الحروب المشتعلة في الاقليم تفجرت على خلفية الصراع حول الموارد، لقد ادركت الشعوب والحكومات الشرق اوسطية مؤخراً حقيقة هذه النظرية (لو اردت ان تعيش في سلم عليك ان تكون مستعداً للحرب)، وبعض هذه الحكومات والانظمة السياسية حصلت على وفرة اقتصادية منظورة اهلتها لأن تقود حراكاً دبلوماسياً ومخابراتياً لتتخير لها مكاناً عليا بين بلدان الكوكب، وذلك بالتدخل في شئون الدول بادارة ملفات الخلافات الحدودية بين هذه البلدان الضعيفة اقتصاداً، والغنية مخزوناً ومورداً طبيعياً محتجزاً فوق وتحت اراضيها، وهنالك انظمة اخرى لها سبقها التاريخي في رعايتها للانظمة والشبكات الكبيرة الناشطة في مجالي التجسس والتخابر، قد استثمرت هذا الارث (الأمنجي) القديم في تغذية فتيل الازمات وبذر بذور النزاعات حول الاراضي والحدود، هذا رغماً عن أنف علاقات حسن الجوار والتداخل التلقائي بين شعوب هذه البلدان العربية والافريقية بعضها ببعض، ففي السوق العالمية للتوسعات الاستعمارية الطامعة والجشعة تكون كل الاراضي مستباحة، مالم يكون سكان هذه الاراضي مجتمعين على قلب امرأة واحدة، فدنيا اليوم تقودها الحروب الناعمة عبر الوكلاء الطيعين والمأزومين داخلياً والمنقسمين نفسياً على اساس التنوع الاثني والجهوي.
الحكومات السودانية المتعاقبة انشغلت بغير مصالحها وجادت بدماء شبابها دون مقابل، فدفعت ثمن هذا الكرم الفياض انتكاسات اقتصادية ومخازي سياسية متلاحقة، وخاض جيشها حرب سيناء من اجل مستقبل ورفاهية وأمن شعب الجار الشمالي، وذهبت هذه الجيوش الى العراق والكويت واليمن مدافعة عن الحمية العرقية والدوغمائية الدينية، فخسر السودان افضل العلاقات التي كانت قائمة بينه وبين الاسرة العالمية، وابتعد عن حاضنته الافريقية وانقطعت آصرته مع الاقطار العربية ذات الانظمة المعتدلة، ودخل في دوامة من المعارك الدنكشوتية التي لم يحصد منها سوى العزلة الدولية والحلول الدائم كضيف مشهور في القوائم السوداء، وعملت جميع الانظمة الحاكمة بعد الاستقلال على جعل الوطن حديقة خلفية للآخرين، وخدمت مؤسساته بضمير خالص ليكون هؤلاء الآخرون متمتعين بما يأتيهم من الثمار الطازجة لهذا البستان الخلفي، حتى بعد اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة لم تترك البلاد الدور المرسوم لها كخادم طائع للجار والغريب، حيث قامت حكومة الانتقال بفتح ابواب جديدة للجحيم بين السودان وجاره الشرقي، ومن ظن أن هذا الجار سيكون طيباً كما تلكم الطيبة التي جاءت على لسان رئيس وزرائه المهادن، يكون مثل هذا الظان قد حشر نفسه مع زمرة الساذجين.
الاثيوبيون والاكسوميون دهاة لا يركنون الى استفزازات (المحرش)، فهم يخوضون حرباً اخرى هادئة مع اكثر من محور من اجل تحقيق حلمهم النهضوي العظيم، وما كان لمنظومتنا المنتقلة ان تلعب هذا الدور التحرشي الذي يصب في مصلحة الجار الشمالي، ومن الحكمة ان لا تبتدر قيادتنا السياسية هذه البادرة الخطرة في التماهي مع طموحات الفرعون ضد مشروع الامبراطور ابرهة، وكان الاجدى لها ان تقف موقف المقوم والمصوب والحكم العدل المحايد، فما قام به الجيش السوداني بمثابة اصطياد في عكر المياه الاثيوبية ولا يعلم احد ماذا سيفعل الجيش الاثيوبي حال ان تعكرت مياهنا ذات الصفاء والنقاء، مثل هذه الحروب تاخذ شكلها الدائري وباستمرار وليس فيها غالب او مغلوب، ومن الاجدى ان تدار الحدود المختلف حولها بلجان عسكرية وامنية واجتماعية مشتركة، فهذه الشعوب الحدودية المشتركة جديرة بأن تعيش في وئام وسلام مستدام وتستحق أن لا يزج بها في اتون المضاربات والمساومات السياسية، وعلى منظومتنا الانتقالية ان ترجيء كل القرارات المصيرية الى حين استكمال تكوين البرلمان الثوري، فهو الجسم الشرعي الوحيد المسؤول عن الموافقة على اعلان الحرب.
السودان لابد وان يخلع ثوب (الود سيّد الشغال) ويرتدي عباءة السيادة الكاملة على ذاته، وأن لا يرضى بأن يكون (تمومة جرتق)، وهنا تتعرى الصورة الشائهة لمركب الهوية الناقصة لرجل الدولة السوداني سليل الثقافة الوافدة، ويدق ناقوس الخطر مجدداً للتنبيه على ضرورة معالجة اشكالية الهوية، فهي ازمة حقيقية وليست ترف فكري يتناول الناس خصيصته في المجالس وينفض سامره بانفضاض رواد هذه المجالس، فكما ظللنا نردد منذ زمان بعيد أن هذه الازمة تمثل جوهر تحدياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد اصبحت كمتلازمة داون التي اعيت من يداويها، فحروب الوكالة لا يشعلها الا من هو مهتز اهتزازاً عظيماً في دواخله ولا يدرك ماهيته ولا يعي من يكون، والا لما كانت صياغة الحس الوطني والشعور القومي لدى حكامنا موالياً للقاهرة وجدة والدوحة ولما فعل المستحيل لارضاء غرور هذه المراكز والمحاور، ولما فشل فشلاً حاداً في احتضان مكوناته الداخلية في الجنينة وكادقلي وكسلا، فلم تقم قيامة ديسمبر حتى يستمر هذا الخنوع والخضوع المهين.
اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com
25 ديسمبر 2020