السؤال الذي ينبغي أن يشغل بال القوى المنادية بالديموقراطية هو إلى أي مدى سوف تنجح هذه المفاوضات في تفكيك نظام الإنقاذ بغية تحقيق التحول الديموقراطي الفعلي وليس على الورق كما فعلت نيفاشا. بمعنى آخر، هل ما يحدث الآن مجرد إعادة إنتاج لاتفاقية نيفاشا، أم أنها تحمل لنا جديداً يتعلق بالتحول الديموقراطي الفعلي؟ هذا هو السؤال السياسي الملح الآن.
إلا أن المشكلة الماثلة ليست متعلقة بالسؤال المعرفي الإيبستمولوجي لأهداف التفاوض، بل حقيقةً المسألة لا تزال متعلقة بفنيات التفاوض. هذا السؤال التقني المتعلق بفنيات التفاوض هو هل في مقدور أي طرف من أطراف المفاوضات (بما في ذلك الوسيط ــ هذا إذا كان فعلاً وسيطاً) أن يرسم لنا مخططاً بيانياً لهذه المفاوضات التي تتم تعميتها بلفظة “مباحثات” أو “حوار” وخلافه؟ ففي علم التفاوض وفض النزاعات لا يجوز جمع أطراف الصراع وإجراء أي جولة من جولات التفاوض قبل أن تتحقق آلية التفاوض mechanism of negotiation التي تقوم في عمودها الفقري على رسم المخطط التفاوض البياني Negotiation Graph. هذا المخطط تقوم أولاً برسمه أطراف الصراع كلٌّ على حدة حيث تقوم فيه بتبيان البنود التي سوف تتمسك بها بلا تنازل مقابل تلك التي يمكن أن تتنازل عنها. يتكون معدل التمسك والتنازل من 10 درجات تقف عمودياً على الجانب الشمالي مقابل قائمة البنود التي تقف أفقياً أسفل المخطط. ويتلخص دور الوسيط ابتداءً في أن يقوم بمضاهاة المخطط البياني لطرفي الصراع فإذا لم يشكلان صليباً متقاطعاً، عندها وجب عليه أن يكثف من اجتماعاته بطرفي الصراع، كلٍّ على حدة، إلى أن يقوم بتحقيق تنازلات جوهرية ها هنا وها هناك من شأنها أن تعطيه تقاطعاً بين المعدلين، إن لم يكن حاداً، فعلى الأقل يكون بصورةٍ من شأنها تقريب الشقة بين طرفي الصراع، أو أطرافه.
دور الوسيط في علم التفاوض
أخطر ما في هذا حقيقة بسيطة، ألا وهي أن الوسيط هنا لا يأتي باقتراحات من عنده peace brokering، من شأنها أن تفضي بالمشكلة إلى الحل. فالحلول ينبغي أن تنبثق من من داخل بنية الصراع بافتراض أن المصلحة العامة لأطراف الصراع سوف تطغى في النهاية، الأمر الذي من شأنه أن يقرّب الشقّة بين المتصارعين. وهذا، معرفياً، أي إبيستمولوجياً، يعني أنه لا بد في البدء من التأكد من توافر توافقية وطنية بين أطراف الصراع، وإلا فالموضوع يعني ببساطة أن ما يقوم به الوسيط ليس سوى اصطياد في الماء العكر، مثلاً كسعيه لتعميق شقّة الخلاف بين الأطراف بغية تقسيم البلد المعن، وهو ما رأيناه في نيفاشا ولا نزال نعيش آثاره المدمرة.
بالعودة إلى موضوع مخطط التفاوض البياني، تكمن المشكلة، فيما أعلمه جيداً عن أطرف الصراع (بما فيها الوسيط وومجمل الفريق العامل غير المؤهل فنياً و/أو أخلاقياً)، أنهم جميعاً لا يعلمون بمسألة المخطط البياني للتفاوض. هذا الحكم، على قسوته، يمكن تفنيده ببساطة، ذلك بأن يقوم أحد أطراف الصراع بتمليكنا مخطط تفاوضه البياني إن كان لديه شيء كهذا.
والسؤال الفني (لاحظوا أننا لا نزال في دائرة الإشكالات الفنية) لماذا إجراء كل هذه المفاوضات وجمع الفرقاء والتبشير بانفراج قريب للأزمة إذا كنا لم نستوفِ بعد أشراط الحوار الفنية؟ هل يمكن أن تكون كل هذه المنظمات الدولية ضالعة في مفاوضات لا تزال خديجة، لم يكتمل نضجها بعد؟ هذا بالطبع سؤال كبير وخطير. إلا أنني لا يهمني هنا كمراقب وكأكاديمي درّس ببعض الجامعات آليات تحقيق السلام وفض المنازعات والتفاوض خطورة السؤال بقدر ما يهمني توافر الشروط. في هذا الصدد أقول وبملء فمي إن هذه المفاوضات تفتقر إلى أبسط مقومات التفاوض، وبالتالي هي ليست مفاوضات من ناحية علمية بحتة. فماذا يمكن أن نسميها؟ وماذا يفيدنا علم آليات السلام وفض النزاعات والتفاوض في تفسير ما يجري الآن في أديس أبابا؟
الأمم والمفاوضات بين الاستقلاية والتبعية
كما قلنا، لا ينبغي أن يأتي الوسيط وهو يحمل في جعبته، ليس فقط المقترحات، بل ما يسمونه بخارطة الطريق. ذلك أنه لا يمكن لأمة تأتيها الحلول من الخارج أن يستقيم لها أمر بين الأمم. فهذه تدلّ على درجة من الإعالة dependency تتناقض ودرجة الاستقلالية Independency الواجب توفرها في الأمم، ذلك لأنه لا يمكن أن تكون هناك أمة بالفهم العلمي للكلمة دون أن يكون هناك مؤشر حضاري وثقافي واجتماعي يُشير بوضوح لما تتجه نحوه. لقد أدرك الإسلاميون منذ نشأتهم الأولى أن هذه هي مشكلة الشعب السوداني، لا بذكائهم الفكري، بل بمحض معارضتهم للتوجه غير الديني للمجتمع بصورة عامة. ولهذا ركزوا منذ أن استولوا على الحكم على مسائل بعينها مثل التوجه الحضري وتشكيل المجتمع بصورة بعينها بحيث يكون مظهره العام عربياً إسلامياً ولو كان ذلك على مستوى القشور. في هذا تفوقوا على باقي القوى السياسية فاقدة الرؤية دون أن يكون للإسلاميين بدورهم أي رؤية عملية لتحقيق هذا التوجه أو إعادة تشكيل المجتمع بخلاف الأرصدة الجاهزة في الإسلام وتتلخص في العقوبات الجائية إذ نظروا إليه بمنظور أيديولوجي وليس منظوراً فكرياً حراً، ثم في الأيديولوجيا العروبية حيث استندوا في ذلك على أرضية جاهزة قوامها العجهية العروبية وإزرائها لكل ما هو أسود من قبل الإسلام إلى ما بعده.
فإذا كان هؤلاء هم أذكياؤنا، وكان واقع حالنا الراهن هو ما أفضى إليه ذكاؤهم المزعوم هذا، فلك أن تتصو درجة الغباء الفكري والأيديولوجي في بقية القوى السياسية التي تنادت من كل فجٍّ عميق وتلاقت في أديس أبابا أملاً في حوار، أو قل “خُوار”، أو تفاوض (أو سمِّه ما شئت) يقوم فيه الوسيط بابتدار الحلول.
لقد أثبتت القوى السياسية المناهضة لنظام الإنقاذ درجة إعالتها البالغة منذ أول وهلة عند مجيء حكم الإنقاذ في عام 1989م. فقد نظرت إلى الغرب تنشد فيه العون والمظاهرة على نظام الإنقاذ الذي يتعارض تماماً وقيم الغرب، مستجديةً الغرب في ذلك برشوة بائسة ما كان للغرب أن ينخدع بها طالما هو نفسه ذلك الغرب المتوحش الذي اجترح تجربة الرق والاستعمار، ثم الاستعمار الحديث فيما بعد ذلك. ثم كان أن هربت عناصر هذه التنظيمات إلى دول الغرب بأوروبا وأمريكا ثم أسترالي بعد ذلك إلى نيوزيلاندا وربما أبعد من ذلك مما لا نعرف له قرار في حارطة العالم هذا. ساحوا في شتاتهم الغربي هذا دون أن تظفر ولو دولة أفريقية واحدة بمنفاهم الاختياري هذا إلا من رحم ربي وهم فليلُ قليل،فعلوا هذا وهم يأملون فأقصى أحلامهم العصفورية بالحصول على جواز سفر به يستقوون على دولة الإنقاذ التي باشرتهم بالجلد والضرب والسجون والتعذيب (كأن لم يحكمهم الصادق المهدي في ظل الديموقراطية بنفس قوانين سبتمبر 1983م سيئة الصيت والتصدير والتصوير). إذن، الاعتماد على القوى الخارجية (الغربية منها ذات الأجندة المضادة للوطنية السودانية منها بوجهٍ خاص) لتحقيق التغيير المنشود ليس سوى إرث سياسي للمعارضة السودانية بوجهٍ عام. وبالطبع، الآن وبعد ربع قرنٍ من الزمان، لم تفرخ لنا هذه الخيبة (الوطنية) شيئاً سوى دواعش انطلقت من تلقاءالأسر السودانية بالغرب ممن صدر أول أمره بوصفه معارضاً للإنقاذ وسوءات أيولوجيتها الإسلاموعروبية. وبالطبع، لا تلد الخيباتُ إلا المزيد من الخيبات! إ
ذن، ماذا يمكن أن نسمي ما يجري الآن في أديس أبابا؟
المفاوضات الزائفة كوسيلة للضغط بغية الهيمنة
كما سلف منا القول، عندما يأتي الوسيط وهو يحمل في جعبته تصوراً لما ينبغي أن تنتهي إليه المفاوضات، فهذا يقع في خانة الضغوط الممارسة إما على طرف دون الآخر، أو على كلا الطرفين. وأيضاً، عندما يأتي الوسيط بتصور لما ينبغي أن يكون عليه الحل، فهو يفعل ذلك انطلاقاً من مصلحة بعينها لا يمكن لها أن تكون مصلحة أطراف الصراع، بل مصلحة طرف ثالث لا علاقة له بالصراع بخلاف رغبته في استثمار هذا الراع لتمكين هيمنته على الواقع الذي يجري فيه هذا الصراع.
ولكن ما هي مصلحة إمبيكي في صراع الهيمنة هذا؟ في البدء، من هو إمبيكي هذا؟ نعم، جميعنا يعلم أنه الرئيس السابق لجنوب أفريقيا. لكن لماذا هو الآن الرئيس السابق لجنوب أفريقيا؟ ببساطة لتورطه في الفساد السياسي والاقتصادي معاً! من هم معاونوه؟ إنهم جميعاً إما أناس يعملون لصالح السي آي إيه وبصورة لا لبس فيها أو غموض (مثل أبدول ــ وباعتراف دولهم)، أو أناس حامت حولهم تهم قوية بأنهمك يتلقون الرواتب من نظام الخرطوم (مثل أليكس دوي وال بموجب التسريبات الأمنية لكتاب الخندق لفتحي الضو)، أو أناس سذج، أغرار من السودانيين (مثل محمد منعم منصور الذي لولا خلفيته القبلية والسياسية المايوية لوالده لما تلقى فرص الصعود التي تلقاها، وهو في غاية الانبساط بها بوصفه أفندياً مثل جميع أفنديتنا السياسيين الذين يملؤهم البطر والزهو الطفولي بأنهم مشاركون في مفاوضات ترعاها هيئات دولية وأنهم ينزلون بفنادق 5 و 7 نجوم إلخ مما أدمنه سياسيو نضال الهامش وكل هذه الترهات مما سنفيض فيه إذا ما وجدنا إلى ذلك سبيلا). وهذا يشبه ما ناله توني بلير إثر إرغامه على التنحي جراء تورطه في حرب العراق التي قامت على جملة من الأكاذيب البلقاء. فقد تم تعيينه موفداً أوروياً لمشكلة الشرق الأوسط. هذا هو إمبيكي وباقي فريقه إذ لا يهمه في كل هذا غير ما ينوبه من مرتبات ومكافآت، فضلاً فرص العودة إلى واجهة الحيتة السياسية بعد أن حكمت عليه أفعاله بالموت السريري. إمبيكي وتوني بلير وغيرهما كثرٌ ليسوا سوى أدوات في يد القوى الحقيقية التي تسيّرهم كيفما تشاء، وفي هذا نظر وتأمل.
من المستفيد من هذه المفاوضات؟
ليس لنا أن نجمح في تحليلاتنا بخصوص الإجابة على هذا السؤال؛ إذ ينبغي لنا أن ننتظر ما ستتمخض عنه هذه الضغوطات الدولية التي تحمل مسمى “المفاوضات”. إلاّ أن التجارب تُشير إلى أن مثل هذه العمليات الضغوطية التي يخطط لها بعناية أن تسمتر طويلاً، طويلا، من المرجح أن تستفيد منها الأطراف القوية. ما هي الطراف القوية؟ إنها بالطبع أمريكا كرمز للطغيان العالمي للغرب على دول العالم المستضعفة. ثم بعد هذا نظام الإنقاذ الذي بيده الملك ثم المال ثم السلاح، فضلاً عن استعداد فكري وفطري وغريزي لبيع وهن مقدرات الدولة الوطنية لمن هبّ ودبّ طالما كان ذلك سيبقيهم في كراسي السلطة.
جاء في أنباء الفيسبوك (وهي أنباء يصعب التأكد منها كونها لا تخضع للسيد قوقل لدى البحث عنها) أن الباشمهندس عمر الدقير (رئيس حزب المؤتمر االسوداني ورئيس وفد الحزب المشارك في مفاوضات/ مباحثات/ الضغوطات/ حوارات أديس أبابا الجارية) التزامه عبر صفحته في الفيسبوك بإطلاع الرأي العام بما يستجد خلال سير المفاوضات. لكم كان بودي أن أسأله عن مخطط المفاوضات البياني، هل لديه علم به؟ فإذا كان هذا كهذا، هل قام حزبُه برسمه؟ وهل تجاوب إمبيكي ذو العماد مع هذا المخطط؟ هذا ما كان بودي، ولكن لا تُنال المطالب بالتمني. أتيت بسيرة هذا الحزب الشاب لأن لوفده السياسي تجربة فريدة مع المسئولة السياسية بالسفارة الأمريكية بالخرطوم، ذلك عندما التقوا بها في سياق الدعوة للحوار الوطني التي أطلقها الرئيس عمر البشير فلم تتعامل معها أي جهة سياسية بجدية (بما في ذلك الرئيس عمر البشير نفسه) بخلاف الدول الغربية التي وجدت في تلك الدعوة ضالتها لحمل المعارضة للدخول في تسوية مع نظام الإنقاذ تكون على حساب التحول الديموقراطي الحقيقي’ في هذا السياق قام وفد حزب المؤتمر السوداني قبل حوالي 3 أعوام بمقابلة السئولة السياسية في السفارة الأمريكية بالخرطوم. لم يكن يهم الأمريكان شيء بخلاف دخول المعارضة السودانية في صيغة تساومية مع نظام الإنقاذ شبيهة باتفاقية نسفاشا التي لم تغعل شيئاً برغم نصاعة النصوص غير فصل جنوب السودان. في المقابل، جاء وفد حزب المؤتمر السوداني البريء (الغرير) وهو ممتلئٌ زهواً كالطاووس، ولم لا؟ فقد بدأت أخيراً بعض السفارات الغربية بالانتباه إلى وجوده وهو الذي ظلّ مغموراً منذ لحظة تأسيسه في عام 1986م للدرجة التي قام فيها تنظيم الجبهة الإسلامية لدى استلامه للسلطة عبر انقلاب الإنقاذ بالسطو على اسم هذا الحزب الخديج دون أن ينتبه لذلك الشارع السوداني. جاء وفد الحزب وهو في غرّته تلك يحلم بأن يأتي بما لم تستطع به الأوائل: إقناع المسئولة السياسية الأمريكية ومن بعدها السفارة الأمريكية وبعدهما دولة أمريكا بحالها بضرورة توحيد جهودها مع القوى الديموقراطية في السودان للتخلص من حكم الإنقاذ. فعلوا هذا في الوقت الذي كانت المسئولةالسياسية بالسفارة الأمريكية تحلم بدورها في ألأن تقنع هؤلاء السذج الأغرار بالفوايد الجمة التي يمكن أن يجنوها لو انخرطوا في الخط الأمريكي للمسألة السودانية، وهو خط قائم على ضرورة الإبقاء على نظام الإنقاذ في حالته الضعيفة والمستضعفة ريثما يقوموا بتفكيك الدولة السودانية إلى عدة دويلات صغيرة وبالتالي تفكيك مؤسسة الدولة الوطنية التي تأسست عام 1648م وقامت عليها دولنا في مرحلة ما بعد الاستعمار ومن ثم إبدالها بنظام الدولة المشيخية على غرار الخليج العربي والسعودية. وبالطبع، هذا خطابان متناقضان ولا يمكن أن يلتقيا. طفق وفد حزب المؤتمر السوداني يتحدث بحمية متصاعدة وخطابة رنانة عبر لغة إنكليزية بائسة ولو كانت بطلاقة فيما تتململ المسئولة الأمريكية. ولكن عندما بلغ بها الكيل مبلغه (وهي طبعاً لم تكن تحمل أي احترام ندي لوفد حزب المؤتمر السوداني ولا لغيره من قبيل أي أحزاب أو قوى بالعالم الثالث)، قاطعتهم وأرادت أن تأتي “بالزيت” (كما يقول شبابُنا الآن ــ أي بالخلاصة) قائلةً: “لماذا لا تنضمّوا إليهم (تقصد حزب المؤتمر الحاكم)؟ فهم يملكون المال والسلطة ثم يتمتعون بالدعم الدولي”!
مفاوضات أديس أبابا ومبادرة منظمات المجتمع
هذا ما سأكتب فيه لو أن المولى قيّض لنا في ذلك سببا. فهذا الجانب سوف يكشف عن قناعتنا في أن هذه المبادرة (أولاً) ليست سوى تجسيد لعقلية الجلابي النيلي الشمالي الذي لا يرى في الآخرين القادمين من من مناطق الهامش الأفريقي سوى مشروع رقيق ليس إلا؛ ثم (ثانياً) تكشف عن قناعتنا كيف أن منظمات المجتمع المدني الدولية المموِّلة لأنشطة منظمات المجتمع المدني السودانية (بالداخل وبالخارج) بطريقة لا حسيب ولا رقيب ليست سوى إحدى وسائل المسئولة السياسية الأمريكية بالخرطوم، وبالتالي تقع هذه المنظمات (وبوعي تام منها طبعاً) في خانة المنظمات المناهضة لشعوب العالم الثالث ودولها؛ ثالثاً، تكشف مرافعتنا التالي عن قناعتنا بأن أغلب هذه المنظمات السودانية التي تتلقى مثل هذه الإعانات بطريقة لا حسيب ولا رقيب وبوعي أغلبها الأعم بكل أسف أنها تخدم أجندة الإنقاذ وحلفائها الدوليين في مشروع تفكيك السودان؛ في هذا الإطار سوف نناقش كيف يمكن لقضايا الهامش أن تُباع من قبل أبناء الهامش ببدرةٍ رخيصة من المال. في هذا سوف نضرب مثلاً بجملة من منظمات المجتمع المدني التي برزت للشأن العام بوصفها تعمل من أجل دارفور عندما كانت قضية دارفور تستأثر بالاهتمام العالمي بموجب أجندة لا دخل لدارفور بها، ثم كيف تحولت منظمات المجتمع المدنية العاملة في الشأن الدارفور وغير الشأن الدارفوري (مثل مركز الخاتم عدلان وغيره) إلى مكاسب شخصية لعدد محدود ممن زينت لهم المنظمات الدولية الداعمة ورخّصت لهم أن يتحول مؤسسو المنظمات إلى موظفين سمان يتعيشون مما تدفعه لهم تلك المنظمات الدولية، وبهذا تحول العمل الطوعي بتخطيط تام من قبل قوى دوليةإلى مصيدة للأجيال التي برزت للعمل العام بوصفها مناوئة للإنقاذ فإذا بها تنتهي بتنفيذ أجندة دولية من ضمنها يعمل نظام الإنقاذ بوصفه مجرد تروس في ماكينة ضخمة؛ وما اتخاذنا للمنظمات العاملة في الشأن الدارفوري كمثل إلا لتوحشها في سعيها المحموم للاسترزاق بقضية أهلهم ولو كان ذلك على حساب قضية دارفور. فدارفور لم يتم بيعها في المزاد العالمي فحسب، بل تم بيعها أولاً في المزاد الوطني لمكاسب شخصية، ولا غرو فهذا زمن الإنقاذ! بدعم من منظمة المجتمعات المفتوحة Open Society تم تأسيس ما يعرف بمنظمة “الديموقراطية أولاً” للتحكم في الحراك المجتمعي في مرحلة ما بعد التجفيف التمويلي للعديد من القضايا وعلى رأسها قضية دارفور. قام الوليد بتنفيذ مخططات الأب بكل إخلاص، حيث تمخض عن ذلك ما يعرف بمبادرة المجتمع المدني التي قامت بإجهاض أضخم عمل لمنظمات المجتمع المدني العاملة في الشأن السوداني حيث ظلت تعمل بلا كلل ولعدة سنوات في سبيل تغيير دفة اتجاه الدول الأفريقية إزاء ما يجري في السودان وإزاء نظام الإنقاذ. وبالطبع، بتنسيق مع عناصر ما يعرف بنداء السودان، تم استضافة ما يعرف “بمبادرة المجتمع المدني” في تلك المفاوضات/ الضغوطات/ المحاورات/ … إلخ. حدث هذا دون أن يكون أيٌّ من الذين شاركوا بوصفهم ممثلين لمبادرة المجتمع المدني (وهم في أغلبهم لفيف من متمردي rebels الحزب الشيوعي الذين يسعون لمعالجة خيباتهم الفكرية والتنظيمية عبر اختطاف منظمات المجتمع المدني) أي صفة تمثيلية بخلاف الصفة الشخصية (أمين مكي مدني، بابكر محم الحسن .. إلخ القائمة). لقد قاموا بالتوقيع على نداء السودان هذه الصفة. ثم بعد عامٍ ونصف من ممارستهم تمثيلهم المغشوش لقوى المجتمع المدني السودانية وتحت ضغوط من باقي قوى المجتمع المدني الوطنية التي كانت تعمل في سبيل أن يكون لها مقعد تفاوضي فيما كان إمبيكي يحاوله (أو يلعبه)، قامت تلك المجموعة وبتمويل من “منظمة الديموقراطية أولاً” التي تقوم منظمة “المجتمعات المفتوحة” بتمويلها بسخاء، قامت بإجراء جمعيتها العمومية اتأسيسية بدار حزب الأمة بأمدرمان بتاريخ 15 فبراير 2016م حيث لم تجد ما تحشد به اجتماعها غير منظمات المجتمع المدني الدارفورية التي تم عن قصد تعطيشها مالياً للدرجة التي كادت خربت بها بيوت وتشردت أسر جرائها. جاءت هذه المنظمات والسُّعار، سُعار الماء السهل قد تمكن من لعابها حتى سال. جاءت هذه المنظمات في أغلبها من دارفور وبعضها من جبال النوبة ومناطق أخرى كثيرة لا يحدوها شيء خلاف فرص التمويل، ثم الاستفادة الشخصية، ثم السفر والسفر إلى عواصم وتقمص شخصية المسئولين ذوي الأهمية الدولية البالغة. ولكن الموضوع في حقيقته لا يعدو كونه سوقاً للنخاسة لم يسبق لها مثيل يعود فيها (في زمن الإنقاذ هذا) النخاس الشمالي النيلي، جالب الرقيق (الجلابي) إلى سوق قطيعه من العبيد المجلوبين من جبال النوبة ودارفور (محظوظ الجنوب لانفصاله إذ نجا من هذه النخاسة السياسية بينما وقع في سوء حظه باختيار الانفصال، فتأمل!).
هذا غيضٌ من فيض، وهو ما سنكتب فيه بإفاضة في مقبل الأيام، ولا خير فينا إن لم نقلها!
ولكن، ماذا عن مفاوضات/ضغوطات أديس أبابا؟
إنها في أفضل حالاتها إعادة إنتاج لاتفاقية نيفاشا برغم أنها لن تألو ذلك الشأو، فتأمل في خسراننا المبين؟ وفي الحقِّ، لو لم تكن أحزابُنا بهذا البؤس المريع لما تجرأ قادة الجبهة الإسلامية بتدبير انقلاب الإنقاذ. حتى عندما دبروه، لما استمروا لكل هذه الأعوام لو أن لنا أحزاباً سياسية راشدة وجديرة بالقيادة. هذا من جانب، ثم على هذا فقِس على منظمات المجتمع المدني التي لم تعْنِ لصفوتنا الخيبانة شيئاً بخلاف كونها “مرزقة” باستعمال ألفاظ المرحوم محمد إبراهيم نقد الذي كان يؤذيه بشدة المدخل الذي كان يتبناه بعض منسوبي الحزب الشيوعي في مجال منظمات المجتمع المدني بوصف ذلك “مرزقة” يندر أن يجود بها الزمان.
لا غرو في ذلك! كما لا يمكن أن نلوم متمردي الحزب الشيوعي أو منسوبيه في هذا. فهذا بالضبط ما فعله جميع منسوبي القوى السياسية (وغيرهم ممن يصنفون بأنهم غير سياسيين وجدوا في فرص اللجوء السياسي سانحة للتخلص من بؤس شعوبهم وبلادهم، ولكن ما دروا بأنهم سياسيون حتى النخاع لكن بفارق واحد أنهم أحط السياسيين وأدناهم درجة في الدنيا والآخرة) عندما استثمروا معاناة شعبهم عندما جثم على صدره حكم الإنقاذ باتخاذ ذلك تعلةً ووسيلةً لنيل جوازات الدول الغربية، دون الأفرقيقية أو غيرها، وبئس المبتغى!
عودٌ على بدء؛
ماذا يمكن أن يستفيد الشعب السوداني من مفاوضات أديس أبابا الجارية؟ لا شيء غير تكريس حكم الإنقاذ!