تاملات في سطور دفاتر الصراع بين حضارات شريط النيل والشعوب البعيدة ؛؛
بقلم : محمد خميس دودة
في بدايات صراع الانسان كان مع الطبيعة وظواهرها ، وبقية الوجود المادي التي تهدد بقائه كجنس بشري قبل ان يتطور الصراع الي انسان واخيه الانسان ويصبح الصراع سر تطور الانسان وسمته الحقيقية ، فبمنطلقها تكونت المجتمعات القديمة والحديثة ، فالصراع يعتبر من اغلب العوامل التي تعيد تشكيل المجتمعات .
و السودان يعتبر جزء من اقدم مناطق التجمعات البشرية ، والتي انطلقت منها معظم الحضارات عبر التاريخ الطويل وهي ” وادي النيل” ، الذي قامت في ارضه اقوي التجمعات البشرية كمماليك وسلطنات ، حيث نشأت علي ارضها عديد من القوات التي اثرت في تحديد مسار الحضارات علي المستوي السياسي ، الثقافي والعسكري وحتي التغييرات الديموغرافية عند معظم شعوبها .
فيحدثنا التاريخ المدَون ان مملكة ” كوشي ، مروي ، علوة ، سوبا ، فونج ، عبدلاب ، فور ، مسبعات وتقلي ….الخ” كلها حضارات نشأت وتطورت وتدهورت ، وانها اعتمدت بشكل كبير علي القوة في النشأ ويزدهر بضم الشعوب البعيدة من مركز الحضارة ومواردهم وتتدهور بفعل اسرافية المركز ” خرطوم الحضارة” في الاستغلال الغير عادل في التنمية وتهميش البوادي والريف البعيدة.
ولكل مملكة خرطومها الخاص بها ومعظم تلك الحضارات في حركة تاريخها ستجد انها تفككت بفعل مشاكلها الداخلية. وتقوم دوماً علي انقاض المملكة المنهارة مماليك اخري كمملكة كوش الي “نوباتيا ومقرة وعلوة” النوبية .
كما يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع العربي ابن خلدون في مجلدات علم العمران البشري ان المجتمع ككائن حي يولد ثم يكتمل نموه ثم يحرم ويموت وعلي هذا الاساس يمر الدولة بالمراحل التالية : بداوة ، ازدهار وتدهور ،ويعتقد ان الحضر تفسد طبائع الريف فيقول يتجه اصحاب الدولة الي الاسراف في التنعم والتكسب والتملك من امتيازات الحضارة ويركنون الي الزهد والدعة والسكون والخلود في الراحة ويكثرون من معاقرة النساء وشرب الخمور ، فتزول هيبة الدولة من النفوس ، وتظهر القلاقل والفتن فتقوم معارضة ، فيسقط الدولة ، فتظهر جماعة اخري من الاطراف المهمشة يسعى الي الملك والريادة وتحل محلهم .
كاننا به اليوم في خرطوم حضارتنا الحديثة التي توارثها بعض مكونات شريطنا النيلي من الوريث المستعمر بكل انواعه ، حيث ورثوا مخلفات الترك والباشوات والانجليز والعرب والاسلام وكل اشكال الامبريال في السودان ، فحشدت جميع طاقات اطراف البلد فيها وتنعمت شخوصها وزهدت في التملك وحصرت تتطاول البنيان والتعليم والصحة وكل اشكال الرقي والتحضر لها وظلمت اخوتها في قرى الشمالية ، وريف الشرق وغابات الجنوب واحراش ووديان الغرب فبدأت هيبتهم في تراجع وانتقاص ، وسقط امرتهم فظهرت جماعات من الريف ، القري ، الغابات والاحراش وطالبت ان تعيد سياغ الحضارة من جديد ،
فتنكرت لها المتنعمون وانهالت اليهم بالشتم تارةً في العرق وتارةً في اللون واخري بالدين وكل اشكال التعنصر والجهوية.
فكان الاجدر ان نكافح الانتكاسة الي كل اشكال التخلف والانحطاط ، لكن للأسف لازلنا نحارب بعضنا لاتفه الاشياء ،وبدل من ان نعترف ونقول بأن سياستنا ورثة ، وتعليمنا ورثة ، وجيوشنا ورثة وحتي خرطومنا ورثة نستميت في المزايدة علي البعض ونوزع الصكوك في السياسة والوطنية
فلماذا كل هذا؟!!
التمركز هو الذي افرغ مجهوداتنا علي مر التاريخ
فتمركز التعليم والصحة والسياسة والقوي وكل شئ في الخرطوم ستجعلها في سلة التاريخ يوماً ما.
فالحاجة الي ترتيب هذه الاشياء وتوزيعها بمعاير وطنية من مقتضيات الضرورة قبل ان تندثر الاشياء وتضمحل وتبقي احجية في رواية كرواية تشينوا اتشيبي “Things Fall Apart”