كاريزما القيادة المصاحبة للحكمة و سداد الرأي , هي من أهم الصفات التي تميّز القائد الناجح , ففي التاريخ البشري والانساني القديم والحديث , جاء الى الحياة قادة وزعماء غيّروا اتجاه سير حياة اممهم وشعوبهم , و انتشلوهم من مستنقعات الفقر والمرض والجهل , و ارتفعوا بهم الى اعلى مراتب التنمية الاقتصادية و الاجتماعية , فاعتبرت بلدانهم من اكثر الوجهات العالمية لتلقي العلوم والخبرات, وللسفر والسياحة الترفيهية والعلاجية , وخير مثالين على هؤلاء القادة الكارزميون , الدكتور محمد مهاتير رأس الرمح الذي قذف بماليزيا الى سماوات الرفاه و التقدم التكنلوجي والعلمي , و الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الامارات العربية المتحدة , ذلك الرجل الحكيم و الضليع في سياسة شئون الناس و رعاية مصالحهم , فهذان نموذجان لقائدين رسما اسميهما باحرف من نور على جدران ذاكرة بني اوطانهم , وجسّدا حقيقة ان بوصلة الأمة تتمثل في رئيسها , و انه اذا لم تحسن هذه البوصلة تحديد الاتجاه الدقيق والصحيح لرحلة الدولة , فان مصير سفينة الدولة سيكون الضياع , وآخر مطاف شعبها سينتهي بالغرق , في خضم هذه المحيطات المتلاطمة الامواج .
في سوداننا الحبيب أتتنا سانحة واحدة منذ استقلال البلاد , للخروج من الازمة الوطنية المستحكمة, وكانت من الممكن جداً ان تكون مخرجنا الى ساحات الرخاء و الوحدة و الانفراج الاقتصادي , تمثلت هذه السانحة في دخول الدكتور جون قرنق و حركته الشعبية في عملية سلام شاملة مع منظومة الحكم المركزية , فقرنق يعتبر الوحيد الذي كان بامكانه ان يأخذ بيد أمتنا المتعبة إلى بر الأمان , لكن يد القدر أبت الا ان تعيش بلادنا في دائرة الفشل , هذه الدائرة الخبيثة التي تعمل على اعادة انتاج نفسها بعد كل حين وآخر , فالقادة العظماء المنقذون لاممهم لايأتون الا مرة واحدة في القرن الواحد , كما كان الحال لامتنا السودانية في القرن التاسع عشر , عندما وهبها الله الامام محمد بن عبد الله , فجمع السودان الذي نفاخر به اليوم واهله على كلمة سواء , فكان تورشين من غرب السودان ودقنة من شرقه وهو من شماله , وفي القرن العشرين جاء قرنق , لكن , انطفأ ضوء شمعته قبل ان يضع يده على الجرح , فدخلت البلاد مرة اخرى في غيبوبة سياسية و متاهة حياتية معهودة.
اليوم يشهد مسرح الحياة السياسية في السودان عملية مخاض عسيرة , سوف تسفر عن ميلاد قيادة جديدة , فهذه الارض قد انجبت الافذاذ من حملة الوية التغيير على مر تاريخها العريق , وهذه الحروب و تلك النزاعات برغم تدميرها للحرث و النسل , الا ان واحدة من اهم فوائدها للانسان السوداني , هي انها قامت بتعريفه لنفسه وبنفسه, بانه ليس ذلك الشخص الاحادي الاتجاه والمركزي الهوى , ولا هو ذلك الرجل المؤطّر في ثقافةٍ او لغةٍ او جهةٍ واحدة , بل هو انتماء لفسيفساء جغرافية واجتماعية تمتد من عمق الصحراء الكبرى شمالاً , لتصل الى المناخ الاستوائي الممطر طوال العام جنوباً , وانه هو ذلك البجاوي القادم من عمق حضارة اكسوم الافريقية العتيقة , المتلاحم مع بناة الحضارة الكوشية المنتشرون في سفوح و قمم جبال قدير ومرة و البركل , فهذا الغليان الذي يحدث الآن لابد له من الحدوث , لان جريمة التخريب الحضاري التي طالت وجدان هذه الشعوب السودانية , قامت بعملية سرقة واستلاب لهذا الوجدان الجمعي لهذه الامة , والان قد بدأت هذه الشعوب في تنفيذ مشروعها المقدس , في الرجوع والعودة الى وتدها وجذرها المضروب عميقاً في باطن ارض تراهقا و كوش .
إنّ إرهاصات ترشح البشير في انتخابات 2020 ليست امراً يستحق الاهتمام , فهذه الضوضاء التي يثيرها نظام الانقاذ ملّها الشعب السوداني , واصبحت مسرحية هزلية ساذجة , وحتى الحالمين بخوض غمار سباق هذه الاضحوكة , ما هم سوى مباركين و مشرعنين لاستمرارية الرجل في الجلوس على مقعد الرئاسة مدى الحياة , كما جاء في مقترح احد البرلمانيين بان يتوج البشير ملكاً على السودان , مثل حال (موبوتو سيسيسيكو) , الذي تحولت شخصيته بعد تعفنه في الكرسي الى شخص ينزع الى حياة الملوك و الاباطرة , ويلبس جلد النمر على رأسه في اشارة مستفزة لشعبه بانه هو الملك الاوحد , فالاستاذان عادل عبد العاطي و ياسر عرمان ارتكبا خطأً فادحاً يرقى الى درجة خيانة قضية الشعب المقهور , ذلك بان عبد العاطي انتقل انتقالاً مفاجئاً من صف الشرفاء القابضين على جمر القضية , الى صف المستسلمين و الخانعين و الداعمين لاستمرار الرئيس في تولي مهام حقيبة رأس الدولة , وذلك بتقديمه لنفسه مرشحاً في انتخابات (الون مان شو) القادمة , مع علم جميع الكائنات الحية في السودان بحتمية فوز مالك مراكز وصناديق الاقتراع , برغم انف كل الذين راهنوا على خوض هذه الدراما , وذات المسلك ليس جديداً على عرمان , فقد خيّب ظن الشعب السوداني فيه من قبل في الامل و التغيير , عندما خُيّل للسودانيين ان هذا العرمان من ذاك القرنق , فكان العار الذي لن يمحى من على جبين ياسر مهما قدم من مبررات وترهات تعتريها الكثير من علامات الجبن و الاسترخاص و الاستخفاف بالعقل والذاكرة الجمعية للشعب السوداني.
رئيس السودان القادم لن يكون من الوجوه المألوفة من قادة الحراك السياسي , سواء كانوا مناوئين او مندغمين في منظومة الحكم , إنّه كالفرس الاصيل الذي يكتسح المضمار من وسط ازدحام عشرات الخيول , ليشاهده الجمهور في المقدمة قاطعاً خط النهاية كالبرق , فحواء السودان عهدناها ودودٌ ولودٌ , ونحن على عهدنا وثقتنا بها , وكلنا يقين ثابت بان رحمها لن يخيب أملنا في التغيير مثلما فعل عرمان (الراوي) , واما وصفنا لعرمان بالراوي قد جائنا نقلاً من احد المرافقين للراحل قرنق , عندما سؤل عن عرمان ومدى امكانياته ومقدراته في لعب دور وطني يسهم في معالجة الازمة السودانية , فكان رد هذا البدري (نسبة لبدريي الحركة الشعبية) انه يطلق على امثال الاستاذ ياسر عرمان الذين كانوا يتحلقون حول الدكتور جون , بالرواة , لعدم امتلاكهم للمهارات والمقدرات القيادية والسياسية , واكتفائهم بسرد ونقل ما يقوله قرنق , فيقومون بدور المبشر بحديث القائد الكاريزمي و المفكر الملهم , وحتى لا نبخس الناس اشيائهم , فهذا الدور الروائي يعتبر ايضاً مهمة محورية واستراتيجية في قيام اي مشروع نهضوي وثوري , فلولا وجود هؤلاء الرواة لما نما الى علمنا الكثير من المواقف و الاحداث التي كان محورها القائد العظيم الدكتور جون قرنق ديمابيور , ومع ذلك تظل الحقيقة التي يجب علينا ان لا نغفل او نتغافل عنها , بان الراوة لن يصلوا الى مرتبة الانبياء حتى يلج الجمل من سم الخياط.
اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com