مٌلَفّات مِنْ مُجْتَمَعَات الْمَهْجَر (١-٢)
اندرو. ك. داو
مدخل :
“النظام الاجتماعي لا يقوم من الطبيعة إنه نتاج الاتفاقيات”
[جان جاك روسو]
الاسرة، كوحدة اجتماعية، اختلف عليها علماء الاجتماع و تباينتْ آرائهم حيال تحديد تعريف شامل يصطحبٌ كل المستجدات و التغييرات المجتمعية المستمرة، لكننا، لاغراض هذا المقال، سنكتفي بتعريف جون لوك و إيي دبليو بيرغس ( H. J. Locke & E. W. Burgess) لانها اقرب لواقعنا الاجتماعي، او قل، لواقعنا “المٌتَخيّل”؛ فالاسرة بحسب تعريفهما هي “جماعة من الأشخاص يرتبطون بروابط الزواج والدم أو التبنى ويعيشون معيشة واحدة ، ويتفاعلون كل مع الأخر فى حدود أدوار الزوج والزوجة ، الأم والأب ، الأخ و الأخت ، ويشكلون ثقافة مشتركة”.
و نحن، هنا، مهتمون بايرادِ تعريفٍ يتوافق مع واقعنا الاجتماعي المفترض، لاننا، و بناءآ على هذا التعريف، سنحاول الوصول الي مقاربة منطقية تمكننا من الحكم على بعض السلوكيات_ التي سنتطرق لها لاحقآ، في صلب هذا المقال_ في سياق المفاهيم الاجتماعية التي يتضمنها التعريف كقيمٍ عامةٍ تنظمُ الحياة الاجتماعية..
إثْنَيْنِيَّة الْوَاقِع و الْمُتَخَيَّل:
الاسرة هي المحطة الاولى في عملية التنشئة الاجتماعية إذ يتشكل في بوتقتها وعي الانسان الذي يبني عليها، لاحقآ، قيم و مفاهيم تنظم/تكيف احتكاكه بالبيئة الاجتماعية من حوله. في اطار جغرافيتنا الاجتماعية، هنالك إقرار او قٌلْ إدعاء_ شبه مٌتفق عليه_ بقدسية العلاقات الاسرية و اهميتها؛ بل نذهب في كثير من الاحايين الي المغالاةِ في اظهار ودية العلاقات الأسرية و وطادتها. لكن في باطنِ هذه العلاقات “الطيبة”، هنالك ثَمَّة ظواهر صادمة و مؤسفة، عملت مجمتعاتنا على ادراجها في دائرة “التصرف الفردي”، ربما لانها، اي مجتمعاتنا، لم تكن مستعدة لقبول فرضية ان تكون بينها اناسٌ بهذا القدر من الوحشية و اللانسانية، او ربما لانها لا تزال ترقص علي نغمات نفاقها الاجتماعي الذي يتعمد دومآ تقديم الجوانب الايجابية، مع التجاهل التام لنواقصه المخزية؛ او ربما الاثنين معآ.
بغض النظر عن الدوافع و المسببات، تظل وقائع الوضعية الماثلة، الآن، تشير الي وجود قدر كبير من الممارسات السالبة و المؤسفة، و التي ظللنا لفترة طويلة نحيلها الي عوالم النسيان كوسيلة للكبت والتهرب، او ربما لاستبعاد طبيعتها المؤلمة عن حيز الشعور؛ بل كنا، في بعض الاحايين، ندافع باستماتة، لتبرئة المجتمع _ و انفسنا ضمنيآ_ من المسئولية الاخلاقية بالتعليل لهذه الظواهر على انها سلوكٍ فردي يخص صاحبه، رغم انها في واقع الامر، قد تجاوزت، فعليآ، محيط السلوك الفردي و تحولتْ، نوعآ ما، الي نمطٍ اجتماعي “مقبول” او على الاقل، متواطئٍ معه..
البيدوفيليا (Pedophilia):
واحدة من كبريات القضايا المتغاضى عنها تعمدا_ ليس فقط في مجتمعات المهجر، بل و في دولتنا الام ايضآ_ هي ظاهرة اشتهاء الاطفال المعروفة علميا بالبيدوفيليا، و هي، بحسب موسوعة علم النفس، اضطراب نفسي يتميّز بانجذاب الشخص و ميوله الجنسي للأطفال_ من الرضع الي سن الثالث عشر_ من كلا الجنسين أو أحدهما؛ [١] و يُصنفٌ اصحاب هذه الميول لشقين:
١. النمط التراجُعي (regressed): هذا النوع من البيدوفيليا لا يٌظْهِرْ فيه “الشخص” انجذابه نحو الاطفال وصغار السن الا بعد عمر البلوغ ويميل للإناث اكثر من الذكور ، ويرتكب معظم جرائمه في محيطه الاسري، و غالبآ ما يلعب دور الضحية او يبرر افعاله على انها نتاج إهمال زوجته له جنسياً وعاطفياً.
٢. النمط الثابت (Fixated): ويبدأ بالشعور بالإنجذاب نحو صغار السن قبل بلوغه سن المراهقة، ويميل اكثر في الى صغار الذكور دون الاناث ، ويستمر هذا السلوك طوال العمر حتى بعد زواجه. [٢].
فيما يختص بمجتمعات المهجر، و بناءآ على الشواهد و القضايا التى وصلت للسلطات، اغلب الحالات المسجلة يمكن تصنيفها كجرائم النوع التراجعي من البيدوفيليا اذ أنّ اغلبها تدور داخل اطار الاسرة النووية و الممتدة لان هذه الانواع من الجرائم تتطلب التواجد باستمرار في محيط الاطفال.
عبر تحليلنا لوقائع هذ الاعتداءات، توصلنا الي ان هولاء “المجرمين” يسلكون مسارين للوصول الي ضحاياهم:
المسار الاول…استهداف الاسرة النووية:
في هذه الحالة، يقوم المجرم بالاعتداء على اطفالهم مباشرة او اطفال الاقرباء، و هنالك الكثير من الامثلة و الشواهد، هنا في مجتمع المهجر، لكننا، في اطار هذا المقال، سنتعامل مع عدد طفيف من هذه الجرائم كامثلة و سنحاول بقدر الامكان التحفظ على التفاصيل الصغيرة و تقديم الشواهد بشكل مبهم احترامآ لخصوصية الضحايا و صونآ لكرامتهم.
أ. رب اسرة، خمسيني، مقيم في احدي الدول الاسكندنافية، ظل يعتدي على ابنته الصغيرة الي ان تفاجأ المدينة باسرها بحمل الصغيرة. تم ادانته و قضي سنواتٍ في السجن.
ب. حقير آخر، مقيم في الولايات المتحدة، تبنى صغيرة في ربيعها الخامس، من ابنة عمته، واعدآ أياها و والدتها بحياةٍ افضل من جحيم السودان حينذاك، لكنه كان يضمر لها جحيمٍ اخر، فظل يعتدي عليها الي ان تفاجأ الناس بحملها و هي ابنة اثني عشرة عامآ.
ج. هنالك سيناريو اخر شائع وهو اعتداء الزوج، جنسيآ، على اخت زوجته القاصرة، و لقد رصدنا، في هذا الصدد، العديد من الحالات..
المسار الثاني… إستغلال التفكك الاسري..
في هذا المسار، المجرمون نجدهم اكثر ذكاءآ و حنكة، و يتمتعون بالصبر و التخطيط الممنهج، فغالبهم يغتنمون النسبة العالية للتفكك الاسري بين مجتمعات المهجر، و يقومون باستغلال الارتباك النفسي الذي يلي مرحلة الطلاق فيقوم “المجرم” بتقديم نفسه للام كبديل عاطفي متفهم و كعاشقٍ قادرٍ على سدِ الفجوة النفسية، و ربما المادية. كل هذا يتم بحذاقة و إتقان من اجل كسب ثقة الام و خلق روابط طبيعية و منطقية تجسر لهم الوصول لضحاياهم، الاطفال، و تبعدهم عن دائرة الشبهات. الجدير بالذكر، هنا، ان حالات هذه الاعتداءات هي الاكثر شيوعآ_ اخرها تم الكشف و القبض على الجاني في بداية هذا الشهر الجاري_ لكن غالبيتها لا تجد طريقها للسلطات المختصة لاسباب سنتطرق لها لاحقآ..
الْمُجْتَمَع…. بَيْن التَّوَاطُؤ و اللاَّمُبالاَة…
رغم تفشي هذه الظاهرة و فظاعة الجرائم الناجمة عنها الا ان المجتمعات، هنا، مازالت تدفن رؤوسها في الرمال. فهنالك فريق يستنكر بشدة و يرفض تقبل حقيقة ان البيدوفيليا، رغم فظاعته، اصبح واقع معاش، يتسكع البيوت و الشوارع ليختطف الضحايا، يوميآ، واحدة تلو الاخرى؛ و هنالك فريق آخر يتستر على هذه الجرائم بدوافع ساذجة كصون شرف العائلة او حماية سٌمعة الضحية، و يتناسون في غمرة اوهامهم هذه، ان حجم الشرخ النفسي للضحية سيتضاعف بتجاهل آلامها و بعدم مقاضاة الجاني!
هنالك ايضا فريق من الامهات، كالحالات التى اوردتها في المسار الثاني، او اخوات الضحايا كحالة الاسرة النووية ( المسار الاول)، يخترن التستر على ازواجهن/عشاقهن، بل و الصاق التهم بالضحايا مما يفاقم حجم الشرخ النفسي للضحايا و يدفع بهن الي الاستسلام لحياة الجريمة و للعيش في الحضيض.
بكل الاسف، المجتمعات، هنا، اختارت التماهي و التجاهل، بل التواطؤ مع هذه الظاهرة، و كيف لا و ثلاثة من هولاء الجناة احتضنتهم المجتمعات، بل جعلت منهم قياداتٍ لمنظمات المجتمع المدني!
يا ليتهم يتذكرون ان قسآ ثائرُ، في هذه البلاد التي يقطنونها الآن، قال ذات يومٍ، ان أسوأ الاماكن في الجحيم محجوزة لاولئك الذين يلزمون الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة…
اللهم اني بلغت فاشهد!
يتبع…
في المقال القادم، سنتطرق لملف آخر، ثم نحاول ربط هذه الظواهر بواقعنا الاجتماعي انطلاقآ من القيم العامة التي تنظم و تكيف سلوكياتنا..
_________________________________
إثْنَيْنِيَّة: إشتمال الشئ الواحد على حدَّين متقابلين، ربما متضادين، كتقابل الفكر والعمل ، وتقابل الخيال والحقيقة..