ألملاحظ في الشخصية السودانية أنها مكتظة بالتناقضات الغريبة والمثيرة لدهشة كل من يحتك بها،
هذه الملاحظات لا يستوعبها الذين لم يغادروا أرض الوطن لأن عقليتهم لم تخضع لمعيار النظرية النسبية التي ابسط تمظهراتها القياس والمقاربة والمقارنة والمعايرة، لكن الذين خرجوا و أخرجوا من البلاد ترغيباً و ترهيباً اكتشفوا خبايا انفسهم بعدما تلاقحوا وتداخلوا مع غيرهم
من الشعوب والمجتمعات، فمنهم من استفاد من التجربة الصادمة و واجه نفسه بها وصارحها بإدارة حوار عميق و صريح وشفاف، أدى في الآخر إلى انتاج مولود جديد بملامح و مشاعر و مفاهيم جديدة يمثل شخصيته المبرأة من الشوائب، ومنهم من كابر.
يرجع كثير من الباحثين هذا الأمر إلى التربية الصوفية و بذرها لبذور الطيبة والسماحة و التسامح
المفرط، الذي خلق من السوداني ابن لآدم الطيني الذي يصارع ليرقى إلى مقام ومراتب المخلوقات النورانية، وبين هذه المسافات الطويلة الفاصلة ما بين قمة الروح و قاعدة المادة الطينية السفلية، تتوه الشخصية السودانية في متاهات العدم والتلاشي واللاشيء، برغم امتلاكها للكنزين
الكبيرين (الروحي و المادي)، هذا الضياع تراه متجسداً في جميع شرائح هذه الشخصية السودانية السياسية والاجتماعية و الاقتصادية.
في الجانب السياسي تجد الرئيس الأسبق جعفر نميري قد اعتمد على الشيوعيين في الوصول إلى الكرسي،
ثم انتقم منهم جميعاً بجريرة حفنة حاولت الانقلاب عليه فقطع رأس ودابر كل ماركسي، والبشير الذي أتى به تنظيم الجبهة الاسلامية القومية إلى الحكم، انقلب على الحزب الذي أوصله لسدة الرئاسة و رمى بشيخ وعرّاب التنظيم في السجن معتمداً على الأرزقية و المنتفعين والانتهازيين
من ذات التنظيم، علي عثمان ونافع وعوض الجاز وأمين حسن عمر وحسبو عبد الرحمن، وعلي محمود وأحمد هرون ومحمد يوسف كبر وفيصل حسن ابراهيم ، بل توج رئيس الوزراء الشرعي الذي أطاح انقلاب الجبهة الاسلامية بحكومته أباً روحياً لمرحلته الجديدة، لكي يقدم خدماته الجليلة للبلاط
السلطاني من وراء حجاب وخلف ستار النفاق و الشقاق.
حكومة الثورة التي اقتلعت البشير أتت بمرشح البشير لحقيبة المالية رئيساً للوزراء، و هو بدوره
جاء بسفير الانقاذ السابق في لأمم المتحدة مديراً لمكتبه أي (وزيراً لشئون الرئاسة)، و المسكين ذو النون يضرب ضرب غرائب الإبل ويستنطق تحت التعذيب بأن يلفظ بكلمة الكفر (أنا كوز)، والكوز الأشهر والأكبر الذي لعب دوراً في التغيير يطرد كالكلب الأجرب، ولا يسمح له بلقاء
السادات العظماء الذين مهد لهم هو الطريق إلى المجد والسؤدد في جنح الظلام، وأحد الذين صاغوا دستور المرحلة الانتقالية وثقت له الكاميرا صورة وهو يهتف (هي لله هي لله), تقرباً إلى جوقة البشير في زمانه وعهده الذي ولى ومضى إلى غير عودة.
من تناقضات الشخصية السودانية أنها تحتفي بجون قرنق وتضع ملصقاته على حوائط أسوار كل البيوت
والمنازل، وعلى جدر كل الصوالين السودانية, لكنها لا تقبل حديثه حول فصل الدين عن الدولة و تسخر منابر الجمعة لإثارة كراهية الناس، ضد هذا الكافر (حسب زعمهم) الذي يريد أن يضلل الناس عن طريق الحق، و الأدهى وأمر أن ذلك الشيخ الفقيه الكبير في عهد الطاغية الذي كان
يتحدث عبر خطبه الكثيرة عن وجوب عدم موالاة المسلم لغير المسلم، وفي الآخر وعندما اشتد به المرض لم يثق بمستشفيات بلاد المسلمين فهرول خائفاً من الموت إلى بلاد العم سام.
بين ليلة و ضحاها أنكر الناس صلاتهم وعلاقاتهم الأسرية والاقتصادية مع النظام البائد علناً،
لكن سراً يتواصلون و يتلاومون ويحتارون في كيفية حبك واخراج سيناريو شبيه بمسرحية العميد الرئيس والشيخ الحبيس، لقد نعى الكثيرون من اليساريين المرحوم الدكتور الطيب زين العابدين (الكوز)، لكن عليك أن لا تتجرأ وتذكر مناقب الدكتور الشهيد خليل ابراهيم أو تضحيات المهندس
داؤود يحي بولاد، فهنالك حفنة من الناس لهم كامل الحق في التنقل بين أحزاب اليسار وتنظيمات اليمين كيفما شاؤوا، أمثال المرحوم غازي سليمان وعبد الباسط سبدرات وأمين حسن عمر وسيد الخطيب والمرحوم يس عمر الامام، لكن حرام على مسار أو نهار أن يخرجا عن حزب الأمة.
لمن يريد أن يعرف السبب الجوهري وارء عدم تحقيق العدالة والقصاص لأجل أسر الشهداء والمفقودين،
عليه مراجعة أقوال زعيم القوة السريعة الداعمة التي أعقبت تلك الأحداث المؤسفة، و بالتحديد ترداده لعبارة واحدة طوال الوقت: (إنتو ما بتعرفوا صليحكم من عدوكم)، فبرغم صراخ الصارخين إلا أننا استشعرنا حالة موات مشاعر المطالبين بالقصاص لدماء شهداء باب الجيش، فهل استجدت
على الساحة أمور أخرى خطيرة بعد مرور عام على المجزرة الشنيعة؟ التي يجب أن يحاكم فيها كل من أدين مهما علا شأنه.
إسماعيل عبد الله