صلاح الدين ابكر ابوالخيرات
ان التجربة السودانية تمر بمرحله عصيبة حول الانتقال من نظام ديكتاتورى الى نظام ديمقراطية لممارسة السلطة والحكم وبناء نظام سياسي حديث يؤسس لعلاقات القوة التي تحكم العملية السياسية في المجتمع، لكن هنالك عوامل عدة تؤكد بأن الانتقال الديمقراطي متعثرا لعدة اسباب، أولها أن العسكر بطبعهم لا يرحبون بالديمقراطية، والثاني ان الثورة السوادنية فى بوابة الفشل لتحقيق اهدافها فى الانتقال من مرحلة الاستبداد والفساد الى الحرية السياسية، والثالث الدخول في مغامرات خارجية مع الدول العربية وحروب مع الاصدقاء فى دول الجوار (اثيوبيا) مما أدى الى مزيد من السيطرة من قبل العسكر وأصبحت الحكومة تمارس مهام ليس من مهمها فى الفترة الحالية وهذا يؤدى لتعطيل مرحلة الانتقال الى الديمقراطية. فالثورة أنجزت أشياء وعجزت عن إنجاز أشياء أخرى. فقد نقلت الحكم من الدكتاتورية الاسلامية إلى عسكريين من نفس الحقل الفكرى وهذا لدية مردود سلبى فى المستقبل القريب . وأخرجت المضطهدين سياسيا إلى السطح بل ومكنتهم من تقلد المسؤولية واصبحوا يمارسون نفس ألاعيب النظام البائد باستبدال تمكين بتمكين اخر. لكن الجانب الايجابى خلقت حالة حراك سياسي كبيرة نقلت قطاعات كبيرة من السودانيين من الاهتمام بحياتهم الخاصة إلى الاهتمام بالحيز العام.
ان تجربة الفترة الانتقالية تقف عند مفترق طرق، وأمامها فرص كبيرة وتواجهها تحديات هائلة. هي تجربة، أو بالأحرى عملية، بدأت ولا يعرف أحد متى أو كيف ستنتهي، تجري في طريق تظلله آمال تحديات وعقبات. ما زالت تلوح هل بأمكان السودانين على كسر هذه المرة الحلقة المفرغة لتصبح دولة ديمقراطية، او تفشل عملية التغيير وتواجه عقبات قد تؤخر التحول الديمقراطي طويلا أو تجعله إن يولد مشوها.
اول بداية الفشل فى المرحلة الانتقالية للتحول الديمقراطى هى عدم الاستجابة على بناء واعادة هيكلة الدولة على اسس علمية تبدأ بدستور، برلمان، جيش موحد، امن وسلامة المواطنين فى مناطق النزاعات، و أحزاب تتبنى الديمقراطية مبدءأ ونهجأ داخل هياكلها ومؤسساتها، سلطات عامة متمايزة الأدوار، مؤسسات إعلامية حرة، منظمات مجتمع مدني مستقلة، محاكم تنصر المظلوم وتحاكم مجرمى الحرب وتقف الفوضة الامنية ..إلخ وآليات تنظم وتضمن عمل هذه الاجسام للوصل الى انتخابات، استفتاءات، قواعد لفض المنازعات، ضوابط متفق عليها تضمن التداول السلمى للسلطة، وحدود زمنية لشغل الوظائف العامة وتأسس قيم التداول السلمى والالتزام الأخلاقي بتلك القيم ومن بينها القبول بالهزيمة، التسامح، المساواة، القبول بالآخر، نبذ العنف…إلخ
خمسة اشياء يجب تحقيقها بشكل عملى قبل الخوض فى ديمقراطية انتخابية فاشلة
1- كسر ثقافة الخوف
فالديمقراطية لا يمكن ان تنهض بمنظومة قيم تتملق الحاكم أو تخشى الحكم أو تتوارى عن المواجهة. تمكنت ارداة الثورة من كسر حاجز الخوف فى المرحلة الحالية ولم تفلح محاولات إعادة بناء حاجز الخوف من جديد لا خلال المرحلة الانتقالية الأولى التي تولاها العسكر. حيث ان كسر ثقافة الخوف بدأ على يد أفراد أو مجموعات صغيرة مثل بعض الشباب الثائر وتجمع المهنيين من الصحفيين والاطباء وأساتذة الجامعات واتسعت الدائره حتى اصبح مظهرها تتمثل في نزول باستمرار إلى الشارع والبقاء في الحيز العام سواء الإعلامي أو المكاني حيث يعزز التحام الفرد بالمجموع من شعوره بالثقة ويدفعه إلى ممارسة النقد علانية. وخلال العام المنصرم بدأت منظومة جديدة من القيم السياسية الجريئة تتكون. ومع أنها لم تكتمل بعد وتنشط أحيانا الى أنها تعتبر تطور جيد نحو التحول الديمقراطى -لا سيما لدى شرائح الشباب- مكتسبا رئيسيا يجعل محاولات تطويع الشباب السودانى سياسيا من جديد أمرا صعبا ومكلفا.
2- إعادة التوازن إلى علاقة الدولة بالمجتمع
فمع كسر حاجز الخوف بدأت علاقة الدولة بالمجتمع تتغير وتستعيد بعض توازنها المفقود. صحيح أن التوازن المطلوب لم يكتمل بسبب حالة الازمة الاقتصادية التى تعيشها البلاد، إلا أن علاقة الجانبين شهدت نقلة نوعية كسرت نمطية تاريخية تعاظمت في ظلها قوة الدولة، وانكفأ بسببها المجتمع. لكنها ظلت تتصرف مع المجتمع على أنه مطيع في يدها بفضل ما لديها من فائض في أدوات القهر جعلتها تحاول تكريس إحساس المواطن إزاءها بالدونية والضعف. لكن المجتمع السودانى تغير، فلعدة عقود وهو يعتمد على نفسه بعد أن تركته الدولة الرسمية دون أن تلبي له احتياجاته مما أضطره إلى تكوين دولة بديلة صنعها بنفسه كبرت بالتدريج لتتحدى دولة القهر الرسمية التي لم تشبع للمجتمع مطالبه. وأحد شروط الانتقال الديمقراطي أن تتحول الدولة من مؤسسة حابسة للمجتمع إلى مؤسسة حارسة له. فالدولة الديمقراطية وإن حافظت على وجودها ملموساً في المجتمع إلا أنها ليست مخولة باختراق تكويناته الأولية أو التلاعب بتفاعلاته التلقائية. وخلال العامين الماضيين وجدت الدولة السودانية نفسها أمام مجتمع مختلف بلغت به الجرأة أحياناً حد الانفلات. كما قبلت في تطور لافت للنظر أن يشكل المجتمع مؤسساته مثل الأحزاب والجمعيات والصحف بتلقائية تخالف كثيراً التعسف الذي كان يجرى من قبل. وبرغم محاولات جهاز الامن ومليشيات الجنجويد استعادة هيمنتها من جديد تحت غطاء بسط هيبة الدولة إلا أن فئات واسعة من المجتمع أظهرت نضوجاً ملحوظاً بتفرقتها بين هيبة الدولة وهيمنتها، حيث تطالب الدولة باستعادة هيبتها بالوقوف حكماً محايداً بين الجميع وترفض هيمنتها من خلال استحواذ تيار واحد فارضا نفسه على الجميع.
3- بدء تفكيك البنية العسكرية للسلطة
كانت تسيطر المؤسسة العسكرية بطرق ملتوية لعقود من الزمان على السلطة لكن اليوم بعد الثورية السودانية اصبح رئيس مجلس الوزراء وغالبية أعضاء التشكيلات الوزارية ورؤساء الأجهزة القومية تم تكليفهم من خارج صفوف القوات المسلحة. من ما سهل على القيادة المدنية من التحرك فى مجالات عدة من ضمنها اعادة العلاقات الدولية ومسح السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب. على الرغم من سيطرة القوات المسلحة على السلطة فى الفترة الاولى وتهيمن على الوضع العام فى البلاد بهجة الانفلات الامنى و لكن على الرغم ما جرى إلى الآن لا يعد تفكيكا كاملا لبنية الهيمنة العسكرية على السياسة السوداينة، لكنه تراجع مهم و تحول تاريخي قد يفتح الباب لتطوير شرعية سياسة جديدة قوامها التداول السلمي للسلطة بين المدنيين، لو توافقوا.
4- ظهور نخب جديدة متمايزة
فعلى عكس النخبة القديمة التي جاء معظمها من التنظيمات التقليدية ذات خلفية إسلامية سبق شاركت فى السلطة . ظهرت قوة جديدة ذات تمايز نخبوى هذا التمايز النخبوي لم يكن فقط أيديولوجيا وإنما كان تمايزا في الخلفيات المهنية والمناطقية والموقف السياسي إزاء ترتيبات المرحلة الانتقالية. وبرغم حالة الاستقطاب التي وقعت فيها النخب الجديدة إلا أن تمايزها في المواقف يعتبر عاملا مساعدا في دفع الانتقال الديمقراطي. فليس مطلوبا في التحول الديمقراطي بناء نخبة متماسكة، وإنما يفيده أكثر أن تكون متنوعة. أضف إلى ذلك أن النخب الجديدة تمحورت حول كتلتين: التيار التقليدى وتيار النخبة المتطورة ، وبرغم أن الأخيرة تضم أطيافا متنوعة، إلا أن حاجتها إلى بناء معارضة قوية استعداداً للتشكيل البرلمانى القادم قد يساعد على ضمان درجة أعلى من نزاهة التحول الديمقراطى وقد يكفل لها نسبة تمثيل برلمانية جيدة تعزز من توازن القوى على الساحة السياسية.
5- زيادة منسوب الممارسة السياسية
فى خلال العامين بعد ثورة ديسمبر خرج السودانية لممارسة السياسة بأشكال مختلفة، شملت تشكيل حكومة تكنوقراط بالشراكة مع العسكر وتوقيع اتفاق سلام على الرغم من رفضه من قبل جزء كبير من القوى المؤثره فى مناطق النزاعات ، والترتيب على تشكيل حكومة جديدة و تشكيل البرلمان الثورى. وكذلك انضمام للأحزاب والمشاركة في التظاهرات وتنظيم الوقفات الاحتجاجية، وباتساع حجم المجتمع السياسي في العالم الافتراضي والسوشل ميديا تولدت مظاهر للحيوية السياسية تعبر عن اتساع الحيز العام وعودة المجتمع لموازنة الدولة.
مع القراءة للواقع السياسيى والتجاذوبات الاقليمية واستمرار الحرب والانهيار الاقتصادى فأن النقاط الخمسة المذكره اعلاه لا تكفي لتحقيق الانتقال الديمقراطي. فهناك مقومات أخرى لم تتوفر بعد، وجودها قد يمثل سبب فى نجاح تجربة الانتقال الديمقراطى فى البلاد .وهي متعددة تتمثل فى بعض التحديات التالية:
1. إدارة الفترة الانتقالية بأنسجام وتنفذ اهداف الثورة : لتلبية شروط الانتقال الديمقراطي ضرورة توفير المناخ السليم دون سيطرة مجموعة او كيان سياسى معين على السلطة و تقليل فرص التشاكس السياسي والابتعاد من الاجندة الحزبية الضيقة للانتقال الى مرحلة المصلحة الوطنية الشاملة مع تشارك المسؤولية وتداول السلطة والتسامح الواسع.ظهرت قوة معادية للتحول الديمقراطى وداعية للتطرف الايدلوجي والدين فى بلد متعدد الاديان والثقافات فأصبحت تتمترس حول ذاتها وتدعوا للتراجع نحو التغير وتريد القيادة بشكل سكوني لا تحب الحركة، وإنما تفضل الثبات، ولا تميل إلى التغيير وإنما الاستمرار، ولو اضطرتها الظروف إلى الحركة فتفضل أن تكون بطيئة، ولو استطاعت ستجعلها في وضع محلك ولطبيعتها المحافظة، تعتبر قوى السكون العدو الصامت للتحول الديمقراطي، تدعي في العلن أنها مع الديمقراطية بينما تحاول في العمل أن تلجمها، تزعم أنها تريد للانتقال الديمقراطي أن ينطلق بسرعة، لكن ليس بسرعة الحركة وإنما بسرعة الثبات. وفي الحالة السودانية فإن قوى السكون أبرزها اثنتان: المؤسسة العسكرية والقوى الدينية، الأولى ما زالت حريصة على حماية مصالحها القديمة، والثانية باتت تحصد ثمارا أكبر مما قدمته للثورة فضلا عن أنها تضع شروطاً على الممارسة والحريات الديمقراطية تكاد تفرغها من محتواها.
2. التخبط الإجرائي: وقد يمثل عائقاً ملحوظا أمام انطلاق ديمقراطي آمن الفشل فى إقرار اسس جديدة تشمل التعليم والقوانين المقيدة للحريات اظهرت خلافات بين التيارين المدني الداعى للتغيير والتيار والديني حول إجراءات بناء النظام السياسي الجديد، بدأ بالجدل عن تغيير المناهج و سن تشريعات جديدة تطور القانون السودانى و ضمن الحريات وحقوق الانسان . خلافات لم يتم إدارتها بطريقة مؤسسية وإنما اتسعت ليجري حسمها أحياناً بالضغط الميداني في الشوارع والساحات. ويعود هذا التخبط إلى ثلاثة أسباب:
أ. وعي مشوش بمنهجية الانتقال الديمقراطي وليس هناك عمل جاد نحو البناء الانسان وتعزز ثقافة الحوار وقبول الاخر من الساسة نفسهم
ب. عدم التزام القيادة بوضوح بالقواعد الديمقراطية بالاخص العسكريين لديهم النية المبيته بفعل شئ فى المستقبل القريب .
ت. جهود كثييرة بذلتها القوى السياسية لكنها لم تكن تراكمية، ما جعل تلك القوى تتصارع خارج قواعد اللعبة الديمقراطية بل وخارج المؤسسات أصلاً. وبدلاً من أن تضيف كما يجري في الديمقراطيات إلى بعضها أصبحت تعارض وتعوق عملية التحول الديمقراطى فى الفترة الانتقالية وتقف مع العسكر.
3. العامل الخارجي: تدخل بعض الدول العربية كالامارات والسعودية من جانب وقطر من الجانب الاخر ساعدت على تمدده حالة الاستقطاب و سمحت للقوى الخارجية اخرى بالتسلل للتأثير على علاقات القوى السياسية ببعضها البعض. وقد برز الخارج خلال العام الماضى كعامل في زعزعة الثقة بين التيارات السياسية التي تبادلت الاتهامات فيما بينها بالعمالة لقوى أجنبية. وبرغم تباين أهداف القوى الخارجية تجاه ما يجري إلا أن ثمة ملمحاً مشتركاً يجمعها حيال الانتقال السياسي فيها بشكل عام والانتقال الديمقراطي بشكل خاص. لكن بعض القوى الدولية، لا تريد للسودان أن ينهار سياسياً فيصبح عبئاً على منطقة مليئة بالأعباء، كما لا تريد لها أن تنطلق لتصبح نموذجاً في جوار إقليمي أكثر من لديه حساسية تاريخية. بمعنى آخر، الخارج هنالك من يعمل على تفتيت وحدة السودانيين تجاه قضاياهم لاستمرار مصالحهم الاقليمية وهنالك قوى اخرى لا تتحمل سقوط السودان سياسياً أو انهيارها اقتصادياً أو اضطرابها اجتماعياً. ولهذا يساعدها بقدر الكفاية. لكنه لا يساعدها للمدى الذي تحتاجه لبناء استقرار سياسي تقوم على أساسه حياة ديمقراطية سليمة.
4. الانتفاخ والاستيلاء السياسي: وهو عائق أظهره سلوك القوى السياسية الجديدة، فمع الانتقال الديمقراطي أصبح من الصعب أن يقمع تيار فكري أو سياسي غيره بالكامل. لكن غياب القمع استبدل بزيادة الاستعلاء وبحالة ملحوظة من الانتفاخ الذاتي وتضخم الأنا، سواء الفردية أو التنظيمية ادى الى عدم الاستقرار السياسي والاقتصادى حتى الامنى فى مناطق النزاعات ومشاكل الحدود مع بعض دول الجوار كالجارة اثيوبيا. وإذا كان التحول إلى الديمقراطية يحتاج إلى تفاعلات سياسية تقوم على الندية والتكافؤ و اتصال لا ينقطع بين مختلف أطراف المعادلة السياسية، تبدو على النقيض من ذلك تصريحات ومواقف القوى السياسية تجاه بعضها، إذ ما زالت تفكر بطريقة قديمة قوامها الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة وعدم جدارة الآخرين بالمشاركة في تحمل المسؤولية. بعبارة أخرى، ما يزال التواصل مع الآخر والتنازل للآخر دون المستوى. وقد تسبب الانتفاخ السياسي في الحيلولة دون دعوة قوى سياسية إلى الحوار أو رفض تلك القوى للحوار لو دعيت إليه، وهو ما عطل التوافق على كيفية استكمال بنود فترة الانتقال وبناء دستور قومى ما زال يهدد فرص التوافق كما هو مقرر فى الفترة الانتقالية. ويزيد من تلك العقبة اعتبارات عديدة من بينها دور الإعلام الذي أصاب قطاعا ليس محدودا من الرموز السياسية بشعور مبالغ فيه من النرجسية. كما صاحب حالة الانتفاخ هذه ظهور كثير من الوجوه محدودة الكفاءات كقيادات فى المشهد السودانى كقيادة مشيليات قبلية الذين نزلوا الى مستوى الممارسة السياسية إلى المعاندة والمكايدة بعيدا عن الحوار والحجة والبحث عن حلول وسط كما تقتضي التقاليد الديمقراطية.
5. استمرار تداخل الخاص بالعام: فتولي الحكم لا يعني الهيمنة على كل النظام السياسي أو السيطرة على الدولة. وقد أثير طيلة الفترة الماضيه مخاوف مدعومة بكثير من القرائن حول ما سمي “بكوزنة الدولة و النظام البائد”، وتعتبر من معوقات أي تحول ديمقراطي آمن. ، وهو ما لم يُفهم بعد. كيف يتم استبدال جهاز الخدمة المدنية االمحزب سياسيآ الى جهاز دولة احترافي غير تابع سياسيا لحزب أو تيار بعناصر جديدة لتفادى تجربة الماضى التى حولت مؤسسات الدولة إلى تشكيلات تابعة للحزب الحاكم تعمل لخدمة الحاكم لا المحكوم.
6. الوضع الاقتصادي: وهو من أبرز عوائق الانتقال الديمقراطي، حيث تحد البنية المالية الهشة للدولة من القدرة الإرضائية للنظام الجديد كما تفتح الباب للقيل والقال حول طريقة توزيع الموارد المحدودة لمحاباة فئة على أخرى أو مشروع على آخر. وبسبب تفاقم المشكلة الاقتصادية باتت الصراعات السياسية تجري على طريقة إدارة الاقتصاد نفسها وليس بالضرورة على أساس تقييم موضوعي لأساليب وأدوات العمل المقترحة، وإنما بهدف استغلال الأوضاع الاقتصادية المأزومة كورقة ضغط ووسيلة لتصفية الحسابات بين الخصوم.
7. تآكل قدرات الدولة: فقد مرت الدولة السودانية بمرحت التأكل وانتجة التخبط الذي اكتنف المرحلة الانتقالية قد يعوق التحول الديمقراطي ويعوق اى نشاط سياسي حميد فى فترة الانتقال. فبعد أن كان الخوف في السودان من اجهزة الدولة أصبح الخوف الآن على ان تنتهى الدولة السودانية بسبب الصراعات اليومية وعدم وجود رؤية سياسية واضحة فى كافة المجالات الاقتصادية والسياسية وتآكل قدرات الدولة يخشى من أن الانتقال إلى الديمقراطية بدلاً من أن يكون حلاً لمشكلات تعانيها قد يصبح سبباً في مشكلات أكبر تنتظرها. من خلال الفترة الماضية كشفت حالة السيولة المصاحبة للمطالبة بالديمقراطية عن تآكل في أهم قدرات الدولة. فقدرتها الاستخراجية عجزت عن تدبير الموارد اللازمة لإعادة إطلاق الحياة الاقتصادية، وقدرتها التوزيعية لم تنصف الطبقات المعدمة والفقيرة بل وشرائح من الطبقة الوسطى، وقدرتها التنظيمية عجزت عن ضبط فوضى السلاح فى مناطق النزاعات والتهريب والتعدي على المال العام. ولو استمر تآكل قدرات الدولة وزاد انفلات المجتمع فقد لا تتوفر قاعدة الاستقرار اللازمة لبدء عملية ديمقراطية تتجاوز الشكل إلى الجوهر.
8. الأيديولوجية: ففي أي تجربة للانتقال الديمقراطي يجري نبذ الاعتماد على فكرة واحدة إلى طرح بدائل فكرية يجري الانتقاء فيما بينها بحرية. وقد كان واضحا في كل الدول التي لحقت بموجات التحول الديمقراطي في شرق ووسط أوروبا مثلا أنها كانت تبعد عن الأيديولوجيات وتبحث عن أنسب البرامج السياسية لظروفها، وأنها كانت تنتقل من سيطرة حزب واحد يتبنى عقيدة سياسية بعينها يرى أنها الحقيقة المطلقة إلى تعدد حزبي يقر بالنسبية ويقوم على تعديل السياسات العامة بحسب مقتضيات الحال. والواضح في تجربتنا ان الديمقراطية تواجه بعقبة الأيديولوجية، وبالتحديد الأيديولوجية الدينية التي يعبر بعض من يتبناها عن مفهوم مناقض تماماً للديمقراطية برغم أنه أكثر من استفاد من إجراءاتها. مفهوم يحاول أن يملي فكرة جاهزة وقاهرة يصر على تطويع الواقع من أجلها وليس تطويع الفكرة بناء على الواقع .
اخيرآ على ضوء هذه الفرص وتلك القيود يبقى السؤال: إلى أين يمكن أن تنتهي التجربة السودانية الجديدة؟. قد يكون التاريخ أحد مفاتيح الإجابة، النظام الديمقراطي يتميز بسرعة استجابته لمطالب المجتمع. لكن السودانين يشعرون بفراغ كبير فى سياسات الحكومة الانتقالية. فقطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والنقل والتوظيف والأمن والضرائب عانت من عدم امتلاك الحكومة لبرامج عمل واضحة، ومن عدم وصول فوائدها إلى القاعدة الجماهيرية العريضة. وأسوأ ما في فراغ السياسات أنه يدفع من جديد إلى الشعور بالإحباط الذي إما أن يؤجج الغضب أو يدفع البعض إلى الانسحاب من الفضاء العام معيدا قطاعا من الجمهور إلى السلبية. والسبب والأساسي فهو أن الاحتجاجات والثورات بحد ذاتها لا تؤدي الى بناء دول حداثية قوامها مؤسسات راسخة وسيادة القانون واحترام التعددية، وان ذلك يحتاج الى أطر فكرية وتنظيمية، وإلى الوقت الكافي لنضوجها. لم يهتم الجيل الجديد بهذا في الغالب. وغياب الفاعلية للحياة الحزبية ومؤسسات المجتمع المدني، في تحويل هذه الاحتجاجات الى بدائل مقنعة لعامة الناس قد يكون سبب ذبول نجم الاحتجاجات
حان الوقت كي يدرك الجيل الجديد في السودان أن الطريق طويل وشاق، وأن الوصول لعالم مستقر ومزدهر يتطلب عقوداً من الزمن، ولن يتحقق في حياة الكثيرين، بمن فيهم ابناء وبنات جيلي.التوعية والاستعداد والتثقيف وبناء البرامج المقنعة واستخدام وسائل الاتصال الحديثة كلها عوامل ستساهم في خلق جيل جديد مختلف ينشد الديمقراطية والسلمية والتعددية والمشاركة فى نظام الحكم والانتاجية في الوقت ذاته، فهي الاساس التي سيقوم عليها أي ازدهار مستقبلي.
بقلم/ صلاح الدين ابكر ابوالخيرات
Boosh_for@yahoo.com
بتاريخ20 /1/2021