في أحد ايام شهر مايو عام 1983 وبعد 16 عاما تقريبا من توليه رئاسة السودان كان جعفر النميري أمام قرار سيحدد مصير البلاد خلال العقود التالية وقد يتسائل البعض هل كان النميري يدرك هذا عند اتخاذ قراره؟
بغض النظر عن طبيعة، الإجابة اختار النميري العقيد في الجيش جون قرنق دي مبيور ليرسله على راس قوات عسكرية من الخرطوم لإخماد تمرد قام به نحو 500 جندي في جنوبي البلاد الذي تقطنه اغلبية مسيحية ووثنية لينضم قرنق المسيحي ابن قبيلة الدينكا اكبر قبائل الجنوب الى المتمردين ويؤسس “الحركة الشعبية لتحرير السودان”.
أعلن قرنق الحاصل على درجة الدكتوراة في الاقتصاد من الولايات المتحدة منذ البداية أنه لا يرغب في انفصال الجنوب لكنه يسعى لتحقيق مستوى معيشة أفضل لأبناء الجنوب وانهاء احتكار السلطة المركزية في الخرطوم.
الحرب الأهلية
بعد أسابيع قليلة، اندلعت الحرب الأهلية السودانية الثانية بين الجنوب والشمال لتستكمل ما يصفه الخبراء بأطول حرب أهلية في أفريقيا، فقد استمرت على مرحلتين بين عامي 1955 إلى 1972 ثم بين عامي 1983 حتى 2005 وقتل خلالها أكثر من مليوني شخص وشُرد الملايين.
كما وقعت جرائم حرب وقتل عرقي واغتصاب حسب تقرير بعثة الامم المتحدة لجنوب السودان الصادر في الثامن مايو/ أيار عام 2014.
وبمقتضى اتفاق السلام الذي تم إبرامه في يناير/كانون الثاني عام 2005 انتهت الحرب رسميا وأصبح قرنق نائبا أول للرئيس السوداني على ان يتم استفتاء أبناء الجنوب على الانفصال عن الشمال في وقت لاحق.
بذلك غدا قرنق أحد أكثر الشخصيات المتمردة تعقيدا في قارة مكتظة بجميع أنواع التمرد والثورة والصراع المسلح على اسس عرقية أو قبلية.
كان قرنق ضخم البنية كعادة أقرانه من قبائل الدينكا التي يعد ابناؤها أغلبية السكان في الجنوب ودخل في صراع مكتوم مع نائبه أنذاك سالفا كير ميارديت وحاول التخلص منه، لكن الامور توترت وكادت تنقسم الحركة الشعبية وقبيلة الدينكا نفسها التي ينتمي إليها الرجلان في عام 2004.
بذور الصراع
وكان السبب الرئيسي للخلاف بين الرجلين هو اتهام كير لقرنق بأنه يتخذ القرارات بشكل منفرد بينما اتهم قرنق نائبه وقائد القوات المسلحة سالفا كير بالتخطيط للانقلاب عليه، لكن بالنسبة لأبناء الجنوب كان الاختلاف بين الرجلين ينصب في نقطة واحدة فقط وهي أن قرنق يؤيد استمرار الوحدة مع الشمال مع توسيع صلاحيات الادارة المحلية بينما يدفع سالفا كير إلى الانفصال بشكل تام عن الخرطوم.
كانت هذه بذرة الصراع الاولى داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان وتزامنت مع صراعات أخرى بين قيادات القبيلتين الأخريين في الجنوب حيث تصارع باغان اموم مع لام اكول في زعامة قبيلة الشلك بينما كان رياك مشار أبرز قيادات قبائل النوير متنقلا بخفة بين معسكر الخرطوم والحركة الشعبية بزعامة قرنق.
ولا يخفى أن بذرة الخلاف الاولى داخل الحركة تزامنت مع تولي قياداتها مناصب في السلطة سواء بالاتفاق مع حكومة الخرطوم مثل رياك مشار وقرنق أو بحكم السيطرة الفعلية على الأرض.
انتهى الصراع داخل قبيلة الدينكا بمقتل قرنق في حادث تحطم مروحيته بعد اصطدامها بأحد الجبال خلال عودته من أوغندا وذلك في الثلاثين من يونيو/ حزيران عام 2005 وبعد نحو 6 أشهر فقط من توقيع اتفاق السلام مع الخرطوم في مدينة نيفاشا الكينية، وهو ما أدى لصعود سالفا كير لقيادة الحركة وجنوب السودان وأصبح رئيسا للوزراء ومشار نائبا له في اطار اتفاق تقاسم للسلطة بين الدينكا والنوير.
الانفصال
وفي سياق هذه التطورات أصبح من الواضح ان الجنوب يسير نحو الانفصال عن الشمال، ولم يكن متوقعا ان يظهر الاستفتاء غير ذلك لكن تزايد التوتر المكتوم بين الخرطوم وجوبا والتأهب لاستئناف الحرب الاهلية في اي وقت.
عام 2009 اختطف القراصنة الصوماليون سفينة الشحن الاوكرانية فاينة والتي كانت محملة باسلحة روسية ثقيلة بينها عشرات الدبابات وقاذفات قنابل وكانت متجهة الى كينيا، واتهم البعض كينيا بتمرير الأسلحة للحركة الشعبية لتحرير السودان واتهمت الحركة نفسها بالسعي للتسلح دون الاتفاق مع حكومة الخرطوم وهو ما لم تعلق عليه الحركة حينها.
الامر الواضح الأن ان هناك ألاف القطع من الاسلحة الثقيلة في جنوب السودان منها مروحيات ودبابات يستخدمها الجيش سواء الفصائل الموالية للرئيس سالفا كير أو تلك الموالية لنائبه الاول رياك مشار.
العام 2011 شهد ولادة احدث دولة في العالم وهي جمهورية جنوب السودان لتدشن ولادة الكيان الذي قال جميع قادة الحركة الشعبية إنهم كانوا يسعون إليه بهدف معلن وهو تحسين الاوضاع المعيشية لأبناء الجنوب وانهاء احتكار الموارد الذي كانت تمارسه الحكومة المركزية في الخرطوم.
الحرب الاهلية في الجنوب
بعد عامين فقط اندلعت حرب اهلية جديدة وهذه المرة بين ابناء الجنوب انفسهم الذين تحزبوا في معسكرات متفرقة ففريق وقف خلف سالفا كير رئيس الجمهورية واغلبهم من الدينكا وفريق آخر وقف خلف نائب الرئيس رياك مشار واغلبهم من النوير.
وأعلن سالفا كير خلع نائبه مشار واتهمه بالتخطيط للانقلاب عليه وهو نفس الاتهام الذي وجهه قرنق لسالفا كير قبل ذلك بنحو عشر سنوات.
ووسط انتقادات لممارسات السياسيين في جنوب السودان استمرت المعارك واصبحت حربا اهلية بين الطرفين.
اضطر مشار للخروج بقواته من جوبا وبدأ حربا اهلية لمواجهة ما وصفه محاولات تهميش النوير وابعادهم عن السلطة.
ودارت الحرب لعامين كاملين حتى نجحت الوساطات الدولية والإنذارات الغربية في وقفها باتفاق سلام بين الجانبين قضى بعودة مشار لمهام منصبه السابق كنائب اول للرئيس.
وخلال الحرب الاهلية اتهمت المنظمات الدولية كلا الطرفين بارتكاب جرائم حرب في حق المدنيين حيث لقي عشرات الألاف من المواطنين مصرعهم وشرد مئات الآلاف بينما الحكومة تعلق الاحتفال بذكرى الاستقلال بسبب الازمة الاقتصادية الطاحنة.
وهكذ أصبح “حلفاء النضال” ضد الخرطوم بهدف معيشة أفضل لأبناء الجنوب فرقاء واعداء ومتحاربين ومتصارعين بينما أ بناء الجنوب يعانون من أزمات غذائية واقتصادية حادة.
وتشير تقارير دولية إلى أن جنوب السودان تعد أسوأ بلدان العالم من حيث معايير الصحة حسب منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم لمتحدة إذ يبلغ متوسط عمر السكان 42 عاما فقط.
بي بي سي