عبارة تقرير المصير يبدو أنها عبارة لها علاقة وثيقة بتشكيل تاريخ السودان السياسي الحديث. فقد كانت عملية تقرير المصير الأولى – والتي لم تتم عمليا- هي تقرير مصير السودان ككل في خيار الوحدة مع مصر او تكوين دولة مستقلة. ومن المثير للاهتمام أن أحمد خير في كتابه المشهور (كفاح جيل) قد عبر عن رفضه لاستقلال السودان عن مصر وناصر الاتحاد معها تخت مبرر أن انفصال السودان عن مصر قد يؤدي إلى انفصال أجزاء أخرى من السودان نفسه أولها الجنوب بالطبع. لذلك فإن إحدى تبريرات الاتحاديين مع مصر كانت رفض فكرة الإنفصال بشكل منهجي على اعتبار أن الدولة السودانية معرضة للتفتت اصلا نسبة لمطالب الجنوبيين المبكرة بشكل من الحكم الذاتي أو المستقل. لكن خلفية الاتحاد مع مصر كان لها جذور أعمق على المستوى السياسي بالنسبة للعروبيين في المركز، الذين كانوا يريدون تأكيد ارتباط السودان بالمركز العربي أكثر من علاقته بجذوره وجغرافيته واثنوغرافيته الأفريقية.
تاريخيا وعمليا لم تتم عملية تقرير مصير مباشرة في السودان، فقد كان من المفترض أن تتم تلك العملية عبر شكل ما من الاستفتاء الشعبي على خيار الوحدة مع مصر او لا، لكن ما حدث فعليا، أن الأحزاب السياسية وقتها خاصة حزب الأمة تمكن من نقل العملية إلى البرلمان وتمت عملية تصويت قررت مصير السودان في الاستقلال ومن ثم بدأت عملية السودنة قبل الاستقلال بأقل من 3 سنوات. إذن تم تقرير مصير السودان كدولة مستقلة عن مصر دون استشارة مباشرة للشعب السوداني. أما في عملية تقرير المصير الثانية، والتى تمت في 2011 وفصلت عمليا ثلث السودان، فإن الإنفصال تم باستفتاء شعبي للجنوبيين فقط، ولكن الشماليين لم يتم أخذ رأيهم ابدا في ما إذا كانوا يرغبون في أن يظل الجنوب جزء من وطنهم.
الان مع تبني الحركة الشعبية لتحرير السودان خيار تقرير المصير في جبال النوبة، يتوارد سؤال الإنفصال والوحدة مرة أخرى. تاريخيا فإن تجارب السودان مع تقرير المصير أدت إلى عمليات انفصال بشكل حاد وحاسم، أدى لتغيير خارطة البلاد الجغرافية والديموغرافية والسياسية. لذلك أصبحت عبارة تقرير المصير في الوعي السياسي السوداني مساوية للانفصال، لأن الوحدة لم تكن على الأقل هي نتيجة عمليات تقرير المصير التي مر بها السودان. لذلك فان التساؤل الذي يطرح في ظل هذه التجارب هل تقرير المصير هو الذي ادي إلى الإنفصال ام انه فقط قام بتقرير ذلك الإنفصال، اي تحويله إلى قرار سياسي معلن ومقبول دوليا ومحليا؟
إذا عدنا إلى تقرير المصير الأول، المتعلق بالاتحاد مع مصر، فإن السودان رغم تاريخ الحكم التركي لم يكن متحدا مع مصر، بل كان محتلا من قبلها. لذلك تلك الوحدة التي كانت موجودة لم تكن خيارا كم انها ليست نتاج أواصر العلاقات التاريخية الاجتماعية والسياسية التي تجعل من منطقة ما ومجموعة سكانية جزءا من وطن موحد. فعلى مدى تاريخ السودان ومصر منذ الفراعنة، كانت هناك حضارتين، وشعبين وثقافتين جنوب الوادي وشماله. واثار التاريخ في اختلافات إهرامات مصر والسودان أكبر دليل على ذلك. رغم الاشتراك في بعض السمات لكن ظل السودان يحمل طابعه المنفصل والمستقبل عن مصر. لذلك فإن عملية الاتحاد السياسي المصطنع المبنى على مصالح النخب السياسية في البلدين تعارضت مع الواقع وادي بالأمر إلى أن تنتصر الحقائق على أوهام الاتحاد السياسي المصلحي. فحتى النخب التي دعت إلى الاتحاد مع مصر انتهت إلى اختيار الاستقلال وبررت مواقفها السابقة بأنها كانت تكتيك للتخلص من المستعمر.
اما تقرير المصير الثاني فقد كان عمليا هو عملية تقنين للانفصال الواقعي بين الشمال والجنوب. فقد كانت نسبة 99 في المائة هي استفتاء ليس على انفصال الجنوب من الشمال بل على استحالة الوحدة والتعايش بين الشعبين. حيث أن الإنفصال كان قائما بالفعل بين الجنوبيين والشماليبن منذ الاستقلال وما قبله وبعده. تاريخ الرق المزري والنهب المنظم للموارد ثم عنف الحرب الأهلية والتي واجهها الشمال بانفصال تام عن مواجع والأم الجنوبيين من الانتهاكات الجسيمة التي وصفت بالابادة وبأنها أبشع حروب أفريقيا وأطول حروب القارة أدت لمقتل 2 مليون وتشريد 5 مليون إنسان. لكن لم يكن هناك للجنوبيين من الشمال سوى التمييز داخل العاصمة وفي الشمال والقتل في أرضهم في الجنوب. لذلك فإن تقرير المصير لم يقوم سوى بتقديم الاطار الدستوري والقانوني لحالة الإنفصال الوجداني الموجودة بالفعل. وانعدام اي ردود فعل على الانفصال نفسه داخل الشمال سوى بعض عبارات الأسى والحسرة على ما ضاع موارد استفرد بها الجنوب بعد الإنفصال، كان أكبر دليل على ذلك الإنفصال الوجداني. حيث نشهد الان في مدريد باسبانيا مظاهرات مستمرة ضد تقرير مصير كاتلونيا الذي أقر الإنفصال. لكن في الخرطوم لم يخرج احد احتجاجا على الانفصال ولا حتى وداعا لجيران الأمس سوى بصورة فردية.
ان تجربتي تقرير المصير التاريخيتن في السودان يثبتان أن السوال الحقيقي ليس حول جدوى الإنفصال بل هو حول جدوى بل وإمكانية الوحدة في وطن منفصل ومنقسم اثنيا ودينيا وسياسيا ووجدانيا بالفعل. وما فشلت في تقديمه كافة القوى السياسية في السودان شمالا وجنوبا شرقا وغربا يسارا ويمينا، هو مبررات الوحدة ومقوماتها في وطن منقسم عمليا. فجبال النوبة الان تمر بحرب أهلية منذ 6 سنوات لم يشعر خلالها أهل تلك المنطقة بأنهم جزء من السودان كوطن. فرغم القتل والإبادة الا ان الصمت هو سيد الموقف من بقية السودان ما عدي بقية أقاليم النزاع والتي لها نفس الشعور بالانقسام. وبنظرة مقتضبة فإن حركات المقاومة في كل مناطق الصراع في السودان ما هي إلا صرخة لكي تقول لبقية السودان نحن هنا ونحن جزء من هذا الوطن لكننا نشعر بأننا لا نعامل كمواطنين بل لا نشعر بوجودنا اصلا ونحن نتعرض لإبادة يومية .
لذلك فإن النقاش الحقيقي الذي يجب أن يديره كل مهتم بمصير كل أجزاء السودان، هو النقاش حول كيفية توحيد هذا السودان المنقسم ووجدانيا واجتماعيا واقتصاديا. هل من الممكن أن توجد خطة واستراتيجية واضحة وعملية وليس فقط مجرد رؤية فكرية أو أيدلوجية، قادرة على قيادة السودان المنقسم نحو الوحدة بدلا عن الإنفصال. ولذلك فإن النظرة العقلانية لفكرة وعملية تقرير المصير، يجب أن ينظر لها من جوانب متعاكسة. حيث أن السؤال الحقيقي الان ليس كيف ولماذا ينفصل أو ينقسم السودان، لأن السودان هو منقسم ومنفصل بالفعل ولكن بشكل غير معلن رسميا، ولكن السؤال المطروح على جميع السودانيين هو ما إذا كانت الوحدة ممكنة ومجدية.؟ هل تستحق التنازلات والتضحيات من كل الأطراف.؟ هذا هو تقرير مصير كل السودان الذي يجب أن يحاول كل السودانيين الإجابة عليه. حيث أن وصم فكرة تقرير المصير بأنها خيانة لفكرة الوطن أو حلم الوطن الموحد ليست فكرة واقعية ، بل أن ما طرح الان من نقاش حول تقرير المصير لجبال النوبة يجب أن يعتبر فرصة حقيقية لحوار مفتوح حول مصير كل السودان، وطرح السؤال الجوهري حول إمكانية الوصول إلى استراتيجية واقعية تجعل السودان الموحد أمرا ممكنا بل وخيارا حقيقيا، واعين لحقيقة أن واقع السودان الان هو انه دولة منقسمة على ذاتها لكن دون أن يتم أعتراف رسمي بهذا الانقسام.
عثمان نواي
[email protected]