بقلم عثمان نواى
يقول شارلز تلى فى كتابه ” الحركات الاجتماعية”( الناس فى جميع أنحاء العالم عرفوا مصطلح الحركات الاجتماعية كدعوة نفير، كثقل مقابل السلطة القمعية، وكاستدعاء للتحرك الشعبى ضد تنوع واسع من البلايا او الأزمات . ) و يؤكد على ان الحركات الاجتماعية على عكس الانتفاضات والهبات الشعبية عبر تاريخ الشعوب هى عبارة عن” تنظيمات شاملة مؤلفة من جماعات مختلفة المصالح” ، هذه الجماعات تمارس ما يسميه بالسياسة التنازعية، حيث المقصود بالتنازعية ان الحركات الاجتماعية تتضمن تحركا جماعيا لاملاء المطالب، التى اذا تحققت فانها تصارع مصالح طرف اخر هو طرف سياسي مثل الحكومات اومنظومات او مؤسسات ذات سلطة.
ان ما يجرى من حراك فى الشارع السودانى منذ ديسمبر الماضي والذى تواصل الى ٧٥ يوما الان انما هو مد شعبى من الغضب الممتد والمدفوع من قبل مجموعات مصالح مختلفة من الشعب. بما فى ذلك شرائح غير منظمة بالشكل التقليدى مثل النساء والشباب. على طرف اخر نجد المجموعات المطلبية الأكثر تنظيما مثل المهنيين والمجموعات المطلبية الإقليمية او التى تعبر عن مطالب تتعلق بفساد الدولة او حقوق الارض او المواطنة من أقصى الشمال الى الشرق الى الغرب و الجنوب جميعها انضمت باشكال متنوعة، بعضها رمزى وبعضها اكثر قوة وتأثير. هذا الطيف الواسع، والأهم هذا الالتزام الكبير من قبل المجموعات المحتجة وهذا الصمود لفترة طويلة لم يشهده السودان من قبل بشكل مماثل وعلى هذا النطاق المتسع.
مما يؤكد على ان ما يجرى الان على الأرض يتجاوز كونه مجرد احتجاجات او ثورة عادية تبتغى فقط تغيير النظام. ان ما يجرى الان هو اكبر بكثير انه أشبه بحركة اجتماعية واسعة. حركة لها مطالب مرتبطة بشكل مباشر بالتغييرات الاجتماعية التى حدثت فى السودان والتى أصبحت فى حاجة للتعبير عن نفسها وان تهدم كل البناء القديم حتى تجد متنفس لبناء دولة جديدة قادرة على التفاعل مع كل التغييرات التى حدثت بالفعل. فالنظام بالنسبة لهذه الحركة الاجتماعية للتغيير لا يتعدى سوى راس جبل الجليد الذى يخفى تحته الكثير الذى سوف يسقط أيضا على التوالى ما بعد النظام.
فما نشاهده الان من تعبيرات احتجاجية وقوى مختلفة من صغار الشباب والنساء واشكال القيادة بدءا من لاعبى كرة القدم مرورا بمنبرشات وفنانى موسيقى الزنق وليس انتهاءا بلغة الثورة الرسمية الراندوك ،فإن البلاد تكشف عن وجه يخرج من الكواليس الى العلن، حيث تتبدى اخيرا كثير من الكيانات والثقافة التى قمعت تحت الارض طويلا والتى كانت هناك أحكام سلبية اتجاهها من قبل المجتمع المحافظ التقليدى ،بما فى ذلك جيل الشباب الذى انتُقد كثيرا من قبل الكبار في ملبسه واغانيه ولغته، وهاهو الان يقود الحراك ويحظى بالاحترام ويخلق منظومة قيم جديدة تفرض نفسها على ذات المجتمع المحافظ التقليدى. هناك تغييرات كبيرة فى الواقع الاجتماعي ، فبدءا من الاحترام الغير مسبوق على المستوى المحلى والإقليمى بل وحتى العالمى للمرأة السودانية بحيث تخرج مواكب كاملة على شرفها، و مرورا بالرفض المتنامي للعنصرية التى اضطرت النظام الى التراجع عن سيناريوهات لتلفيق التهم لطلاب دارفور بتهم التامر، فى محاولة لايقاظ نعرات عنصرية يبدو انها تتقدم باستمرار نحو التلاشى فى ظل جيل اكثر انفتاحا من الاجيال السابقة وله القدرة على احترام الاخر نسبة أيضا الى الاحتكاك والتكنولوجيا التى فتحت أبواب واسعة لمعرفة الاخر. بالتأكيد لا زال الطريق طويل نحو مجتمع سودانى اكثر مساواة وانسانية وانفتاحا وعصرية ، لكن ما يجرى يؤكد على ان الارض تتزحزح من تحت السلطات التقليدية كافة ،من سلطة ابوية الى سلطة ذكورية الى سلطة دينية الى سلطة عسكرية الى سلطة قبلية او اثنية.
ان شروط جديدة تتخلق على الأرض مع تطور الأحداث. ومما يبشر بان الحركة الاجتماعية للتغيير تتحرك ببطء ولكن بوعى هو ان مجموعات جديدة تنضم لهذا الحراك كل يوم، إضافة الى ذلك فان زعزعة النظام نفسه من خلال الضغط الاجتماعى والعزل فى المجتمع، وان أصبح وصف الكوز او الامنجية عبارة عن مسبة وعار، كل هذا من قبيل الحراك الاجتماعى الذى يقوم بعملية أشبه بالانتخاب الطبيعى الان ويقوم بعزل مرعب لكل من يرتبط بالنظام وكل السلطات التقليدية الداعمة له ويجعلها فى مواجهة تحدى غير مسبوق، جعلها تقف جامدة امامه الى حد كبير.
ان السودان كدولة ومجتمع ، له تاريخ وارث طويل من المظالم والأخطاء التاريخية التى فصلت البلاد وادت الى ابادات جماعية وولدت تمييز وانقصت حقوق المواطنة على اساس النوع والاثنية والدين والعمر من فئات عديدة. نجد معظمها فى قلب هذه الحركة الاجتماعية الان. حيث أن السياسة وحدها ،اى اسقاط النظام وحده لا يكفى لكن الحراك الواعى بأهمية تغيير الأرضية نفسها التى يستند إليها النظام هو ما يجب التركيز عليه وهو أيضا ما يجب ان يفهم هذا الحراك فى اطاره وخاصة بطء سقوط النظام السياسي، وذلك لان النظام الاجتماعى الذى يدعم هذا النظام السياسي من قوى تقليدية محافظة هى التى تتساقط ببطء فى وجه تغييرات كبيرة تعبر عن نفسها وعن صوتها بقوة الان . حيث ان هذه الثورة خرج فيها الأبناء ضد آبائهم والنساء رغم انف أزواجهم وحتى أعضاء القوات النظامية تمردوا بشكل فردى ،وهذا اهم من الموقف الجماعى لانه يدل على حرية الراى الفردى والاستعداد للتضحية دون اى حماية. خرج فى الثورة أيضا الاتباع عن شيوخهم كما نجد من شباب الإسلاميين وانصار السنة وحتى الطرق الصوفية،اذن هناك حالة عامة من التمرد على التقاليد والسائد لم تصبح حصرا على مناطق معينة او فئات معينة . حيث ان المعركة الحقيقية ليست فقط لإسقاط النظام بل أيضا لتهيئة الأرضية لقبلول التغييرات التى ستمنع للأبد قيام نظام مماثل فى السودان.
ان أرض الملعب تنتقل تماما من تحت أقدام اللاعبين القدامى وتزحف نحو لاعبين جدد هم أصحاب المصلحة والقدرة والرغبة أيضا في صناعة التغييرات فى الدولة التى لا يمكن لهم البقاء فبها من دون تحقيق تلك التغييرات عاجلا دون تأجيل . ان الحركة الاجتماعية الحالية تحت شعار تسقط بس هى حركة تريد إسقاط كل القيود التى كبلت فرص السودانيين فى حياة افضل. حيث ان هذا الاصرار والالتزام الملحوظ حتى فى مواعيد قيام المظاهرات، إنما يشير الى ان المجتمع السوداني بشكله الذى يتحرك الآن ليس لديه اى خيار اخر للبقاء على قيد الحياة سوى الاستمرار فى صناعة التغيير. فمن المستحيل العيش فى ظل هذا النظام لذلك المعركة الان هى معركة بقاء ولذلك التغييرات المفترضة حتمية تماما. فالجيل الحالى لا يتسطيع العيش دون حرية تعبير دون موسيقي وغناء ودون شريكات الكفاح النساء بكل مساواة، لن يقبلوا التمييز بسبب الدين والمعتقدات واللون والنوع واللغة لأنهم جميعا لديهم اختلافاتهم الخاصة ليس فقط بحكم الميلاد لكن بحكم حرية الاختيار ما بعد الميلاد. اذن ليتاهب حراس المعابد التقليدية كلها، من شيوخ القبائل والطوائف الى النخب السياسية والعسكرية فى كل الوجهات ،ليتاهبوا الى حركة اجتماعية جارفة ومستمرة. وان كان السودان رائد فى الثورات فى القرن الماضى، فإنه يبدا هذا القرن بقيادة حركات اجتماعية مزلزلة وغير مسبوقة. فإن كل أخطاء الماضي قد ضاق بها ذرعا هذا الجيل الذى يراهن على الحياة وان دفع حياته ثمنا لكى يحيا رفاقه واحبته. وتسقط بس..
[email protected]