واشنطن :صوت الهامش
أكد جون برندرغاست، رئيس منظمة كفاية الأمريكية، استمرار العاصمة الخرطوم في انتهاج استراتيجيتها العدائية ضد المدنيين في إقليم دارفور وغيره من مناطق سودانية مزقتها الحرب.
وأعرب برندرغاست -في مقال نشرته مجلة (فورين أفيرز)- عن اندهاشه من قرار واشنطن في 13 يناير الماضي تخفيف العقوبات المفروضة على السودان رغم استمرار وجود المبررات الأساسية لفرْض تلك العقوبات من قصْف للمدنيين وإغارات على القرى وعرقلة لوصول المساعدات الغذائية واستخدام مُحتمل للأسلحة الكيماوية.
ورأى الكاتب في معاملة المجتمع الدولي اليوم للنظام السوادني بقيادة عمر البشير تحولا كليًا عمّا كانت عليه المعاملة قبل ثمانية أعوام عندما كانت وقائع عملية الإبادة الجماعية في دارفور لا تزال حديثة العهد ماثلةً في الأذهان؛ وقتها كان البشير منبوذا دوليا، وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قرارا بتوقيفه ردًا على أفعاله الإبادية في دارفور، فيما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على نظام البشير عبر إدارة جورج بوش الإبن الذي كان بصدد مغادرة منصبه لخلفه باراك أوباما الذي هاجم عملية الإبادة في دارفور بينما كان عضوًا بمجلس الشيوخ؛ إضافة إلى ذلك، كانت معظم حكومات الشرق الأوسط معارضة للنظام في الخرطوم بسبب تحالفه مع إيران.
ومنذ ذلك الحين، زادت نيران الحرب في السودان مجتاحةً مناطق جبال النوبة والنيل والأزرق، وحال النظام في الخرطوم دون وصول المساعدات الإنسانية إلى تلك المناطق، ما خلّف عددًا لا يُحصى من البشر دونما مساعدات حيوية على مدى أكثر من خمس سنوات؛ واستمر القصف الجوي ضد أهداف مدنية ولا يزال جوزيف كوني زعيم جيش الرب يعمل من السودان؛ وفي غضون ذلك، ثمة كثيرون من السجناء السياسيين يتعرضون للتعذيب في السجون السودانية؛ والفساد مستوطن والاقتصاد متردّي.
لكن أكثر المفاسد إثارة للنظر بحسب برندرغاست، تمثلتْ في انضمام ميليشيا الجنجويد السيئة السمعة التي كانت المقترف الرئيسي لعملية الإبادة في دارفور إلى الجيش الحكومي تحت اسم “قوات الدعم السريع”.
وعلى الرغم من استمرار أعمال العنف، فإن دولاً كثيرة بينها الصين والهند وجنوب أفريقيا والسعودية، تحدّتْ قرار المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف البشير وسمحت له بزيارة أراضيها؛ فيما أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقا ليعطي بمقتضاه ملايين الدولارات إعانة ًللسودان في مقابل مساعدتها في الحدّ من تدفق الهجرة إلى أوروبا؛ كما أن السعودية والإمارات العربية المتحدة اللتين كانتا من قبل تعاديان السودان، باتتا تساعدانه بأموال ضخمة في مقابل إرساله قوات سودانية إلى اليمن لمحاربة الحوثيين.
ورأى صاحب المقال أن هذه المفارقات يمكن تفسيرها في ضوء ثلاثة ديناميات اتضحتْ على مدار السنوات القليلة الأخيرة:(i) أزمة الهجرة في أوروبا، والتي أجبرت الاتحاد الأوروبي على إبرام صفقات مع عدد من الأنظمة غير المرّحب بها في أفريقيا ومنها السودان الذي يستخدم عناصر من الجنجويد (قوات الدعم السريع حاليا) في تأمين حدوده مع ليبيا التي يعبر منها المهاجرون قاصدين شواطئ إيطاليا؛ (ii) ظهور تنظيم ما يُعرف بالدولة الإسلامية (داعش) وجماعات إرهابية أخرى، وحاجة واشنطن لحلفاء على صعيد مكافحة الإرهاب؛ وقد فعل نظام البشير ما يكفي لكسْب ثناء وكالة الاستخبارات الأمريكية الـ (سي آي أيه) وأجهزة استخباراتية أخرى- وعمل السودان على الحدّ من حركة تلك الجماعات في السودان وخارجه إضافة إلى مشاركة معلومات عن أنشطة تلك الجماعات مع الوكالات والأجهزة الاستخباراتية المشار إليها؛ (iii) دفء العلاقات بين السودان والسعودية، ويعود إلى تقليص إيران مساعداتها إلى الخرطوم في السنوات الأخيرة بسبب تأثر طهران جرّاء العقوبات الأمريكية المشددة عليها فقرر نظام البشير من جانبه اتخاذ خطوة تاريخية بالابتعاد عن حليف قديم (إيران) وإبرام تحالف مع الرياض.
وهنا، بحسب الكاتب، تكمن الحقيقة غير المريحة في العلاقات الدولية؛ حيث الأولويات الجيوسياسية، ومكافحة الإرهاب، والحد من تدفق المهاجرين – تلك الأولويات يمكنها عادةً أن تغلب على المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان حتى ولو كانت تلك عملية إبادة.
وأكد برندرغاست، أن تدفق اللاجئين من أفريقيا والشرق الأوسط صوب أوروبا إنما يرجع في جزء منه إلى محاولة هرب هؤلاء المهاجرين من دولٍ على رأسها حكوماتٌ فاسدة ولصوصية قائمة على النهب كما هو الحال في السودان حيث القمع والفساد وانعدام فرص العمل على أشدّها.
إن قيام النظام السوداني بحملات عقاب جماعية -تضمنتْ عمليات استهداف عرقي لمدنيين– قد أغلق كافة الأبواب في وجه حياة طبيعية للشباب في دارفور، ما أجبر هؤلاء على ركوب البحر في رحلة محفوفة بالمخاطر قاصدين أوروبا؛ وريثما يحلّ السلام وتوجد حكومة مستقرة لا تبدد موارد البلاد ولا تسيء إدارة الاقتصاد- ريثما يتحقق هذا وذاك لن يجد الناس دوافع للبقاء في السودان؛ علاوة على ذلك أن الحلول طويلة الأمد لأزمة المهاجرين لا تتطلب عقودا لتنفيذها؛ إن الدول الغنية بالموارد أمثال السودان يمكن أن تحقق إصلاحات على نحو سريع إذا وضعتْ حكوماتُها مصالح الشعوب فوق مصالح النخَب.
وحذر برندرغاست، من أن القضية الأخطر تتمثل في أن تخفيف العقوبات الأمريكية على السودان وما يترتب على ذلك من تراخي الضغط المالي وتراجع النفوذ كفيل بتقوية جانب نظام البشير؛ فبدون كبْح أذرُع هذا النظام عن الاستفادة من الفساد أو الدخول للنظام المالي العالمي – بدون ذلك سيتمكن نظام البشير من استخدام امتيازاته المالية الهائلة في إقصاء منافسيه عبر طرق متنوعة من القسر والعنف عند الضرورة؛ عندئذ لن يكون بأيدي القادة الغربيين قدرة يُعتّد بها لمساومة نظام البشير على قضايا تتراوح بين الهجرة والإرهاب.
وشدد الكاتب على أن تقوية جانب نظام أوتوقراطي يتبنى الفساد والعنف لن تثمر إلا عن مزيد من تقويض البلاد ودفع المزيد من أبنائها إلى الهجرة أو الانخراط في أنشطة إجرامية كالاتجار بالبشر والتهريب، أو في بعض الحالات، الإرهاب أو المقاومة المسلحة للحكومة.
وعليه، قال برندرغاست، إن على واشنطن وأوروبا أن يقفوا على النفوذ الذي يمكن للعقوبات وضغوط مالية أخرى أن توليه لهم ولغيرهم من الفاعلين الدوليين لإنهاء الأعمال الوحشية في السودان؛ فعلى مدار السنوات القليلة الماضية، كانت العقوبات الأمريكية قد بدأت تؤتي ثمارا حقيقية على القادة السودانيين لا سيما فيما يتعلق بقدراتهم على مزاولة أعمال تجارية وتهريب ثرواتهم المنهوبة إلى الخارج.
ورأى صاحب المقال أن إدارة الرئيس دونالد ترامب ينبغي أن تدرك مدى النفوذ الذي تمتلكه عبر تحديث نظام العقوبات الحالي، باستهداف مخططات غسْل الأموال وفساد سلوكيات قادة عسكريين وأمنيين ومسئولين يستفيدون اقتصاديا من الحرب المشتعلة في السودان… وفي نفس الوقت، ينبغي على الإدارة الأمريكية الجديدة أن تؤّمن وجود استثناءات قوية للقطاعات الطبية والإنسانية، إضافة إلى المبادرات الشعبية والتبادل الأكاديمي؛ على الصعيد الطبي والإنساني، على سبيل المثال يمكن أن تسمح العقوبات بتصدير منتجات زراعية وأدوية ومعدات طبية، على أن يتم ذلك بموجب تصريح خاص من وزارة الخزانة الأمريكية.
وأضاف الكاتب أن على أوروبا أن تدعم أمثال تلك الجهود عبر تنفيذ عقوباتها ضد أحد أسوأ أنشطة نظام البشير، أولاً على مستوى الاتحاد الأوروبي ثم على مستوى الدول الأعضاء بالاتحاد، على نحو يضمن لوحدات الاستخبارات المالية إمكانية التحريّ واتخاذ خطوات فاعلة ضد أنشطة غسيل الأموال – من شأن ذلك أن يكون له أثرًا على تدفق اللاجئين يفوق الأثر الناتج عن إبرام صفقات مع حكّام مستبدين.
وقال برندرغاست، إن عمر البشير استطاع بطريقة ما أن يجد سبيلا لجعْل العالم يتغاضى عمّا ينتهجه من سياسة الأرض المحترقة إزاء الحكومة والحرب؛ لكن إذا ما سمح الغرب لنظام البشير -بما يتسّم به من عنف ولصوصية- في الاستمرار دونما ممارسة ضغوط عليه لبناء حكومة تتسم بالشمول والشفافية، فإن أهداف الولايات المتحدة وأوروبا السياسية المتعلقة بالإرهاب والهجرة ستتقوض بشدة.
واختتم الكاتب قائلا “لا تنزعوا القيود عن السودان فهو لا يزال منخرطا في الصراع، ومع ذلك فـواشنطن وأوروبا يغضون الطرف ويخففون العقوبات في سبيل إبرام صفقات مع الخرطوم حول الهجرة والإرهاب”.