أندريا:دينق ألينق
خالد كودي فنان تشكيلي سوداني- أمريكي, وأستاذ الفن التشكيلي الأفريقي في كلية بوسطن بولاية ماساشوستس الأمريكية، وجامعة براون بمدينة بروفيدانس. عمل كودي ونشط في الآونة الأخيرة في إستخدام الفن كسلاح لبناء السلام والمجتمعات, وتحقيق التعايش السلمي في جنوب السودان وبعض مناطق السودان. وكذلك برع في إستخدام الفن لمقاومة الظلم الذي يقع على الأقليات, وذلك بمساعدتهم على تملك الأدوات للتعبير عن أنفسهم ومظالمهم.
وفي سبيل تحقيق الهدف المنشود للفن، بل وجعل الفن التشكيلي أن يكون مؤثر في المجال العام، سافر كودي إلي السودان, جنوب السودان, أوغندا, كينيا وأثيوبيا، وعمل في هذه البلدان مع النازحين, اللاجئين, طلاب المدارس وفنانين تشكيليين مبتدئين ومحترفين. وقد نجحت الورش التي أقامها في هذه البلدان في إتيان ثمارها بسرعة، لأن الفن بمختلف أنواعه يجد القبول والإعتراف من أبناء هذه المناطق, كما أن الإقبال كان كبيراً على البرامج والورش المقدمة.
يأتي البروف إلي جنوب السودان وأوغندا في هذا العام بمشروع آخر أوسع من الذي قدمه في العام الماضي, وذلك لأنه يتبع منهج معين يجعله يتقدم إلى الأمام رويداً رويداً. “أندريا” تحدثت مع بروف خالد كودي في الحوار التالي.
أندريا: بروف أسمح لنا بأن نعود بك إلى الوراء بعض الشيء؛ متى وأين بدأت تنشط في الفن التشكيلي وهل وجدت التشجيع آنذاك؟
كودي:أولاً، شكراً أندريا على إهتمامكم بالفنون البصرية ولإتاحة الفرصة للتواصل مع قراءكم. لعل بداياتي منذ الصغر كبدايات كل الناس في كل زمان ومكان، فالإنسان يولد ومعه الرغبة على الإكتشاف والخلق والإبتكار، والبيئة تنمي هذه الرغبات أو تكبتها. وكمعظم الذين إمتهنوا إحدى أفرع الفنون أو ما لديه علاقة بالفنون بصفة عامة كنت محظوظاً ووجدت منذ الصغر من يشجعني ويرعى موهبتي، ففي المحيطين الأسري والتعليمي وجدت تشجيعاً ودعماً.
العديد من أفراد أسرتي فنانين ومتذوقين للفنون بأنواعها المختلفة. فجدي لأبي الصول كودي كان موسيقاراً عظيماً، للأسف لم يجد التكريم الذي يستحق، فهو من أوائل من قرأوا وكتبوا النوتة الموسيقية في السودان. فقد كان قائد فرقة موسيقى بوليس النيل الأزرق والتي تحولت لإقليم الجزيرة، وأثر في أجيال من الموسيقيين منهم أستاذنا المنصوري والفنان محمد الأمين والفنان أبوعركي البخيت والموسيقار الفاتح حسين وغيرهم كثيرين.
خيلاني وخالاتي وأعمامي وعماتي منهم من تغنى ومنهم من كان ذو خطٍ جميل ومقتنياً للأعمال التشكيلية، ومنهم من تعامل مع الأقمشة بلمسات الفنانين، أو كان ذي أيدي سحرية في ترتيب الأماكن أو تنسيق النباتات.
أيضاً حظيت بالتشجيع والرعاية من الكثيرين من أساتذتي في المراحل التعليمية المختلفة، فلا يتسع المجال لذكرهم كلهم هنا ولكن منهم أستاذي الفاتح، ويعقوب شيخ الهادي وأبوغره، ثم أستاذ الأجيال بشير زمبه والراحل فريد خليفة وأساتذة أعزاء في كلية الفنون الجميلة في جامعة السودان ثم في كلية ماساشوستس للفنون حيث واصلت دراساتي العليا.
بصورة عامة، أعتقد أنني كنت محظوظاً حيث وجدت تشجيعاً ودعماً ورعاية من أسرتي وإستمر هذا الدعم والتشجيع والرعاية عبر مراحل دراستي المختلفة ومن بعد عبر عملي كفنان وأستاذ محترف.
أندريا: ما هي أشهر أعمالك؟
كودي:عبر السنوات أنجزت الكثير من الأعمال العزيزة على قلبي، أذكر منها “قرية النوبة التي أحرقت” وهو عمل بيئي أنجزته في مستعمرة للفنانين في ولاية نيويورك. العمل إستغرق ثلاثة أسابيع، في مساحة تعادل ميدانين لكرة القدم تقريباً.
هذا العمل عالج مفاهيم عدة، منها الثقافي ومنها الفلسفي والتقني والإداري. فالثقافي إستند علي العمل على ثقافة النفير والتخصيب بالنار، أي ما يعرف بزراعة الحريق. والفلسفي، ناقش قضايا الزمن، والتغيرات التي تطرأ على كل ما هو طبيعي عبر الزمن. والتقني إعتمد على آليات التنفيذ الفعلي بإستخدام أدوات بعينها لضمان النجاح، والإداري إعتمد على مراحل العمل من التخطيط وضمانات التصاديق المختلفة من عدة جهات لتنفيذ إجراءات السلامة ثم التوثيق الذي تم جوياً بطائرة خاصة.
والعمل هو قرية من قرى جبال النوبة بكل ما فيها لقرية من أناس وبيوت وأشجار وطيور ودواب. قمت بحرق هذه الأشكال على نجيلة الميادين لخلق مساحة سالبة من الرماد، والذي له ثقل معنوي عميق في ثقافة النوبة. المساحة التي حرقت تخصبت وما عداها الموجب ظل كما هو. بتقدم الزمن تحولت الأشكال التي حرقت والتي تخصبت إلى مساحة موجبة وتلك التي لم تحرق إلى مساحات سالبة. الأشكال التي حرقت نما فيها نباتات أكثر خضرة، وأقوي صحة: وهذا هو التخصيب بالنار. فإن كان واقعنا اليوم لا يخلو من الحروب والدمار يجب أن نتذكر ونذكر شعبنا دائماً، أنه من الرماد تأتي الحياة مرة أخري أكثر خضرة وأقوي صحة، وهذه هي الحياة.
عمل آخر أنجزته في العام 2014م في كاودا في جبال النوبة، كان ورشة مع عدد من المواطنين من أعمار مختلفة، شارك الجميع في إستخدام كل أنواع المواد المتاحة للتعبير عن الهوية والموقف الحياتي من العالم. وقد عالجت أعمال المشاركين موضوعات دورة الحياة والإصرار على مقاومة واقع التهميش والظلم. وعبر السنوات العديد من المؤسسات الأمريكية والأوروبية إقتنت أعمالاً عزيزة عليّ فأصبحت متاحة للناس.
أندريا: في السنين الثلاث الماضية توجهت للعمل في شرق أفريقيا وأقمت مشاريع فنية في دول مختلفة في هذه المنطقة, ما طبيعة الأعمال التي تقوم بها في المنطقة؟
كودي:منذ سنوات إتجهت إلي الإهتمام بإخراج الفن من الإستوديو إلى الناس في أماكنهم. ولأكثر من عشر سنوات تركزت أعمالي على مشاريع مصممة لمواقع بعينها أو ما يسمى ب “Site Specific Installations”.
هناك أيضاً ورش الفنون التي تكون المشاركة فيها متسعة ولا تقتصر على الفنانين، وفي هذا النوع من الأعمال يصبح الفنان والجمهور حالة واحدة، فلا يوجد فصل بين المتلقي أو المتذوق أو المتفاعل والفنان، إنما المتلقي والمتذوق والمتفاعل هو الفنان نفسه. البرامج التي أنجزتها في شرق أفريقيا تبنت هذه الرؤية والتي سأواصل فيها.
أندريا: أي منهج تستخدم في هذه الورش, وهل تؤتى ثمارها؟
كودي:كل الأعمال البصرية التي تثير إهتمامي وأتبني تقنياتها تعتمد على الشراكات. فهي في أحد أهم أوجهها تعتمد على التعاون وتبادل الخبرات التقنية والمعرفية والمفاهيمية بين أو مع عدد كبير من المشاركين.
ومن يشارك في تنفيذ مثل هذه الأعمال ليس من الضرورة أن يكون فناناً تشكيلياً متخصصاً وإنما أي شخص وبأي نوع من الخبرة يمكن أن يشارك في تخطيط وتنفيذ هذه الأعمال الفنية. إذ تعالج مفاهيم حياتية تمس واقع الناس وحياتهم، و ما تؤثر وتتأثر في الناس – كل الناس أياً كان نوعهم أو أعمارهم!
أندريا: ألم تواجهك أية صعوبات في سبيل تنفيذ الورش؟
كودي:هنالك دائماً الصعوبات، هنالك الصعوبات الموضوعية وغير الموضوعية. الكثير من الرسميين لا يولوا إهتماماً لما هو نفسي أو مهماً لروح المواطنين وصحتهم العقلية. الكثير من السياسيين والإداريين في أفريقيا يعتقدون أن قضايا الناس تنحصر فيما هو مادي ومباشر وآني فقط. فكثيراً ما تسمع أن الثقافة والفنون وحتى التعليم ليس من أولياتنا في هذا الوقت! وكثيراً ما يتم التعطيل لأسباب بيروقراطية.
أندريا: ما هي مشاريعك لهذا العام في شرق أفريقيا؟
كودي:هذا العام سأنجز مشروعين، أولهما في جنوب السودان وهو مشروع جديد ومتقدم في تقنياته وأفكاره، سيشارك في المشروع الكثير من المواطنين بمختلف فئاتهم، فالمشروع صمم لكي يكون تظاهرة فنون – فنية- وجماهيرية لأهلنا في مدن جنوب السودان المختلفة، يساهم في دعم روح الرغبة العامة والعارمة في السلام والإستقرار.
الورش ستتناول موضوعات الذاكرة والتسامح والقبول والإعتراف بالآخر عبر تصميم وتنفيذ أعلام قماشية تضم ترتيب للألوان وأشكال تعبر عن هذه القيم، وسنقوم برفع هذه الأعلام في مواقع مختلفة منها المدني ومنها الحكومي.
والمشروع الثاني متابعة لورشة كنت قد أقمتها في كمبالا العام السابق. المشاركين في هذه الورشة من السودان وجنوب السودان وأوغندا والصومال والكنغو.
أندريا: كيف سيكون مشروع الأعلام والملصقات ولماذا إخترت هذا ليكون شعار مشروع هذا العام؟
كودي:منذ سنوات وأنا أطور مقدراتي على إستخدام الفنون البصرية كأداة للتعبير عن الذات مما يساهم في العلاج الروحي والعاطفي والبدني. البرامج التي أصممها تستصحب مع العملية الإبداعية إحتمالات شفائية عقلية، وهو مجال يسمي “العلاج بالفنون”. فسيرورة العملية الإبداعية تتيح للمشاركين فرص للتفكير العميق على حل القضايا فردياً أو جماعياً، كذلك إنجاز أي عمل أو المشاركة في أي عمل يطور إدارة وسلوك المشاركين ويحسن من تقديرهم لذواتهم، وهو أمر هام بالنسبة لدي.
وكما أسلفت، جل المشاريع التي أصممها لا تحتاج إلى موهبة أو خبرة، تكفي الرغبة في الإنخراط في العملية الإنتاجية والتي هي إبداعية في المقام الأول. فالرسائل عبر لغة الفن البصري تساعد على المشورة بين المشاركين، تساعد على تضميد أي جراح وتؤهل أو تعيد تأهيل من مر بتجارب مؤلمة.
الأعلام أو (الأغطية) هي إحدى المشروعات الطموحة التي سأنفذها في جنوب السودان هذا العام بالشراكة مع جمعية الأمل وآخرون. يقوم المشروع على إنجاز أعلام يشارك في تصميمها وتنفيذها مواطنون من كل دروب الحياة. وقد صمم المشروع بإهتمام ليراعي التعدد النوعي، والإختلاف الإثني والديني والعمري.
المجموعات التي ستنجز الأعلام سيتكون أي منها من أفراد ليسوا متباينين في تاريخهم وخبراتهم وربما إثنياتهم وجهاتهم. عن طريق التداخل وحل المشكلات البصرية والتقنية التي يفرضها إنجاز أي عمل فني، كإختيار الألوان أو الأشكال وترتيبها في المساحة، سيعبر جميع المشاركين عن مشاعرهم ووجدانهم الداخلية.
أندريا: هل تجد الدعم الكافي لتنفيذ هذه المشاريع؟
كودي:نعم، عن طريق المؤسسات التعليمية. عادة أجد الدعم المناسب من مانحين خارج هذه المؤسسات حيث أعمل بإشتراط أن تساهم المؤسسات التي أعمل فيها بتغطية بعض تكاليف أيٍ من المشاريع وإدارة المشروع برمته. ثقل المؤسسات التعليمية يعطي فرص متميزة في توفير مصادر التمويل، كما يوفر وضع جيد للتركيز على إنجاز المشروع حيث توفر المؤسسات التعليمية إداريين ذوي خبرات طويلة في ضمان تنفيذ البرامج وإدارة المشاريع.
أندريا: ما هي مدة المشروع والنتائج المرجوة منه؟
كودي:يتفاوت السقف الزمني للمشاريع التي أقودها، ويحكم هذا طبيعة المشروع وزمانه ومكانه. عموماً، متوسط ورش الفنون التي أقودها وأنفذها مع فنانين مبتدئين أو متقدمي الخبرة تتراوح بين أسبوعين إلى ستة أسابيع. وأحياناً تكون دورة المشروع عاماً بكامله. مشروع هذا العام بالشراكة معجمعية الأمل في جنوب السودان من المتوقع أن يستمر العمل فيه لعام كامل. بدأت الورش الإعدادية والتدريب في الصيف (الخريف في السودان وجنوب السودان) في جوبا، وورش تجريبية أيضا في جوبا، ثم سافر عدد مختار من التشكيليين إلى كمبالا لتلقي تدريباً بالشراكة مع عدد من مؤسسات التعليم العليا ليعودوا إلى جنوب السودان ويقودوا ورش على مدار العام في ولايات ومدن جنوب السودان المختلفة.
هذا المشروع – بالإضافة إلى بناء قدرات الفنانين البصريين في جنوب السودان – يهدف إلى تقديم الفن للعامة، لإنتاج فن يشارك فيه الإنسان العادي ليتأثر به ويؤثر فيه.
أندريا: هل من مواضيع أخرى ستقوم بها أثناء تواجدك في المنطقة؟
كودي:من إهتماماتي إنتاج الأعمال التي تعتمد على وتعالج ثيمات لها علاقة البيئة أو ما يسمى بال ” Environmental Installation”. هذا من حيث المفاهيم والتقنيات والخامات. وهذا نمط من الفن ممارس في أفريقيا وجنوب السودان بصورة واسعة. مجموعتنا ستضيف إلى تقاليده بتقديم تقنيات ومفاهيم معاصرة. ونأمل أن ننجز برامج عديدة وكبيرة في المستقبل تعتمد على ما توفره لنا الطبيعة بشكل أساسي.