إن الأجيال التي بلغت الآن منتصف العمر أو أقل قليلاً فما فوق تذكر جيداً لعبة السلم والثعبان والتي غالباً كانت تكون مطبوعة على الوجه الآخر للورقة الكرتونية للعبة الليدو والتي عادت شعبيتها في الفترة السابقة من جديد عبر الهواتف الذكية ورغم إنني كنت أعشق لعبة الليدو في ذلك الزمان إلا أني شخصياً ويشاطرني في هذا الرأي الكثير من أبناء جيلي كنت أعتقد أن السلم والثعبان لعبة سخيفة تمتع مخترعها بقدر كبير من السادية ، فالسلم قد يحملك لأعلى الدرجات بينما الثعبان قد يعيدك لبداية اللعبة بكل برود بغض النظر عن حظوظك السابقة في رمي النرد.
إن المتأمل والمستمع في الفترة السابقة للنعيق الكيزاني الجديد حول جمع السلاح في دارفور وكردفان من شجرتهم الوارفة بالفساد – رمز شجرة المؤتمر الوطني الشهير – يحس بأن النعيق هذه المرة نعيق عميق لبومة تحضن بيضاً لم يفقس وأن الشجرة مهددة بالقطع لتنكب عليها وعلى بيضها ، وإذا كنتم تذكرون تسريبات ويكيليكس على ما أظن قبل عدة سنوات عن البشير بأنه ’’جنرال يجيد التلاعب بالمليشيات القبلية بطريقة غريبة ليبقى في الحكمʽʽ فقد تعرفون سبب (الجرسة) التي عليها بني كوز ومن شايعهم هذه الأيام ، فلطالما حير البشير وطواقمه من بني كوز من يتربصون بهم في القوات المسلحة بمهاراتهم عالية الخساسة والنذالة في العمل الأمني والا معقول في حشد وتجييش المليشيات القبلية (عربية وغير عربية) مما جعل هؤلاء المتربصين يضعون أيديهم على خصورهم في عجز تام وهم يتأملون البشير بحيرة هناك عالياً على كرسيه الذي يضع عليه مؤخرته الضخمة ثقيلة الوطأة واضعاً الدولة كلها بشعبها وحميرها وفومها وبصلها أسفله كوسادة مريحة ولسان حالهم – المتربصين – يقول (آكلك منين يابطة) كل ذلك مقترناً بالتلاعب المستهتر الغير مسبوق على التناقضات العرقية والإثنية والعشائرية حتى داخل العشيرة الواحدة. الغريب أنهم ظلوا يلعبون هذه اللعبة بطريقة مكشوفة وبشفافية عاليه وبأمانة صادقة تجاه الضحايا إلا أنها كانت تنجح في كل مرة بكفاءة حيث تكون الضحية مستسلمة وساكنة ومتعاونة في جميع الأوضاع التي يشتهيها المؤتمر الوطني.
لقد كانت دارفور وتشاد مسرح متداخل لصراعات تأثيراتها بعيدة عن المركز ولأول مرة في الوقت الذي أصبحت فيه تشاد تتحصن من هذه الوضعية إتخذ السودان تماماً وضع تشاد نفسها منذ نهاية السبعينات مروراً بالثمانينيات والتسعينات حتى بدايات القرن الحالي وهو الوضع الذي كنا بعيدين عنه تماماً ولم يكن حتى متصوراً قبل مجيء الإنقاذ ، حيث كان تغيير السلطة في تشاد يعتمد على إنحياز قبائل معينة على الأرض لأحد طرفي النزاع فيتم حسم النزاع فوراً وبروح رياضية تدل على تجذر هذه الآلية في فض النزاعات. وكانت ليبيا – ماتت بنفس الداء رحمة الله عليها – هي المزارع ودارفور الحديقة الخلفية ، إلا أن ليبيا نفسها أيضاً تذوقت الكأس المر لهذه التحالفات حينما إنضم حلفائها في العام 1986م لغريمها حسين حبري بإيعاز من جوكوني عويدي فتعرض القذافي وقتها لهزائم عسكرية مخزية في شمال تشاد إنتهت بتحرير الشمال في العام 1987م من القوات الليبية المتطورة التسلح – بما فيها الطيران والمدرعات – في ما عرف بحرب التويوتا الشهيرة (ياها التاتشر ذاتا العند الجماعة هسع) وإذلاله بإحتلال التشاديين بقواتهم السريعة الحركة المزودة بمضادات الدروع والطيران لأراضٍ داخل الحدود الليبية نفسها. كانت هذه الدائرة تدور وتنتهي هناك في تشاد ودارفور وليس في شيء من إهتماماتها الحقيقية من بعيد أو قريب الخرطوم حيث أن مكونات دارفور نفسها كان عمقها الإستراتيجي الحقيقي في تشاد وينطبق نفس الشيء على المكون التشادي أيضاً ، ولهذا فرغم الإنهيار التام للضبط والربط في دارفور في ذلك الوقت (بالمعايير المحترمة لذلك الزمن طبعاً) في ما عرف بظاهرة النهب المسلح فلقد سلمت الحكومة مشكلة دارفور برمتها للشرطة العادية وزراعها الضارب المعروف بالإحتياطي المركزي والذي إشتهر بأدائه في دارفور كمسرح رئيس لهذه القوات ، بينما كانت القوات المسلحة ومن خلفها كل الدولة غارقة لشوشتها في مستنقع الجنوب وتصيح بين الفينة والأخرى وامعتصماه فيأتيها الدعم من بغداد وغيرها من الحلفاء العرب. بالنسبة لدارفور كان المشكلة هي فقط إعادة الإنضباط للإقليم للحفاظ على سمعة وهيبة الدولة ، أما المشكلة في الجنوب فكانت للحفاظ على الدولة والمجتمع نفسه. بل وكان ينظر لدارفور كإحدى الإحتياطيات الإستراتيجية مع كردفان لمواجهة الجنوب وكعمق إستراتيجي بعيد عن المركز ضد الثوار الجنوبيين ومن لف لفهم! بإستغلال المركز اللا أخلاقي التام للعقائد والقيم المشتركة بينه وبين الإقليمين وإستغلال الأمية المتفشية والتي تم الحفاظ عليها عن قصد خاصة من الطائفية الريعية الملوكية شديدة القذارة التي فضلت الحفاظ على هذا الوضع لِيُدر عليها ريعاً يصب عليهم إسترلينياً دافئاً يبني لهم القصور في لندن ويعلم الأبناء النجباء في إكسفورد ويمارسون البولو لعبة الملوك على ظهر الجياد الأصيلة ويلعبون التنس ، وفوق هذا كله إستغلال حب سكان الإقليمين المتجذر للفروسية وقيم المواجهة والقتال ليتم الحفاظ عليهم كرصيد مقاتل لحماية مصالحهم الأمر الذي لم تفعل الإنقاذ شيء غير أنها إستفادت من هذا الرصيد الجاهز وبنت عليه بأن أوصلت اللعبة لأقصى مدىً يمكن أن تصل إليه ، مما أفضى لتطاحن الإقليمين مع الجنوب لدرجات غير مسبوقة عبر بوابة القوات المسلحة والنظامية والمليشيات الأهلية ، حيث أن قرابة التسعة وتسعون في المائة من التشكيلات المقاتلة للقوات النظامية على الأرض ينحدرون من الإقليمين ما عدا الضباط بإستثناء ترميز تضليلي مستهتر (بإدراج بعض الضباط من الإقليمين هنا وهناك) يتم معاقبة أصحابه بشدة – بِحَكِهم حكاً – في مسرح العمليات (وهذه صورة يعرفها كل من ينحدر من الإقليمين منذ نعومة أظافره ولهذا لاداعي للدخول في جدال ومغالطات جهوية مريرة ، فالإعتراف بالحقائق الواضحة كالشمس ربما يقود لحل المشاكل ولكن إنكارها بسبب عدم إستساغتها والقدرة على بلعها لطعمها غير المحبب ووضع الحلول وفقاً لذلك ليس سوى وقود ممتاز لزيادة إشتعالها). ثم أتى الدور بعد ذلك لتتطاحن مكونات الإقليمين في بينهما بشكل أكثر شناعة ، مما قاد أحد الباحثين من أبناء كردفان وهو د. حامد البشير إبراهيم لوصف هذه الظاهرة بظاهرة (إنتحار الهامش) ورغم أن وصفه هذا ليس الأول من نوعه عالمياً إلا أنه أول من دبجه محلياً.
إن إفراط البشير في إتخاذ المليشيات سنداً شخصياً لحكمه ولقمع التمرد والثورات على حكومته والنظام الإجتماعي القائم لعدم ثقته في الأجهزة النظامية وإتقاءً لمطامع شركائه ومنافسيه من النخب قد يكون حبلاً أغلظ يلفه حول رقبته ، ولم يتعظ البشير من جارته تشاد أو حتى مورد إرتزاقه الجديد في اليمن والتي هي عبارة عن قبائل مسلحة شكل تحالفاتها ومصالحها يكتب شكل الدولة ، أما غريمه إدريس دبي فقد برهن عن حنكة وعقلانية بعد أن وعى الدرس ورفع المنديل الأبيض وحاول أن يتفرغ للتنمية والمصالحة ، فرغم إنه دكتاتور تقليدي لايمكن أن يصنف بأي حال في خانة الدكتاتور الرشيد إلا أنه شخص عادي يتمتع بقدر من الرشد الذي يتمتع به أي رجل أو إمرأة طبيعية ، فلم نسمع عنه من قبل أنه قد قام بهز أردافه أمام الجمهور (بالمناسبة إدريس دبي ممشوق القوام وقد يتعذر عليه الأمر لأسباب فنية).
هذه البيئة من الصراعات والتي غذتها الإنقاذ بلا هوادة لتبقى في الحكم لايخفى على عين المراقب أنها قد أدت لإنحلال المحاولة الثانية للدولة المدنية في السودان أو على الأقل أوصلتها لنهاياتها. لقد كانت المحاولة الأولى في العهد التركي والتي بدأها محمد على باشا وختمها محمد أحمد المهدي ، وحسب بعض الكتاب فإن المهدية حينها قد أعادت السودان إلى الوراء قرابة المائة وعشرون عاما من محاولات تسكين المدنية المتوافرة في ذلك الوقت رغم عيوبها ، وقد بدأت المحاولة الثانية والتي ظاهرياً حققت نجاحاً كبيراً بالغزو الإنجليزي المصري بقيادة كتشنر وحققت إستقراراً حتى نال السودان إستقلاله ثم بدأت تنازع الروح من ذلك الحين. أما بعد أن وصلت الكرة لملعب البشير فقد إنفرد بها مستمتعاً باللعب الفردي وعدم تمرير الكرة أو حتى الإلتزام بإستخدام القدميين والرأس فقط في أنانية طفولية هي أقرب للعته منه إلى الدكتاتورية محققاً الإنجاز الأكبر في إنحلال هذه المدنية وبهذا فقد أعاد البشير هلله الله المجتمع السوداني إلى إنسانيته الأولى نهاية عهد اللقيط وبدايات الثورة الزراعية برده إلى المكونات الرئيسية من القبائل والعشائر وعلاقات القرابة ، والتطور مستمر على قدم وساق للعودة التامة لعهد اللقيط ونبذ حتى الزراعة تماماً والإعتماد التام على جمع الثمار والصيد وأكل الإنسان (حرفياً) لأخيه الإنسان (Cannibalism) وهي ممارسة طبيعية كانت شائعة في التغذية البشرية في عهود ما قبل الثورة الزراعية ، وكنت قد قرأت في فترة مبكرة من حياتي في مكتبة تعود لجدي رحمه الله في نسخة قديمة لمجلة لبنانية علمية شهيرة كانت تصدر في الخمسينات والستينات من القرن الماضي في إجابة محرر المجلة وهو طبيب لسؤال أحد القراء عن لماذا للزنوج هذه الشفاه الغليظة الممطوطة؟ فأجابه بكل ثقة وإحساس بالأمانة العلمية بأن وظيفة هذه الشفاه هي مساعدة الزنوج على إلتقاط الثمار من الأشجار ، حتى إنني قد تحسست شفاهي بريبة وقتها بل وحاولت أن أختبر هذه الوظيفة في ما بعد لأتأكد من صحتها العلمية! ورغم أن هذه الخزعبلات قد مر عليها زمن طويل جداً إلا أني بدأت أعتقد فيها مجدداً حيث منذ فترة وخصوصاً مؤخراً بدأت بعد المواقع المهتمة بالشأن السوداني تبدي ملحوظاتها عن عملية نشوء وإرتقاء واضحة على بشة يبدو أنه بدأ يطورها ليقود بها المجتمع السوداني ماطاً شفاهه لأقصى حد وشعبه خلفه ماطاً ما استطاع تحت قيادته الميمونة في المسيرة القاصدة النهائية بلا عودة نحو الأشجار لنلتقط الثمار.
ما وفر التفوق غير المسبوق للبشير وزبانيته على الملعب أنهم قد أسقطوا برقع الحياء والأخلاق بجرأة مدهشة يحسدون عليها ما أفسح لهم هامشاً كبيراً للمناورة لم يتوفر لغيرهم وأتوا العيب قُبُلاً ودُبُراً وإرتكبوا جميع المنكرات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والشخصية المتصورة والغير متصورة بما لم تتوقع الشعوب السودانية أنه معقول أو ممكن الحدوث ولهذا فقد أُخِذَت جميعاً على حين غرة ولا زالت لإعتقادها بأن هناك سقفاً للمنكرات .. وهنا مكمن الخطر وما يعول عليه البشير وزبانيته.
ورغم أن البشير قد إستمرأ سلم المليشيات سواء كانت عربية أو غير عربية دون أن يتذوق ثعبانها حتى الآن إلا أن الثعبان نفسه قد يبدو ظريفاً ، فهو يعيدك عدة خانات إلى الأسفل أو ربما يعيدك إلى خانة البداية ، ولكنه قد يفقد طرافته ويتحول إلى أصلة تبتلعه تماماً فتصبح اللعبة غير مسلية مرة أخرى – It’s not funny anymore – ووضع البشير الآن مع المليشيات يمكن أن يعبر عنه قول ابن زيدون وهو يصف علاقته مع الملك المعتضد بن عباد ونجاته من فتكه عندما كان وزيره بقوله: (كنت كمن يمسك بأذني الأسد ، ينقي سطوته تركه أو أمسكه). فهذا الأسد إذا ما أفلت البشير أذنيه وسقط عن ظهره ربما يتغاضى عن نبل القططيات المعروفة بقتل ضحيتها خنقاً قبل أكلها فيأكله حياً تأسياً بدناءة الكلبيات مثل الذئاب والضباع ، وربما يفقد أدبه تماماً ويأكله من مؤخرته.
كوكو موسى