عادل إسماعيل
كتب الأستاذ عبد العزيز سام مقالا حمل عنوان “مشكلة السودان فى شخص الرئيس قبل حكوماته” ، نشرتهصحيفة سودانيز أونلاين الإلكترونية ، قبل عدة أسابيع ،يقول فيه: “و هنا لا تنفع مقترحات الحلول الحماسية التى تضع فى الاعتبار مصلحة البلاد و العباد فقط ، دون مراعاة مصالح الكيزان الذين أتوا بهذا الرئيس ليستخدموه فى الوصول إلى السلطة والثروة ، لكنه انقلب عليهم واستخدمهم هم فى البقاء فى السلطة ثلاثة عقود” . و هذه الجملة بين الأقواس هي خلاصة مقاله ، رغما عن أنها جاءت في بواكير مقاله .
و الأستاذ عبد العزيز سام كاتب مهموم بقضايا التغيير ، كما إنه تدفعه محاولاته الكثيرة و المحمودة لمراجعة قراءة مواطن الأزمات و الفواجع في سودان اليوم المتغيرة شكلا و الثابتة محتوى منذ الاستقلال في عام 1956 . و قدم في مقاله ، موضع التعقيب ، تحليلا مألوفا و لكنه صحيح تماما من أن قوى التغيير منقسمة و ضعيفة ، و متحالفة مع قوى سياسية تستميت لتديم الخلل في توزيع الثروة و السلطة ، و ذلك لأنها من إنتاجه و هو من إنتاجها ، و أن قوى التغيير المسلح منها و غير المسلح فقدت كوادرها و زخمها في مساومات بائسة مع النظام الحاكم في الخرطوم ، و أن المجتمع الدولي فقد حماسه لدعم قوى التغيير و أصبح واقعيا في التعامل مع حكومة الخرطوم ، و لم يخف الكاتب حيرته من معيقات الثورة على النظام الحاكم في السودان ، و كل ذلك دفعه لاقتراحه المذكور أعلاه من وجوب مراعاة مصالح الإسلاميين ( الكيزان ، حسب ما أطلق عليهم ) .
قلنا إن تحليله مألوف و صحيح ، و لعل هذا ما جعله يفترع مقاله بعبارة “كلنا يعلم” ، و هو يشير بالطبع إلى السودانيين . و في حقيقة الأمر ، أصبحت “كلنا” هذه ، تشمل أيضا كل غير السودانيين الذين يطلعون على الشأن السوداني ، المدعوين منهم و الحشريين منهم . فلم تعد أزمة الحكم في السودان من الألغاز المبهمة . فحتى الآلية الأفريقية ، رفيعة المستوى ، التي طلب منها التدخل لحل النزاع في إقليم دارفور ، أيام عزها ، أعلنت أن النزاع ليس عبارة عن أزمة دارفور في السودان إنما هو أزمة السودان في دارفور . أي إن الأزمة إنما هي تجلى غياب المشروع الوطني الذي يعبر عن السودانيين من حيث هم سودانيون .و في واقع الأمر ، كان ذلك واضحا لبعض عتاة المثقفين منذ سنوات الاستقلال الأولى ، على الأقل ، من حيث التنظير . على سبيل المثال ، حينما كانت السلطات في الخرطوم تتحدث عن مشكة الجنوب ، كان الاستاذ محمود محمد طه يقول إن للشمال أيضا مشكلة و هي غياب فلسفة للحكم . .و لكن القوى التي حققت الاستقلال ، أو ما درجنا على تسمتهم “الآباء المؤسسون” ، لم يكونوا يتمتعون بالوعي الضروري الذي يعينهم على وضع السودان على منصة الإنطلاق الصحيحة لجهة وضع معالجات اختلالات النشأة ، و الذي يعني استمرارها قيام دولة شليلة كسيحة هشة بل تافهة في أرض السودان . على أي حال ، كانت تلك قدرتهم و طاقتهم و مستواهم . و سارت الحكومات المتعاقبة تبني على تلك الاختلالات فأنتجت وطنا مهيض الجناح لا يقوى على الحركة و سيظل هكذا ما لم تعالج هذه الاختلالات التي جسدها سوء توزيع الثروة و السلطة على المتصل السياسي و الاجتماعي ، فأنتجت عقلا سياسيا سائدا عموما و حاكما خصوصا ، فاسدا و مشوها يتمحور حول السلطة السياسية و تتمفصل هي عنه . و هذا العقل الفاسد و المشوه هو الذي أحدث النتوءات الحادة على المتصل السياسي و الاجتماعي ، و ما الحروب الأهلية التي يعشيها السودان ، منذ ميلاده الحديث ، إلا التتعبير البليغ عن هذا التشوه .
جرت محاولات جرئية لوضع الدولة السودانية في طريق الانطلاق الصحيح ، تتفاوت في نسبة صحتها ، كان أبرزها و أجودها أثرا فكرة السودان الجديد التي أبتدعها و طورها الراحل الكبير الدكتور جون قرنق ، الذي رحل قبل انطلاقها .و كانت تلك الفكرة تقوم ، بشكل رئيسي ، يكاد يكون وحيدا ، على معالجة الاختلالات التي رافقت ميلاد الدولة السودانية .و لكن القوى السياسية لم تدرك أهمية جوهر اتفاقية نيفاشا، عام 2005 ، التي قامت على أسس فكرة السودان الجديد لمعالجة هذه الاختلالات المعيقة لانطلاق الدولة السودانية .فبدلا عن الانغماس فيما ترمي إليه الاتفاقية و جعله فاعلا ، ركزت أنظارها على كون الاتفاقية لم تشملهم بالتشاور حولها ، و اعتقدوا بأنها لا تلزم سوى من وقع عليها فحسب ،و راحوا ينتقدون شكلها دون محتواها !
لم يشهد السودان ، في تاريخه الحديث ، أن حوصر العقل السائد عموما ، و الحاكم خصوصا ، إلى الزاوية التي تمهد لمصرع سخافاته و إلى الأبد ، كما فعلت اتفاقية نيفاشا ، بزخمها المحلي و الإقليمي و الدولي . و في حقيقة الأمر ، دفع تقاعس القوى السياسية السودانية عن الانخراط في تنفيذ الاتفاقية ، المجتمع الدولي لفقدان حماسه للإبقاء على العقل السائد عموما و الحاكم خصوصا ، محاصرا . فمهما بلغ حرص المجتمع الدولي على مساعدة الدول ذات الوضع الحرج لتقف على رجليها ، فإنه لن يقوم بواجباتك بالنيابة عنك ! و لعل هذا ما دفع المجتمع الدولي لتقليص دعمه و اهتمامه لتغيير النظام السياسي الحالي في السودان . و سبق أن علقنا على هذا الأمر ، بشئ من التفصيل ، حين مرت صحيفة “حريات” الإلكترونية بأزمة تمويل أدت إلى إيقافها ، حيث قلنا يومها:
” أحب ، في هذا السياق ، أن أشير إلى أن الجهات الدولية المانحة تعلمت من تجربتها في دعم حركات التغيير ، أن التغيير لا يتم إلا بعمل يلامس تحريك الجماهير و تلقيح وعيها على أرض الواقع ، و أن تكون هذه الجماهير شريكة في صناعة هذا التحريك و هذا الوعي . و ذلك لأسباب عديدة يضيق المجال هنا لذكرها . ولعل هذا ما يصب في اتجاه افتراع وإنجاز عملية التغيير عبر الانتخابات على المدى الطويل باعتبارها الطريقة الوحيدة التي تحرك الجماهير و تلقح وعيها ، كما تتلقح هي بمشاعر و أفكار الجماهير بما يضمن استمرار مشروع التغيير لأنه ، ببساطة ، يكون تجسيدا لأنفاسها و ترجمة لأفكارها ، فلن تكون بعده مضطرة للتنفس و التفكير خارجه لأنها هو ، كما إنه هي .
في ما يلي السودان و حركة التغيير فيه ، فقد دعمت مؤسسات المجتمع الدولي ومرا كز بحوثة المعارضة السودانية ، لأنها في واقع الأمر تطرح فكرة الديموقراطية والتعايش و التداول السلمي للسلطة بديلا لدولة الحزب الواحد التي أحبت أن تفوق العلم أجمع بتهميش و إفناء الآخرين المختلفين . و في حقيقة الأمر ، ما تزال أحزاب المعارضة السودانية ، بكامل أطيافها تطرح هذه الأفكار الصحيحة صحة كاملة و النبيلة نبلا كاملا . بيد أنها لا تعرف السبيل لتحقيق ذلك . فعلى سبيل المثال ، حاصر المجتمع الدولي نظام الحكم في السودان ، و هنظبه بسلاح اتفاقية نيفاشا عام 2005 ، فرفع نظام الحكم في الخرطوم يديه عاليا و ظهره على الحائط . فسلخت تلك الاتفاقية ، من بدنه ، 48% من الثروة و السلطة التي كان يمتلكها نظام الحكم في الخرطوم بقيادة حزب “المؤتمر الوطني” ، قسمت بنسب معلومة . و تطلع المجتمع الدولي ، و من قبله الشعب السوداني ، أن تملأ أحزاب المعارضة و معها المجتمع المدني ، المنحاز لقضايا التغيير ، ذلك الفضاء السياسي الذي أنتزعتة الاتفاقية من كبد “المؤتمر الوطني” ، و من ثم تزحف في منطقته لتسلخ المزيد من فضائه السياسي لصالح تصحيح نتوءات المتصل السياسي الاجتماعي التي أعترت قيام دولة يتساوى فيها أبناؤها . و غني عن القول ، إن الفضاء السياسي هو المجال الذي تستطيع أن تتحرك فيه الرؤى السياسية وسط جماهير محتملين لدعمها ، تغذيهم و يغذونها ليتبلور بهم و معهم مشروع التغيير ، وحينها يكون هو مشروعهم صاغوه بمشاعرهم و أفكارهم ، و من ثم ، ما على قادة التغيير سوى ترتيب الأولويات لتنسجم مع الصورة الكبيرة لتشذيب نتوءات المتصل السياسي الاجتماعي . و بدلا عن أن يتم ذلك ، قام حزب “المؤتمر الوطني” بنهش الفضاء السياسي للمعارضة التي عجزت عن تعبئته ، فنهشت منه ما شاء لها النهش و ما شاءت له سذاجة المعارضة و كسلها الذهني . وحتى الحركة الشعبية ، ركيزة التغيير ، في تلك الفترة ، و بعد أن أفل نجمها في جبال الأماتونق ، غاصت في كراسي السلطة الوثيرة لا تحرك ساكنا . فما أن هبت لتحتج على وضع يصب في صالح التغيير ، حتى حاصرها “المؤتمر الوطني” داخل الغرف المغلقة ، ينفرد بها بعيدا عن عيون الجماهير الذين تركتهم يهيمون في عراء الخوف و الرجاء ، فتعود مشتاقة إلىكراسيها الوثيرة ، تمسح من على جبينها وعثاء النضال . و لسخرية القدر ، تنكرت لمبادئها التي صاغتها بكلتا يديها و أحدتث بها هزة في نخاع الفكر السياسي الكلاسيكي في السودان ، و سحبت مرشحها الرئاسي لانتخابات 2010 ، و أرتضت أن تكون بقايا سياسية متعفة ، أتلفت تربة الجنوب و هواءه و سممت وجدان أهله و هردت أحشاءنا .”
و نحب أن نضيف هنا أن ملاحظتك حول هزال الحركات المسلحة و تشتت كوادرها الذي يؤمل منهم بناءها و تطويرها ، مع شح الدعم المتوقع لها ، لا يجب أن يجعلك أو يجعل غيرك يشك لحظة واحدة أن لهذه الحركات قضية عادلة .فحتى لو استطاعت القوات الحكومية هزيمتها و إبادتها عن بكرة أبيها ، وحتى لو فقدت دعمها لآخر لستك عربة ، و حتى لو عدمت طافي النار ، فإن قضيتها تظل مع ذلك هي قضية الشعب السوداني ، و سيخرج من بين ثنايا الزمان من يحمل لواء الفكرة و ينادي بمعالجة اختلالات انطلاق الدولة السودانية ، أو يظل ما يبقى من هذه الدولة ينزف حتى الفناء . و ذلك لأن قضيتها هي قضية الشعب السوداني الكريم .
أيضا ، في مقالك موضع التعقيب ، أعربت عن حيرتك من تأخر الثورة على النظام الحاكم في سودان اليوم . و هو موضوع تناولناه في مقالات سابقة عديدة ، و كلها مبذولة على الانترنت ، و يمكنك الرجوع إليها . و يمكننا القول ، هنا ، باختصار ، إن التجربة المريرة التي اضطر الشعب السوداني لخوضها منذ استيلاء الإسلاميين على السلطة في يونيو 1989 ، قد أنتجت وعيها الخاص بها ، و هو وعي لم يخرج من ماعون الأحزاب ، إنما هو متجاوز لها ، لذلك لا يعبأ بمناداتها له للإطاحة بالنظام الحاكم ، أو بمقاطعة الانتخابات ، فهو يدرك أنها إنما هي تمثل ذات العقلية التي أدت إلى الانطلاق المعووج للدولة السودانية .
و لكن اقتراحك بأن يكون للإسلاميين ، في الحزب الحاكم ، دور و وجود سياسي لضمان تسوية سلمية و تحول سياسي في الدولة السودانية ، اقتراح بائس و غير مجد ، و أيضا غير ضروري لإنجار تحول سلمي لصالح قضايا التغيير .
في حقيقة الأمر ، درج العديد من مراكز الفكر السياسي و البحوث ، في العالم عموما و الغرب خصوصا ، على ابتداع فكرة الهبوط الناعم كحل مثالي لإنهاء الصراعات الدامية في دول العالم الثالث . و هو حل فوقي ، و به استعلاء مبرر من صانعيه ، لأن النخب المتصارعة في هذه الدول المنكوبة ، ليست ناضجة بالشكل الذي يجعلها قادرة على إحلال السلام في بلادها و من ثم النهوض بها . و لذلك حق لهم أن يطلقوا على مبادراتهم مسمى التفكير خارج الصندوق .فالصندوق ، بالنسبة لهم يحتوى على نخب تافهة و بعض الموجودات البشرية التي يسمونها ، مجاملة ، شعوبا ، لظنهم أنها شعوب ضرب عليها التخلف السرمدي ، و بالتالي تكون التسويات بين أحزابها الحاكمة و معارضاتها أهون على الدول المانحة ، التي ترعي مراكز الفكر و البحوث هذه ، من الإغاثة التي لا تنتهي و استيعاب المهاجرين الذي لا ينتهي .و يطلقون على هذه العملية الهبوط الناعم . فهو هبوطهم الناعم هم بالدرجة الأولى .
و لكن ، حري بك ، أنت ، أن تعرف أفضل منهم في هذا الشأن . فالصندوق الذي يفكرون خارجه ، جدير بك أن تفكر أنت بداخله . فبداخل الصندوق ، شعب كريم يمر بوقت عصيب ، صنعته نخبة تافهة أضاعت عليه أحلى سني حياته ، و لكنه ما يزال يتفاعل مع الحياة و يتعلم من تجاربه ، و سرعان ما يستعيد الثقة بنفسه و يخط في المجد دروبه .فضعفه لن يستمر للأبد و تهميشه لن يستمر للأبد . راجع مقالنا الذي حمل عنوان “الدكتور حيدر إبراهيم على ، و الشخصية السودانية” .
إن هذه النخبة ، أو تلك التي يطيب لها أن تسمى نخبة ، ترى أن من مصلحتها أن تديم الوضع كما هو عليه الوضع ، بالشكل الذي يبقي على نتوءات المتصل السياسي و الجتماعي . و آية ذلك ، أن تدفع الشباب إلي الشوارع حيثينتظرهم قناصة تخرج فوهات بنادقهم من سيارات لا تحمل لوحات ، أو أن تدفع بهؤلاء الشباب إلى مقاطقعة الانتخابات بحجة عدم نزاهتها و كأنهم يطلبون منهم الانتظار حتى تأتي الهداية للحزب الحاكم من السماء ليصير نزيها !!
في الواقع ، إنك لن تستطيع تدشين عملية التغيير دون خلخلة الركائز الموجودة أصلا في العقل السائد عموما و الحاكم خصوصا. و لن تتم هذه الخلخلة إلا بالتفاهم مع الجماهير ، و احترام وعيها ، و فهم هذا الوعي الذي أكسبته إياها التجربة المريرة التي فرضتها سنوات الإسلاميين في الحكم ، و إتاحة الفرصة لهذه الجماهير للتعبير عن ذاتها ، و التعرف على بعضها البعض للانسجام ، و التعلم منها ، و بلورة وعي جمعي ، يشتد مع الأيام شيئا فشيئا و يعرف قدر نفسه الزكية . و من أجل هذه الخلخلة ، رأينا ضرورة تشجيع الشعب السوداني لخوض الفعل الانتخابي ، و إعطائه الأمل أنه يمكن أن يحدث فرقا ، و أن له قيمة ، و أن لرأيه و صوته قيمة . و ذلك لا ضرورة لمساومة الاسلاميين في الحزب الحاكم ، فقط خوض الانتخابات ، فحتى القدر القليل من الخلخلة الذي يحدثه الفعل الانتخابي ، كفيل بإطلاق طاقات الجماهير و استعادة ثقتها بنفسها ، وضعها في أول عتبات التغيير ، و هذا هو هبوطنا الناعم نحن . فوعي الأزمة هو الذي يقود عملية التغيير .