كوامي نكروما 1965
ترجمة: أبكر آدم إسماعيل
المقدمة
يمثل الاستعمار الجديد، اليوم الإمبريالية في مرحلتها النهائية وربما الأكثر خطورة. في الماضي كان من الممكن تحويل بلد مفروض عليه نظام الاستعمار الجديد – مثل مصر في القرن التاسع عشر – إلى إقليم استعماري. اليوم هذه العملية لم تعد مجدية. الاستعمار القديم لم يُلغى بالكامل. إنه لا يزال يمثل مشكلة أفريقية، لكنه في كل مكان في حال من التراجع. وبمجرد أن يصبح إقليم ما مستقلاً اسمياً، لا يعود ممكناً، كما كان الحال في القرن الماضي، عكس العملية. قد تستمر المستعمرات القائمة، ولكن لن يتم إنشاء مستعمرات جديدة. في مكان الاستعمار كأداة رئيسية للإمبريالية لدينا اليوم الاستعمار الجديد.
إن جوهر الاستعمار الجديد هو أن الدولة التي تخضع له مستقلة، من الناحية النظرية، ولها كل مظاهر السيادة الخارجية. ولكن نظامها الاقتصادي وبالتالي سياساتها السياسية موجهة من الخارج، في الواقع. ويمكن أن يتخذ هذا التوجيه طرقا وأشكالاً مختلفة. على سبيل المثال، في الحالة المتطرفة قد تحمي جيوش السلطة الإمبريالية أراضي الدولة المستعمَرة الجديدة وتسيطر على الحكومة. ولكن في كثير من الأحيان، تتم ممارسة سيطرة الاستعمار الجديد من خلال الوسائل الاقتصادية أو النقدية. قد تكون الدولة الواقعة تحت سيطرة الاستعمار الجديد ملزمة بأخذ منتجات السلطة الإمبريالية المُصنَّعة لاستبعاد المنتجات المنافسة لها من أماكن أخرى. وقد يتم ضمان السيطرة على سياسة الحكومة في الدولة الخاضعة لسيطرة الاستعمار الجديد عبر مدفوعات تتعلق بتكلفة إدارة الدولة، من خلال توفير موظفين في مواقع تمكنهم من إملاء السياسة، وعن طريق الرقابة النقدية على النقد الأجنبي عبر فرض نظام بنكي تسيطر عليه السلطة الإمبريالية.
وحيثما يوجد الاستعمار الجديد فإن السلطة التي تمارس السيطرة هي في الغالب الدولة التي حكمت في السابق الإقليم المعني، ولكن هذا ليس بالضرورة كذلك في كل الأحوال. على سبيل المثال، في حالة جنوب فيتنام، كانت القوة الإمبريالية السابقة هي فرنسا، لكن السيطرة الاستعمارية الجديدة على الدولة ذهبت الآن إلى الولايات المتحدة الأمريكية. من الممكن أن تتم ممارسة الرقابة الاستعمارية الجديدة من قبل مجموعة من المصالح المالية التي لا يمكن ربطها بشكل محدد مع أي دولة معينة. إن التحكم في الكونغو من خلال المصالح المالية الدولية الكبرى هو مثال على ذلك.
ونتيجة الاستعمار الجديد هي استخدام رأس المال الأجنبي في الاستغلال بدلاً من تطوير الأجزاء الأقل تطوراً في العالم. الاستثمار في ظل الاستعمار الجديد يزيد من الفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة في العالم.
لا يهدف النضال ضد الاستعمار الجديد إلى استبعاد رأس مال العالم المتقدم من العمل في البلدان الأقل تقدمًا. إنه يهدف إلى منع استخدام القوة المالية للبلدان المتقدمة بطريقة تؤدي إلى إفقار البلدان الأقل نمواً.
ويستند عدم الانحياز، كما تمارسه غانا والعديد من البلدان الأخرى، إلى التعاون مع جميع الدول سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية أو لديها اقتصاد مختلط. ومن ثم، فإن هذه السياسة تنطوي على استثمار أجنبي من الدول الرأسمالية، ولكن يجب استثماره وفقاً لخطة وطنية وضعتها حكومة دولة عدم الانحياز تراعي مصالحها الخاصة. القضية ليست العائد الذي يعود إلى المستثمر الأجنبي على استثماراته. إنه، في الواقع، قد يحقق لنفسه أفضل العوائد إذا استثمر في بلد غير منحاز أكثر مما لو استثمر في دولة استعمار جديد. السؤال هو سؤال سلطة.
إن الدولة التي في قبضة الاستعمار الجديد ليست سيدة مصيرها. هذا هو العامل الذي يجعل الاستعمار الجديد تهديدًا خطيرًا للسلام العالمي. لقد جعل تطور الأسلحة النووية ميزان القوى القديم الذي يعتمد على الردع النهائي بالحرب الكبرى خارج التاريخ. إن اليقين من الدمار الشامل المتبادل يمنع بفعالية أياً من كتلتي القوى العظمى من تهديد إحداهما للأخرى باحتمال نشوب حرب على مستوى العالم، وبالتالي يصبح الصراع العسكري محصوراً في “حروب محدودة.” الاستعمار الجديد يمثل أرضية التكاثر بالنسبة لها.
يمكن أن تحدث مثل هذه الحروب، بالطبع، في بلدان لا يسيطر عليها الاستعمار الجديد. والواقع أن هدفها ربما يتمثل في إقامة نظام استعماري جديد في بلد صغير ولكنه مستقل. إن شر الاستعمار الجديد هو أنه يمنع تشكيل الوحدات الكبيرة التي من شأنها أن تجعل من “الحرب المحدودة” مستحيلة. لإعطاء مثال واحد: إذا كانت أفريقيا موحدة، فلن تحاول أي كتلة كبيرة من القوى إخضاعها لحرب محدودة لأنه بسبب طبيعة الحرب المحدودة، فإن ما يمكن أن تحققه بحد ذاته محدود. إنه فقط عندما توجد دول صغيرة يمكن تحقيقها، عن طريق هبوط بضعة آلاف من جنود المارينز أو بتمويل قوة من المرتزقة، لضمان نتيجة حاسمة.
إن تقييد العمل العسكري لـ”الحروب المحدودة” لا يشكل، على كل حال، ضمانة للسلم العالمي، ومن المرجح أن يكون العامل الذي سيورط، في نهاية الأمر، كتلتي القوى الكبرى في حرب عالمية، مهما كان عزمهما على تجنبها.
الحرب المحدودة، وبمجرد الشروع فيها، تحقق زخما خاصا بها. من ضمن ذلك، فإن الحرب في جنوب فيتنام ليست سوى مثال واحد. إنها تتصاعد برغم رغبة كتلتي القوى العظمى في إبقائها محدودة. وفي حين يمكن منع هذه الحرب المعينة من أن تؤدي إلى صراع عالمي، فإن تكاثر الحروب المحدودة المماثلة لا يمكن أن يكون له سوى نهاية واحدة، هي الحرب العالمية والعواقب الرهيبة للصراع النووي.
الاستعمار الجديد هو أيضا أسوأ شكل من أشكال الإمبريالية. بالنسبة لأولئك الذين يمارسونه، فإنه يعني السلطة بدون مسؤولية وبالنسبة لأولئك الذين يعانون منه، فيعني الاستغلال دون تعويض. في أيام الاستعمار القديم، كان على السلطة الإمبريالية على الأقل أن تشرح وتبرر في الداخل الإجراءات التي تتخذها في الخارج. في المستعمرة، كان أولئك الذين يخدمون السلطة الإمبريالية الحاكمة ينظرون على الأقل إلى حمايتها من أي تحرك عنيف من جانب خصومهم. مع الاستعمار الجديد ما عاد الحال كذلك.
إن الاستعمار الجديد، فوق كل شيء، مثله مثل الاستعمار من قبله، يؤجل مواجهة القضايا الاجتماعية التي يجب أن يواجهها القطاع المكتمل التطور في العالم قبل القضاء على خطر الحرب العالمية أو حل مشكلة الفقر العالمي.
الاستعمار الجديد، مثل الاستعمار، هو محاولة لتصدير الصراعات الاجتماعية في البلدان الرأسمالية. ويمكن ملاحظة النجاح المؤقت لهذه السياسة في الفجوة الآخذة في الاتساع بين الدول الغنية والدول الفقيرة في العالم. لكن التناقضات الداخلية والصراعات في الاستعمار الجديد تجعل من المؤكد أنه لا يمكن أن يصمد كسياسة عالمية مستديمة. إن الكيفية التي يجب أن ينتهي بها الاستعمار الجديد هي مشكلة يجب دراستها، قبل كل شيء، من قبل الدول المتقدمة في العالم، لأنهم هم الذين سيشعرون بالأثر الكامل للفشل النهائي. وكلما طال أمد الاستعمار الجديد، أصبح من المؤكد أن انهياره المحتوم سيدمر النظام الاجتماعي الذي جعل منه أساساً له.
يمكن تلخيص سبب تطور الاستعمار في فترة ما بعد الحرب باختصار. كانت المشكلة التي واجهت الدول الغنية في نهاية الحرب العالمية الثانية هي استحالة العودة إلى وضع ما قبل الحرب حيث كانت هناك فجوة كبيرة بين الأغنياء القلائل والفقراء الكثيرون. وبغض النظر عن الحزب السياسي المعين الذي كان في السلطة، فإن الضغوط الداخلية في البلدان الغنية في العالم لم تكن تسمح لأي دولة رأسمالية في ما بعد الحرب بالبقاء ما لم تصبح “دولة رفاهية.” قد تكون هناك اختلافات في درجة وفي مدى الفوائد الاجتماعية المقدمة للعمال الصناعيين والعمال الزراعيين، ولكن ما كان مستحيلاً في كل مكان هو العودة إلى البطالة الجماعية وإلى انخفاض مستوى المعيشة لمستوى سنوات ما قبل الحرب.
منذ نهاية القرن التاسع عشر، أُعتُبرت المستعمرات مصدرا للثروة يمكن استخدامه للتخفيف من الصراعات الطبقية في الدول الرأسمالية، وكما سيتم توضيحه لاحقا، فقد حققت هذه السياسة بعض النجاح. لكنها فشلت في الوصول إلى هدفها النهائي، لأن الدول الرأسمالية ما قبل الحرب كانت داخليًا منظمة جدا لدرجة أن الجزء الأكبر من الأرباح الناتجة عن الممتلكات الاستعمارية وجد طريقه إلى جيوب الطبقة الرأسمالية وليس إلى جيوب العمال. بعيداً عن تحقيق الهدف المقصود، تميل أحزاب الطبقة العاملة في بعض الأحيان إلى تحديد مصالحها مع مصالح الشعوب المستعمَرة، وقد وجدت القوى الإمبريالية نفسها متورطة في صراع على جبهتين، في الداخل مع عمالها وفي الخارج ضد نمو قوى التحرر في المستعمرات.
لقد دشنت فترة ما بعد الحرب سياسة استعمارية مختلفة. جرت محاولة مقصودة لتحويل الأرباح الاستعمارية من الطبقة الغنية واستخدامها بدلاً من ذلك بشكل عام لتمويل “دولة الرفاهية.” وكما سيتبين من الأمثلة المعطاة لاحقا، كانت هذه الطريقة قد تم تبنيها بوعي حتى من قبل قادة الطبقة العاملة الذين كانوا قبل الحرب يعتبرون الشعوب المستعمَرة حلفاء طبيعيين ضد أعدائهم الرأسماليين في الداخل.
في البداية كان من المفترض أن يتم تحقيق هذا الهدف من خلال الحفاظ على النظام الاستعماري قبل الحرب. أثبتت التجربة في الوقت القريب أن محاولات القيام بذلك ستكون كارثية ولن تؤدي إلا إلى إثارة حروب استعمارية، وبالتالي تبديد المكاسب المتوقعة من استمرار النظام الاستعماري. لقد أدركت بريطانيا على وجه الخصوص ذلك في مرحلة مبكرة، وقد ثبتت صحة الرأي البريطاني في ذلك الوقت بعد هزيمة الاستعمار الفرنسي في الشرق الأقصى وفي الجزائر وفشل الهولنديين في الاحتفاظ بأي من مستعمرات إمبراطوريتهم السابقة. ولذلك تم تأسيس نظام الاستعمار الجديد، الذي خدم القوى المتقدمة على المدى القصير بشكل مثير للإعجاب. من المرجح أن تكون عواقبه على المدى الطويل كارثية بالنسبة لهم.
ويستند الاستعمار الجديد إلى مبدأ تفكيك الأراضي المستعمرة الكبيرة الموحدة سابقا إلى عدد من الدول الصغيرة غير القابلة للبقاء التي لا تقدر على التنمية المستقلة والتي لابد أن تعتمد على السلطة الإمبريالية السابقة للدفاع وحتى للأمن الداخلي. وترتبط نظمها الاقتصادية والمالية، كما هو الحال في الأيام الاستعمارية، بأجهزة الحاكم الاستعماري السابق.
للوهلة الأولى، يبدو أن النظام يتمتع بالعديد من المزايا بالنسبة للبلدان المتقدمة في العالم. يمكن ضمان جميع أرباح الاستعمار الجديد إذا كانت نسبة معقولة من الدول لديها نظام استعماري جديد في أي منطقة معينة. ليس من الضروري أن يكون الجميع لديهم هذا النظام. وما لم تكن الدول الصغيرة قادرة على التجمع، فلا مفر من أنها ستجبر على بيع منتجاتها الأولية بالأسعار التي تمليها البلدان المتقدمة وشراء سلعها المصنعة بالأسعار التي تحددها.
طالما أن الاستعمار الجديد يمكن أن يمنع توفر الظروف السياسية والاقتصادية اللازمة لتحقيق التنمية المثلى، فإن البلدان النامية، سواء كانت تحت السيطرة الاستعمارية الجديدة أم لا، لن تكون قادرة على إنشاء سوق كبيرة بما يكفي لدعم التصنيع. وبنفس الطريقة، سوف تفتقر إلى القوة المالية لإجبار البلدان المتقدمة على قبول منتجاتها الأولية بسعر عادل.
في الأراضي التي تقع تحت سيطرة الاستعمار الجديد، وبما أن السلطة الاستعمارية السابقة تخلت من الناحية النظرية عن السيطرة السياسية، إذا كانت الظروف الاجتماعية الناجمة عن الاستعمار الجديد تسبب تمردًا، فإنه يمكن التضحية بحكومة الاستعمار الجديد المحلية وإحلال أخرى خاضعة بنفس القدر في مكانها. من ناحية أخرى، في أي قارة يوجد فيها الاستعمار الجديد على نطاق واسع، فإن الضغوط الاجتماعية نفسها التي يمكن أن تنتج ثورات في الأراضي تحت سيطرة الاستعمار الجديد ستؤثر أيضاً على الدول التي رفضت قبول النظام وبالتالي فإن الدول تحت سيطرة الاستعمار الجديد لديها سلاح جاهز يمكنها من خلاله تهديد خصومها إذا ما اظهرت تحديها للنظام بنجاح.
هذه المزايا، التي تبدو للوهلة الأولى بديهية، هي، مع ذلك، عند الفحص، وهمية لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار حقائق العالم اليوم.
إن إدخال الاستعمار الجديد يزيد من التنافس الذي أثاره الاستعمار القديم بين القوى العظمى. وعلى الرغم من ضآلة القوة الحقيقية التي قد تمتلكها حكومة الدولة الواقعة تحت سيطرة الاستعمار الجديد، إلا أنها يجب أن يكون لديها، من حقيقة استقلالها الاسمي، مجالاً معيناً للمناورة. هي قد لا تكون قادرة على الوجود بدون سيد استعماري جديد، لكن قد يكون لديها القدرة على تغيير الأسياد.
وستكون دولة الاستعمار الجديد المثالية دولة خاضعة كلياً للمصالح الاستعمارية الجديدة، لكن وجود الأمم الاشتراكية يجعل من المستحيل فرض الصرامة الكاملة للنظام الاستعماري الجديد. إن وجود نظام بديل هو في حد ذاته تحدٍ للنظام الاستعماري الجديد. من المرجح أن تكون التحذيرات من “أخطار التخريب الشيوعي” ذات حدين لأنها تلفت انتباه أولئك الذين يعيشون في ظل نظام استعماري جديد إلى إمكانية تغيير النظام.
إن الاستعمار الجديد هو، في الواقع، ضحية لتناقضاته الذاتية. فمن أجل أن يجعل من نفسه جذابا لأولئك الذين يُمارس عليهم، يجب أن يظهر على أنه قادر على رفع مستويات معيشتهم، لكن الهدف الاقتصادي للاستعمار الجديد هو الحفاظ على هذه المستويات منخفضة لمصلحة البلدان المتقدمة. ويصبح بالإمكان تفسير فشل برامج “المعونة” التي لا حصر لها، والكثير منها حسنة النوايا، فقط عندما يُفهم هذا التناقض.
في المقام الأول، لا يستمد حكام الدول الواقعة تحت سيطرة الاستعمار الجديد سلطتهم للحكم من إرادة الشعب، بل من الدعم الذي يحصلون عليه من أسيادهم الاستعماريين الجدد. وبالتالي، فإنهم لا يهتمون كثيراً بتطوير التعليم، وتعزيز قوة المساومة لدى عمالهم الذين تستخدمهم الشركات الأجنبية، أو بالفعل اتخاذ أي خطوة من شأنها تحدي النمط الاستعماري للتجارة والصناعة، وهو هدف يحتفظ به المستعمرون الجدد. وبالتالي فإن “المعونة” إلى دولة مستعمَرة جديدة هي مجرد ائتمان دائري، يدفعه سيد الاستعمار الجديد، ويمر عبر الدولة المستعمَرة الجديدة ويعود إلى السيد الاستعماري الجديد في شكل زيادة في الأرباح.
وثانيا، إنه في مجال “المعونة،” يُظهر التنافس بين الدول المتقدمة نفسه لأول مرة. طالما استمر الاستعمار الجديد لفترة طويلة، فستستمر مجالات المصالح، وهذا يجعل المساعدات المتعددة الأطراف – التي هي في الواقع الشكل الوحيد الفعال للمعونات – مستحيلة.
وبمجرد أن تبدأ المساعدات المتعددة الأطراف، فإن الأسياد المستعمرين الجدد يُواجَهون بعداء المصالح الراسخة في بلدهم. إذ يعارض صناعيوها بشكل طبيعي أي محاولة لرفع أسعار المواد الخام التي يحصلون عليها من الأراضي الاستعمارية الجديدة المعنية، كما يعارضون إنشاء الصناعات التحويلية التي قد تتنافس بشكل مباشر أو غير مباشر مع صادراتهم الخاصة إلى الإقليم. وحتى التعليم محل اشتباه في أنه على الأرجح سينتج حركة طلابية، وصحيح أنه في العديد من الدول الأقل تطورا كان الطلاب في طليعة المعركة ضد الاستعمار الجديد. في النهاية، يُظهر الوضع أن النوع الوحيد من المساعدات الذي يعتبره أسياد المستعمرات الجدد آمناً هو “المعونة العسكرية.”
وبمجرد أن يتم جر إقليم استعماري جديد إلى حالة من الفوضى الاقتصادية والبؤس تؤدي إلى تفجُّر الثورة فعليًا حينها، وعندئذٍ فقط، لا يوجد حد لسخاء الحاكم الاستعماري الجديد، بشرط أن يتم استخدام أموال التمويل حصرا في الأغراض العسكرية.
تشير المساعدات العسكرية في الواقع إلى المرحلة الأخيرة من الاستعمار الجديد وأثره هو تدمير الذات. عاجلاً أم آجلاً؛ ستمر الأسلحة الموردة إلى أيدي معارضي نظام الاستعمار الجديد، والحرب نفسها تزيد من البؤس الاجتماعي الذي أثارها أصلاً.
الاستعمار الجديد هو حجر رحى حول رقاب البلدان المتقدمة التي تمارسه. ما لم تتمكن من التخلص منه، فإنه سيغرقها. في السابق كانت القوى المتقدمة قادرة على الهروب من تناقضات الاستعمار الجديد عن طريق استبداله بالاستعمار المباشر. لم يعد هذا الحل ممكناً، وقد أوضح أسباب ذلك بشكل جيد السيد أوين لاتيمور، الخبير في شؤون الشرق الأقصى في الولايات المتحدة والمستشار لشيانج كاي شيك في فترة ما بعد الحرب مباشرة. لقد كتب يقول:
“آسيا، التي تم إخضاعها بسهولة وبسرعة من قبل الغزاة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أظهرت وبعناد قدرة مذهلة على مقاومة الجيوش الحديثة المجهزة بالطائرات والدبابات والسيارات والمدفعية المتنقلة.
“تم غزو الأراضي الكبيرة سابقا في آسيا بواسطة قوات صغيرة. كان الدخل، أولا وقبل كل شيء، يأتي من النهب، ثم من الضرائب المباشرة وأخيرا من التجارة والاستثمارات الرأسمالية والاستغلال على المدى الطويل، لقد غطى نفقات العمليات العسكرية بسرعة لا تصدق. مثّل هذا الحساب إغراءًا كبيرًا للدول القوية. والآن هم يشتغلون في مواجهة حساب آخر، وهو يثبطهم.”
من المحتمل أن ينطبق نفس الحساب على جميع أنحاء العالم الأقل نمواً.
لذا فإن هذا المقال هو محاولة لفحص الاستعمار الجديد ليس فقط في سياقه الأفريقي وعلاقته بالوحدة الأفريقية، بل في المنظور العالمي. الاستعمار الجديد ليس بأي حال من الأحوال مسألة أفريقية حصرية. قبل وقت طويل من ممارسته على نطاق واسع في أفريقيا كان نظاما راسخاً في أجزاء أخرى من العالم. ولم يثبت نجاحه في أي مكان، سواء في رفع مستويات المعيشة أو في نهاية المطاف في إفادة البلدان التي انغمس فيها.
لقد تنبأ ماركس بأن الفجوة المتنامية بين ثروة الطبقات المستحوِذة والعمال الذين توظفهم ستؤدي في نهاية المطاف إلى نشوء صراع قاتل للرأسمالية في كل دولة رأسمالية على حدة.
هذا النزاع بين الأغنياء والفقراء قد انتقل الآن إلى الساحة الدولية، ولكن لإثبات ما هو معترف به، لم يعد من الضروري استشارة الكُتاّب الماركسيين الكلاسيكيين. يتم تحديد الوضع بأكبر قدر من الوضوح في الأجهزة القائدة للرأي الرأسمالي. خذ على سبيل المثال المقتطفات التالية من صحيفة وول ستريت جورنال، الصحيفة التي ربما تعكس على أفضل وجه التفكير الرأسمالي الأمريكي.
في العدد الصادر في 12 أيار/ مايو 1965، تحت عنوان “محنة الأمم الفقيرة،” تحلل الصحيفة أولا “أي البلدان تعتبر صناعية وأيها متخلفة.” وتشرح، “لا توجد (هناك) طريقة تصنيف صارمة.” ومع ذلك، تشير إلى:
إن العطل المعتاد عموماً قد تمت صيانته في الآونة الأخيرة بواسطة صندوق النقد الدولي، وعلى حد تعبير مسؤول في صندوق النقد الدولي، “إن ترسيم الحدود الاقتصادية في العالم أصبح واضحا بشكل متزايد.” “إن العطل،” يقول المسئول، “مؤسس على بداهة بسيطة.”
من وجهة نظر صندوق النقد الدولي، فإن الدول الصناعية هي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومعظم دول أوروبا الغربية وكندا واليابان. وتشمل فئة خاصة تسمى “المناطق المتقدمة الأخرى،” وهي بلدان أوروبية أخرى مثل فنلندا واليونان وأيرلندا، بالإضافة إلى أستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا. تشمل فئة “الأقل نموا” بالنسبة لصندوق النقد الدولي كل أمريكا اللاتينية وتقريبا كل الشرق الأوسط وآسيا غير الشيوعية وأفريقيا.
وبعبارة أخرى ، فإن البلدان “المتخلفة” هي تلك التي تقع في مناطق الاستعمار الجديد.
وبعد اقتباس الأرقام لدعم حجتها، تُعلق صحيفة وول ستريت جورنال على هذا الموقف قائلة:
أضافت الدول الصناعية ما يقرب من ملياري دولار إلى احتياطياتها، والتي تقارب الآن 52 مليار دولار. وفي الوقت نفسه، لم تتوقف احتياطيات المجموعة الأقل تقدمًا عن الارتفاع فحسب، بل انخفضت بنحو 200 مليون دولار. بالنسبة لمحللين مثل “الآنسة وارد” البريطانية، فإن أهمية هذه الإحصائيات واضحة: الفجوة الاقتصادية تتوسع بسرعة “بين النخبة البيضاء، الراضية عن نفسها، البرجوازية، الثرية جداً والصغيرة جداً في شمال الأطلنطي وبين كل الآخرين، وهذا ليس تراثا مريحا يُترك الأطفال.”
يشمل “كل الآخرين” ما يقرب من ثلثي سكان الأرض، والذين ينتشرون في حوالي 100 دولة.
هذه ليست مشكلة جديدة. ففي الفقرة الافتتاحية من كتابه الحرب على الفقر العالمي، الذي كٌتب عام 1953، لخص زعيم حزب العمال البريطاني وقتها، السيد هارولد ويلسون، المشكلة الكبرى في العالم كما رأها حينها بالقول:
“بالنسبة للغالبية العظمى من البشر، المشكلة الأكثر إلحاحًا ليست الحرب، أو الشيوعية، أو تكاليف المعيشة، أو الضرائب. إنها مشكلة الجوع. يعيش ما يربو على مليار ونصف المليار شخص، يمثلون ثلثي سكان العالم، في ظروف الجوع الحاد، والتي يمكن التعرف عليها من ناحية أمراض التغذية التي يمكن تحديدها. هذا الجوع هو في نفس الوقت سبب ونتيجة الفقر والبؤس الذي يعيشون فيه.
وعواقب ذلك مفهومة على هذا النحو. ويؤكدها مراسل صحيفة وول ستريت جورنال الذي اقتُبس سابقا بالقول:
“… العديد من الدبلوماسيين والاقتصاديين ينظرون إلى الآثار على أنها سياسية بصورة ساحقة – وخطيرة. وما لم يتراجع هذا الانخفاض الحالي، يخشى هؤلاء المحللون أن تواجه الولايات المتحدة والقوى الصناعية الغنية الأخرى في الغرب الإمكانية الواضحة، على حد تعبير الخبيرة الاقتصادية البريطانية باربرا وارد، “لنوع من الحرب الطبقية الدولية.”
ثم هناك الافتقار إلى أي مقترحات إيجابية للتعامل مع الوضع. وكل ما يمكن لمراسل صحيفة وول ستريت جورنال أن يفعله هو الإشارة إلى أن الأساليب التقليدية الموصى بها لعلاج الشرور من المرجح أن تؤدي إلى تفاقم الوضع.
لقد قيل إن الدول المتقدمة ينبغي أن تساعد مساعدة فعالة الأجزاء الأكثر فقرا في العالم، وأن العالم بأسره يجب أن يتحول إلى دولة رفاهية. ومع ذلك، هناك احتمال ضئيل بأن أي شيء من هذا النوع يمكن تحقيقه. وتمثل برامج “المعونة” المزعومة لمساعدة الاقتصادات المتخلفة، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة التقريبية، نصف الواحد في المائة (0.5%) فقط من إجمالي دخل البلدان الصناعية. ولكن عندما يتعلق الأمر باحتمالية زيادة مثل هذه المساعدات، فإن المزاج هو نوع من التشاؤم:
“تعتقد مدرسة كبيرة للفكر إن خطط توسيع اقتسام الثروة هي خطط مثالية وغير عملية. هذه المدرسة تعتقد أن المناخ، والمهارات البشرية غير المتطورة، ونقص الموارد الطبيعية وعوامل أخرى – ليس فقط نقص المال – تُؤخر التقدم الاقتصادي في العديد من البلدان، وأن هذه البلدان تفتقر إلى الموظفين المدربين أو الإرادة لاستخدام المساعدات الموسعة بصورة فاعلة. إن خطط اقتسام الثروة، حسب وجهة النظر هذه، ستكون مثل ضخ الأموال في بئر لا قرار لها، تضعف الدول المانحة دون أن تعالج بؤس المستفيدين بشكل فعال.
إن سخافة هذه الحجة يمكن البرهنة عليها من خلال حقيقة مفادها أن كل سبب من الأسباب التي قُدمت لإثبات عدم إمكانية تنمية الأجزاء الأقل تطوراً في العالم تنطبق بقوة وبنفس القدر على البلدان المتقدمة الحالية في الفترة السابقة لتطورها. الحجة صحيحة فقط بهذا المعنى. لن يصبح العالم الأقل نموا متطورا من خلال حسن نية أو سخاء القوى المتقدمة. لا يمكن تنمية هذا العالم الأقل تطورا إلا من خلال النضال ضد القوى الخارجية التي لها مصلحة ثابتة في إبقائه غير متطور. والاستعمار الجديد هو القوة الرئيسية بين هذه القوى، في هذه المرحلة من التاريخ.
أقترح تحليل الاستعمار الجديد، أولاً، من خلال دراسة حالة القارة الأفريقية وإظهار كيف أن الاستعمار الجديد في الوقت الحالي يبقيها فقيرة بشكل مصطنع. بعد ذلك، أقترح أن أبين كيف أنه بامكان الوحدة الأفريقية أن ترفع مستويات المعيشة الأفريقية بشكل هائل، الوحدة الأفريقية التي، في حد ذاتها، لا يمكن أن تنشأ إلا بفعل هزيمة الاستعمار الجديد. من هذه البداية، أقترح فحص الاستعمار الجديد بشكل عام، أولاً من الناحية التاريخية وبعد ذلك من خلال النظر في الاحتكارات الدولية الكبرى التي تضمن استمرار النظام عبر استمرارية سيطرتها على القطاعات الاستعمارية الجديدة في العالم.