بعد ست سنوات من الحياة في مدينة الخرطوم والدراسة المتواصلة، عمدت اجاك للعودة الى مسقط رأسها في ابيرو، وهي قرية صغيرة تابعة لمحلية شويبت برمبيك ولاية البحيرات بجنوب السودان، و على الرغم من الإنقطاع الطويل عن ابيرو، إلا ان أجاك مازالت تذكر كل شيء عن القرية، ولم تنس اللغة أو العادات و التقاليد، ومازالت تذكر جداتها و جدودها و امهاتها جميعا و كل من كان في القرية حين مغادرتها لها، وكانت اجاك من الجيل الجديد في القرية حيث انها لم توشم في جبهتها بعلامات القبيلة، و احتفظ لها والداها بأسنانها الأمامية البيضاء المشعة، كلما لم تأت به معها مرة اخرى هو السكسك الذي يحيط بخاصرتها تلك الخرزات البيضاء و السوداء، حيث انها اصبحت بدينة بعض الشيء ولم تتحمل ضغط الخيط على خاصرتها، لذا تركته في البيت بالخرطوم، لكن غير ذلك كانت اجاك كما هي، طويلة ممشوقة القوام مثل شجرة تك، سوداء البشرة ليست كقلب الآبنوس، بل مثل الليل ذاته، صدراء ناهد، لها اذرع طويلة و رقيقة، وعينان بهما نظرات حادة وثاقبة كعيني النمرة، و يجب ان يلاحظ شيء آخر ايضا، ان أجاك لم تتزوج الى تلك اللحظة، وهي الوحيدة التي بقيت من بنات جيلها بغير زوج الى الآن، لربما شغلتها سنوات الدراسة االطويلة عن اسئلة الجسد، كانت اجاك فارعة القوام، سوداء كالليل لها ذراعان طويلان رقيقان، وعينان تشعان رغبة كعيني نمرة، وهذا مهم جدا، لأن اجاك سوف تُقيم بعد قليل بعدد من الأبقار وفقا لقوامها و جموح جسدها اللذان سوف يقرران من هو الزوج وكم هي الأبقار التي ستسحق كمهر لها، وكيف ان أباها دووت يحبها أكثر من كل أخواتها، وأنها ما يفخر به وذلك واضحا من الأغنية الخاصة التي يغنيها لها وحدها:
اجاك يا بقرتي
اجاك يا بقرتي المقدسة
يا بنت عُشب النيل
اجاك يا بقرتي اجاك يا بقرة عشب النيل جدها العظيم.
لم تنس اجاك، ان تستبدل ملابسها وهي تغادر شيوبت الى ابيرو، تخلصت من كل شيء، لفت جسدها الجميل الطويل بقطعة قماش زاهية الألوان وهي اللاوي او الزى الرسمي لقبيلتها، عبارة عن ملاءة ينتهي طرفها الأعلى على كتفها الأيمن وتدور حول نصف الجسد بغنج غابوي مدهش، تظهر نصفه و تخفي نصفه، ليعلن النصف المخبوء عن النصف غير المحجوب، وهذا سره و سحره، اختارت جلبابا بسيطا من الحرير الملون لم تكن له أكمام و عاري تماما من الصدر، وهو أكثر ما يليق بجسدها من ملبس، فاجاك كغيرها من البنيات تعرف ما يليق بجمالها وما هو حري بإثارة دهشة الرجال ودهشة أنوثتها هي أولا، كانت في رفقتها أمها التي انتظرتها في شويبت منذ بداية الأسبوع لتصطحبها في رحلة بالأرجل الى القرية تستغرق الساعة في غالب الأحيان عبر غابة سافنا غنية مستوحشة، انضم لركب المستقبلين رجال ونساء أقرباء والديها و عشيرتها، اجاك سوف تصبح أول طبيبة من ابيرو، وستظل الوحيدة التي تتمتع بهذا اللقب الى عشر أعوام اخرى، كان هم أمها الوحيد ان تتزوج اجاك قبل كل شيء، ان تنجب أطفالا يحفظون نسل الأسرة، وظلت طوال الأسابيع الماضية منذ ان سمعت بان ابنتها في الطريق الى ابيرو، تتحف الشيخ بالهدايا لكي يقضي وقتا أطول في طلب الزوج لأبنتها من الجد الأكبر للأسرة الذي هو عُشب النيل، وكانت تعرف ان ابنتها سوف لا تتزوج بسهولة، لأنها طويلة و شديدة السواد وممشوقة القوام، يعني هذا ان مهرها قد يتجاوز الألف بقرة، وهذا غالبا ما لا يتوفر لشخص عادي، في الحقيقة كان هذا هم العشيرة الأقربين جميعا، من أين لزوج بألف بقرة في وقت تهب فيه بقايا الحرب التي دارت عشرين عاما في المكان قضت على مراحات كثيرة من الأبقار و أضعافها من الإنسان، حتى لو شاء ان يبقي دينا كثيرا عليه، حتى لو ساعده الأقرباء، ولم يتحدث شخص واحد عن خيارات أجاك، التي همست لأمها، بأنها سوف تتزوج رجلا من الخرطوم، ليس من الدينكا، بل هي الى الآن لا تعرف قبيلته، وانه يعمل في الصحافة، طبعا سألتها أمها عما هي الصحافة، فلم تستطع اجاك ان تجد لغة مناسبة لشرح الكلمة، لم تمانع الأم ولكنها فقط أكدت على عدد البقرات، لأن أبيها سوف يموت من الغبن إذا نقصت بقرة واحدة من الألف المتفق عليها كحد ادني لمهر لبنت في طولها ولها ذراعان بهذا الجمال.
في الغد جاء كثير من الشبان من بعض القرى المجاورة و أقاموا حفلا احتفاء بعودة اجاك، رقصوا معها، وقفزوا في السماء محاولين تجاوز ذراعيها المرفوعين للأعلى، و غنوا لها و شبهها كل منهم بأجمل بقراته، و أعطاها اسمها، فكانت: كتنج، و لول، و نيانج، أكوي، يار، أكور، أين، وجنطوك، و ابتهجت صاحباتها و غنين معها، وتقدم لها منقار للزواج، لمنقار زوجتان اخريتان، وقال إنه سيدفع ثلاثمائة بقرة عدا وحالاً، قالت أمها إنَّ ذلك لا يسوى عدد الخرزات التي تزين عنق بنتها، تقدم إليها ملوال أجوك، وهو شاب وسيم من دينكا بور، له زوجة واحدة فقط وورث أبقارا كثيرة وأطفالا و امرأتين عن أبيه المتوفى، قال إنه سيدفع من أجل أجاك، خمسمائة بقرة، ومن ضمنها ثوره الخاص، وهو مال لا يستهان به وتكريم مدهش، إلا أن أم أجاك قالت، إن ذلك المال لا يسوى قيمة الرحط الذي سوف يحيط خصر ابنتها الجميلة، و إنها أحبطت في فتيان الدينكا وفشلهم في تكريم ابنتها بما يليق بطولها، و اعتبرت هذا من علامات ان الدنيا تصير للفناء و ان الكون قد ينتهي قريبا طالما كان هذا هو حال القيم و الأخلاق، رفضت من تقدموا لها فيما بعد حتى قبل ان تعرف عروضهم المغرية التي جاؤوا بها، واستفسرت مرة اخرى عن الزوج الذي حدثتها أجاك عنه فيما قبل، كم يمتلك من الأبقار، وكم تمتلك أسرته، ومن هو جد أسرته؟ قالت لها أجاك إنها لا تعرف شيئا عن أسرته ولكنها متأكدة أنه لا يمتلك ولا عجلا واحداً: إنه صحفي يا أمي.
حسنا دعينا نذهب مرة أخرى للشيخ، ليدعوا لنا جدك عُشب البحر، ويسأله عن مقدار القرابين التي تقدم إليه من أجل أن يستجيب لحاجتك لزوج يجيد تقييمك و يعرف قدرك ولديه مال يمكنه من فعل ذلك، قالت أجاك إنها لن تفعل، فذهبت أمها وحدها، و ذبحت دجاجات بيضاء و دجاجات سوداء كما طُلب منها، و أقامت في خدمة الشيخ ساعة من الزمان، ووعدها بالخير.
ابيرو قرية صغيرة جدا، عدد المنازل بها لا يتعدى مئة بيتا، وبها اسر معروفة لم تنقص ولم تزد من أكثر من عشر سنوات، أي منذ ان انتهت الحرب الطويلة، كلها مبنية من أفرع الأشجار و البامبو و العشب الموسمي، تقيم الأسر في تجمعات سكنية يخصص جانب منها للأبقار و الجانب الآخر لسكنى الإنسان، وفي مثل هذا الوقت، الصيف تكون الحياة أكثر سهولة و الحركة ليس لها من معيق، لذا لم يستغرب الناس في القرية وفادة أشخاص من قرى بعيدة قد لا يعرفونهم ولم يشاهدونهم من قبل، و الرجل الذي عَرّفَ نفسه بِطون، ذو الصوت الجهوري، كان واحدا ممن أتوا من بعيد لخطوبة أجاك، ونسبة للطريقة الشاذة التي قَدَّم بها نفسه، قالت أجاك عنه في نفسها: إنه موهوم.
من الرسومات و الوشمات التي في بطنه وعلى جبهته وكتفه، عرف الجميع أنه يكمل الآن عامه الأربعين، وأوضح العُقد الذي يلتف حول عنقه، وعلى ساعديه، أنه قتل نمراً أو نمورا كثيرة. لم يندهش الناس كثيرا لعُريه، فلقد كان عارياً تماماً، يطلي جسده بالرماد، حتى لا يكاد الناس ان يروا من لونه الطبيعي شيئاً، شعره مصفوف جيدا ومسقي ببول الثيران، عن طريق الطبل التي جاء يحملها على كتفه مع حرابة، أيقظ القرية كلها ذات صباح باكر، وغني بصوت قوي كأنه زئير الأسد، ولما هب الناس إليه، رقص قافزا في السماء عشر قفزات، كان طويلاً ونحيفا، وتلعب أشياؤه بين ساقيه في الهواء كأنها رانب مجنونة، وتبدو مضحكة ولكن نسبة للجدية التي ظهر بها، لم يستطع أحد أن يضحك، ثم غرز رمحه في باطن الأرض الصلبة، نظر بعيدا نحو الغابة، وقال: أنا أسمي طُون قوقريال طُون، و انظروا إلى تلك السحابة، ما هي إلا أغبرة حوافر الأبقار التي أتيت بها مهرًا لأجاك، سوف لا تجدون مكاناً تحفظونها فيه بالقرية، ستصلكم بعد قليل.
قالت أجاك إنها لن تتزوجه ولو أنه جاء بأبقار العالم كلها، أكدت لها الأم إنها سوف تتزوجه رضيت أم لم ترض،لأن امها إذا كانت قد رفضت الزواج من والدها ما كانت هي على قيد الحياة الآن، وإن مهرها ملكا لأسرتها وليس ملكا لها هي،وان والدها يحتاج لخمسين بقرة منه لسداد متأخر صداق امها، و أن اخوانها الخمس يحتاجونه ايضا لكي يتزوجوا به، و ان كثيراً من الأقارب ينتظرون نصيبهم من هذا المهر، وأنها لا ترى شيئا يعيب طُون قوقريال طُون سوى انه فخور بنفسه أكثر مما يجب، وكان عليه ان يستر عورته بجلد النمر الذي قتله، و ألا يثير كل تلك الضجة بصوته المرعب و الطبل القبيح الذي يعلقه على كتفه، غير ذلك لا يعيبه شيء.
عندما انشغل الناس بعد الأبقار، صُنع الزرائب، واقتراح القسمة، هربت أجاك لتحتمي بالغابة، كانت تجري بأسرع ما تستطيع، وعندما توغلت في الدغل، شاهدته يجري خلفها، كان سريعا كما الريح، أمسك بها، حملها على كتفه ومضى بها في خُطى سريعة ناحية النهر، وهو يغني بصوت أجش ماكرٍ.