراميهم الإستراتيجية. إذ إنه يرى ضرورة التوصل إلى حوار مع النظام دون أن تتحقق عمليا تلبية المطلوبات الأساسية التي تنتج حوارا مثمرا. وقد اتفقت كل التيارات السياسية على معنى هذه المطلوبات، وأهميتها، وفاعليتها، حتى إن إسلاميين كثرا رأوا أنه من دون توفر هذه الشروط والضمانات فإن النظام لن يسعى إلى شئ أكثر من السعي إلى كسب الوقت للبقاء في سدة السلطة. والوضع الآن يعبر عن صحة تلك التخوفات التي قيلت قبل عامين على لسان زعيم حزب الأمة، والحركات المسلحة، وقوى الإجماع الوطني، والمعارضة الإسلاموية، وقوى المجتمع المدني. فالنظام لم يحقق من الوثبة إلا توحيد نفسه إسلامويا بدخول المؤتمر الشعبي إلى السلطة، وخلصت المسرحية كما شاهد الواثق الآن إلى توزيع مناصب دون مخاطبة القضايا الأساسية التي تواجه البلاد. وفي مقال الواثق الأخير أحسست كأنه يقول لقادة الحركة الشعبية: أذهبوا وقاسموا النظام السلطة لأنكم ضعفاء ولا تقوون على الحرب. في حين أن الدكتور الكريم يدرك تماما أن تلك المقاسمة حدثت من قبل ولم تحل مشكلة الاحتراب بسبب رغبة النظام الإستراتيجية في الخلف بأي عهد. وصحيح ما يقوله الواثق إن الحرب قد دمرت البنيات التحتية، على علاتها، في مناطق النزاع وأضرت بمواطنيها، ولكن ألم يعلم الواثق أثناء وجوده في قيادة الحركة الشعبية أن الحرب بين الشمال والجنوب قد أهلكت حينذاك ملايين الأرواح، ودمرت الجنوب، ومع ذلك لم يجاهر بالقول بضرورة إيقاف حمام الدماء ومطالبة الحركة باقتسام السلطة مع الترابي كما أقدم أروك طون، وكاربينو، ورياك مشار.
-3-
إن الدكتور الواثق يدرك، لا محالة، أن القضية الأساسية التي تواجه البلاد اليوم لا تتمثل ابتداءً في تعنت الحركة الشعبية في التوصل إلى حل سلمي، أو حلم السعي إلى إسقاط النظام عبر تحالفات الإجماع الوطني، والتنظيمات الشبابية، وقوى المجتمع المدني في الداخل والخارج معا. فالقضية بدرجة أولى تتركز حول إسلاميين متزمتين أتوا إلى السلطة، وتحملوا مسؤولية كل ما يجري في البلاد، وقرروا أن يحكموا الناس بالاستبداد الديني، وأعلنوا استعدادهم لكل من ينازلهم بالطرق السلمية، أو الحربية. وحددوا أن البلاد لا تحل إلا لهم وحدهم، يؤسسون أنفسهم اقتصاديا عبر ابتلاع كل مؤسسات الدولة، وتهجير الناس بالملايين بما فيهم د. الواثق المحرم على الأجيال الاستفادة من خبراته الأكاديمية، على أقل تقدير، في جامعة الخرطوم. وهؤلاء الجماعة كما يعلم الواثق أنه لا مانع لديها أن تعتدي على قانونها المنظم للعملية الحزبية حتى يبني الحزب الشيوعي الصيني مقر حزبها، أما إذا حرقوا قريتك، واغتصبوا ابنتك، وسعيت لتطلب النجدة من الإنسانية فأنت عميل، وخائن، وزنديق، وغير وطني. هذا هو النظام الذي يستأمنه الواثق للتداول معه حول مستقبل البلاد. ذلك بالرغم من أن الدكتور نفسه قد شهد عيانا بيانا كيف أن ما سميت اتفاقية السلام الشامل التي عاصر تطبيقها قد أفرغها النظام من مضامينها ومن ثم لاحق قادة الحركة أنفسهم بالاعتقال. إذن ما هي ضمانات الواثق التي بموجبها يمكن للحركة الشعبية، أو قوى الإجماع الوطني، والحركات المسلحة، وقوى المجتمع المدني، أن تثق في نظام يمتلك أكبر ترسانة أمنية في العالم خصصت لحماية السياسة الإسلاموية حتى عودة المسيح؟، والتي هي بالأساس هدفت إلى تمكين عضوية الحركة الإسلامية، لا إحداث قدر من التقدم في تنمية البلاد، وحماية مواطنها، وذلك في ظل بقاء الاستبداد.
إن ما يبحث عنه د. الواثق من حل لمشكلة البلاد لا يتم عبر الخضوع إلى الحوار مع النظام دون شروط، أو ضمانات، وإنما يكمن في ضرورة إحداث التنوير الفكري، والثقافي، وتعرية ثقافة الاسترقاق، والتي ما تزال تحكم البلاد، وبعض المعارضين. وهذا هو المدخل الذي من خلاله يتفتت ما يعشش في عقول الناس من مهددات للبنية الوطنية. وذلك حتى نصل إلى عهد ديموقراطي تعالج فيه جذور الحرب قبل إيقاف الحرب. ولعل الواثق والمنادين بإيقاف الحرب يعلمون تمام العلم أن الحرب هي نتوء السطح. بل هي حقيقة حتمية متى ما تغذت بأسبابها عبر التاريخ. لا دواس بلا غبينة. وقد دلت حروب البلاد بعد الاستقلال على هذه الحقيقة الدامغة. فمئات من جلسات التفاوض قد عقدت من أجل حل الصراع بين الشمال والجنوب، كما أن حروب مناطق النزاع الأخرى شهدت مئات الجولات وعشرات الاتفاقيات. ومع ذلك لم تقف الحرب كما نتمنى عاطفيا دون أن ننظر تحت ذلك السطح من جذور متجذرة. بل لقد استعرت الحرب أكثر، وعمقت صعوبة الحلول السلمية في المستقبل المنظور والبعيد، ومزقت معظم الأسر السودانية ورمت بها في الدياسبورا. ولذلك فإن المعارضين السودانيين جميعهم يرون ضرورة للحل السلمي بالشكل الذي ينهي النزاعات حتى تقوم دولة مواطنة حقيقية تعالج بعض القضايا بالتراضي والقانون. أما القضايا الشائكة المتصلة بذهنية المستبد، والعنصري، والذكوري، وغيرها، فيمكن حلها عبر نشر فكر الاستنارة بمثابرة لا نهائية، وفي مناخ حواري قائم على احترام الآخر، وليس قائما على المعايرة بالقبيلة. وهذا هو إجماع رأي المعارضين الرافضين لحوار صوري ينتهي إلى مناصب، وذلك في وقت يعتمد النظام وحده على آلته العسكرية، والأمنية، والإعلامية، لاستبقاء سودانيي الداخل عنوة في هذا الجو المستبد الخانق. أما من لم يرد فعليه المغادرة حتى يصلوا إليه في غربته لقطع رزقه.