لم تجد حركة عموم أفريقيا، البان آفريكانيزم، حظها من المعرفة في السودان للأسباب المعروفة، تحديدا التحيزات الإيديولوجية الإسلاموعروبية، وحاجز اللغة. فالإسلاموعروبيون يعتبرونها عدواً أو على الأقل، منافساً خطيرا. وبعد تعريب التعليم في السودان وضمور اللغة الإنجليزية، أصبح السودانيون أسرى للأحادية اللغوية ومعزولين بقدر كبير عن مسارات المعرفة الرئيسية. وضمن ذلك بالطبع، المعرفة الثرة المتعلقة بحركة عموم أفريقيا، واستبصاراتها التحررية العميقة.
لقد قمنا بترجمة بعض المفاهيم والمقالات وترجمات للشخصيات الأساسية والمواد الأخرى المتعلقة بحركة عموم أفريقيا، البان آفريكانيزم، من مصادرها الموثوقة. وسوف نقوم بنشرها تباعاً، هنا، في التايم لاين، وبالتزامن، بقدر الإمكان، مع نشرها في صحيفة سودانفويسس الإلكترونية.
وبلوغ المرام، أن يعرف الناس الحقيقة. ومعرفة الحقيقة هي أولى بوابات التحرر.
دفاتر البان آف (1)
التنزيح الثقافي (Dislocation)
ترجمة: أبكر آدم إسماعيل
(إنني استعمل “التنزيح الثقافي” ليحمل المعنى ويقوم مقام المصطلح، لأنه الأقرب إلى المعنى الأصلي = المترجم)
تم تقديم مفهوم التنزيح الثقافي لأول مرة بواسطة موليفي أسانتي كمكون مفاهيمي حاسم في نظرية المركزية الأفريقية في الثمانينات من القرن الماضي، وتم تطويره في التسعينات. ووفقًا لنظرية المركزية الأفريقية، تحتل كل مجموعة إثنية فضاءاً خاصاً بها بناءً على تاريخها وثقافتها وبيولوجيتها. يمثل هذا الفضاء مركز المجموعة أو موقعها. ومع ذلك، فإنه من الممكن لمجموعة معينة أن تطور شعورا عن موقع لا يتفق مع تاريخها، ثقافتها، أو بيولوجيتها. يحدث هذا غالبًا عندما تتماهى المجموعة، بوعي أو عن غير قصد، مع مجموعة أخرى، ترى أنها مهيمنة، وتفقد بذلك نظرتها إلى نفسها، مما يؤدي إلى حدوث تنزيح ثقافي. قد يتم التماهي مع مجموعة أخرى على مستويين متصلين: قد يشمل ذلك تبني مواقف المجموعة المسيطرة و/ أو التبني الجزئي أو الكلي لثقافة المجموعة المسيطرة.
أثر التنزيح الثقافي:
لقد أصبح التنزيح الثقافي مصدر قلق لكثير من علماء الدراسات السوداء، حيث أنه لا يمكن إنكار أن الأفارقة قد عانوا من اضطراب شديد على مدى الخمسمائة عام الماضية تحت السيادة البيضاء. يمكن إدراك التنزيح الثقافي في مجموعة كبيرة من المجالات. كما يمكن ملاحظة ذلك بسهولة، على سبيل المثال، في اعتماد الذائقة الأوروبية، مع محاولة الأفارقة تعديل مظهرهم البدني الأصلي من أجل التوافق مع النموذج الأوروبي. مثال مايكل جاكسون المأساوي يتبادر إلى الذهن على الفور. ومع ذلك، على الرغم من أن المغني قد يشكل المثال الأكثر تطرفًا لمثل هذه المحاولة في التشويه الجسدي، فهو ليس وحيدًا بأي حال من الأحوال. فما زال هناك عدد لا يحصى من الأفارقة، في جميع أنحاء العالم، يعتمدون على الجراحة والكيماويات الخطرة من أجل تغيير نسيج شعرهم ولون بشرتهم.
بالإضافة إلى هذا، فإن التنزيح الثقافي مسؤول عن اعتماد الروح الفردية والروح المادية التي تميز الثقافة الأوروبية المهيمنة. والتنزيح الثقافي أيضا واضح تماما في اعتماد النظريات الأوروبية وغيرها من البنى الفكرية من قبل العلماء والكتاب الأفارقة. على سبيل المثال، يواصل العديد من المثقفين الأفارقة الإشارة إلى إفريقيا على أنها “متخلفة” وإلى اللغات الأفريقية باعتبارها “لهجات،” في حين يقول آخرون بصراحة أنه لا يوجد فلاسفة في أفريقيا. ومن الواضح أن هذا الخطاب يعكس تبني الأفارقة اللانقدي، وربما غير الواعٍي، للخطاب الأوروبي بشأن أفريقيا. في حالات أخرى، يذهب بعض كتّاب الرواية السود إلى حد جعل حروفهم السوداء خجِلة، وبالتالي يظل البياض هو القاعدة الضمنية التي تكتب كتاباتهم.
كانت نتيجة التنزيح الثقافي هي الالتباس الهائل، والارتباك، والتدمير الذاتي. والواقع أن الأفارقة المنزّحين ثقافياٍ يميلون إلى الانفصال عن تاريخهم وثقافتهم وبيولوجيتهم، وقد ينخرطون بالتالي في أعمال تتعارض مع المصلحة الأفضل للشعوب الأفريقية. غالباً ما يشار إلى هؤلاء الأفراد سلباً من قبل الأفارقة الذين يعون أنفسهم بالـ”نيقروز.” من المهم إدراك أنه نظراً للعنصرية المستوطنة في معظم الفكر الأوروبي، فإن التنزيح الثقافي الإفريقي لم يكن يعني التثاقف التام أو الجزئي فحسب، بل أيضاً، في كثير من الأحيان، يعني كراهية الذات. وهكذا، فإن الانفصال عن المجتمع الأفريقي كان يُنظر إليه في كثير من الأحيان على أنه ضروري من جانب العديد من الأفارقة المنزّحين ثقافيا، ليس فقط من أجل تحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي، ولكن أيضاً من أجل تقديم وإثبات إنسانيتهم للأوروبيين.
مفهوم التنزيح الثقافي كأداة تحليل:
لقد أسمت آما مازاما، هؤلاء الأفارقة المنزّحين ثقافيا، في الأوساط العامة والأكاديمية في أواخر التسعينات، بالزنوج الأشرار (Malevolent Nigroes). هناك نوعان من الزنوج الأشرار: الزنوج الأشرار ذوي الذائقة الأوروبية والزنوج الأشرار ذوي الذائقة الأفريقية. النوع الأول، بوجه عام، هم أفراد التزموا بشكل كامل وصريح بالدفاع عن التفوق الأبيض، وعلى حساب الأفارقة، إذا لزم الأمر. إن كلارنس توماس، الأمريكي من أصل أفريقي، الذي عينه جورج بوش الأب للمحكمة العليا، الذي أيد تقويض التمييز الإجابي، قد يكون أفضل مثال على الزنجي الشرير بذائقة أوروبية. من ناحية أخرى ، فإن الزنوج الأشرار ذوي الذائقة الأفريقية، هم ظاهرة حديثة إلى حد ما، وهم أكثر خطورة من حيث أنهم يقدمون أنفسهم على أنهم “أفارقة.” فهم لا يدعمون التفوق الأبيض علنًا وصراحة.
ومع ذلك، يمكن ملاحظتهم، من خلف المشهد، وهم يقومون بالخيانة والتقويض المستمر والممنهج لمصادر القوة الأفريقية. من الواضح أن تصرفات الزنوج الأشرار كانت مشكلة خطيرة بالنسبة للأفريقيين لمئات السنين وتسببت مراراً وتكراراً في اجهاض محاولات الأفارقة لتحرير أنفسهم. مثل هؤلاء الزنوج الأشرار غالباً ما يهنيهم الأوروبيون ويكافئونهم بسخاء.
بالإضافة إلى الزنوج الأشرار، ومع ذلك، هناك فئة أخرى: الزنوج الأخيار. هؤلاء هم الأفارقة الذين لديهم نوايا حسنة تجاه مجتمعهم. ومع ذلك، وبسبب تنزيحهم الثقافي ، فإنهم يحللون التجربة الأفريقية من خلال عدسة أوروبية ويشرعون في مشاريع ذات مركزية أوربية في جوهرها وليس بالضرورة في مصلحة الشعوب الأفريقية. على سبيل المثال، ينظر العديد من الأفارقة في الشتات إلى أفريقيا كمكان يحتاج إلى “تحضير” و”تنمية،” ونتيجة لذلك، يقومون بإنشاء برامج لفعل ذلك، بينما يفشلون في إدراك حقيقة أن ما يدعون إليه حقًا من أجل أفريقيا هو التغريب. وعلى نفس المنوال، فإن بعض المدارس “السوداء،” من أجل جعل الطلاب السود “مستعدين للمنافسة،” قد تؤدي ببساطة إلى زيادة التنزيح الثقافي والفكري للأطفال الأفارقة.
إن علاج التنزيح الثقافي الذي تقترحه نظرية المركزية الأفريقية هو إعادة التوطين الثقافي (Relocation). وبينما يناقش الكثيرون ما معنى أن يكونوا أفارقة (أي ما سيتبعه التوطين الثقافي)، هناك إجماع عام على أنه يجب على الأفارقة قبول ثقافتهم وتاريخهم ومظاهرهم البدنية من أجل الانتقال من حالة من الفوضى إلى حالة يسود فيها الانسجام والسلام.
المصدر:
Encyclopedia of Black Studies, p220.