بقلم عثمان نواى
فى مقالنا السابق قمنا بربط تاريخي بين أخطاء الماضي التى تتكرر فى الحاضر من النخب المركزية الحاكمة. وانتهينا الى ذكر بعض الحجج التى يحاول البعض الدفع بها تبريرا لممارسة الوصاية على خيارات الهامش ومسيرة ملف السلام وخاصة فى رفض المصفوفة التى وقعت عليها قحت الخرطوم مع العسكر والتى رفضتها القوى الثورية فى جوبا لأنها تشكل خرقا كاملا لاتفاقيات سابقة. ونجد ان هناك سيل من الادانات لهذا الموقف فى حين ان هناك ممارسة أنكار جماعى عالية من نخبة المركز للحقيقة التى هى ان ما جرى من اتفاق هو كسر خطير لجسر الثقة الهش جدا بين قحت والقوى المسلحة وتهديد كبير لمسيرة السلام.
فعندما يتحدث البعض بكامل السذاجة السياسية والعمى المتعمد عن الحقائق عن ان القوى المسلحة هى جزء من الحرية والتغيير وأنها لا يجب عليها اصلا ان تفاوض فى جوبا وأنها بعد سقوط النظام كان وجب عليها القدوم للخرطوم ،فإن هذا الحديث يدل على درجة عالية من تعمية الحقائق وتزوير التاريخ القريب لقضايا الهامش وتاريخ الصراع مع نخبة المركز، وهو ممارسة تاريخية معهودة من هذه النخب . وربما يحتاج كثير من هؤلاء النخب التى تتحدث عن انها ثورية، ربما تحتاج الى فيتامينات للذاكرة. فمن اخرج القوى المسلحة من دائرة اتخاذ القرار فى قحت وجلس الى التفاوض مع العسكر ووصل الى نتائج قسمة الحكم ومحاصصة للسلطة بل ووقع على وثيقة دستورية دون مشورة ورضا أطراف القوى فى الهامش كانت قحت الحاكمة فى الخرطوم. ومن أقصي أيضا القوى فى الهامش عن عملية اختيار السلطة الانتقالية بناء على ذات آليات اتخاذ القرار الشللية تلك أيضا كانت قحت الخرطوم. اذن من اختار من لحظة السقوط الى الان ان يكون هو وحده سلطة اتخاذ القرار كانت قحت، بل ان التفاوض فى جوبا هو تكرم من قوى الهامش على قحت بأن اعترفت بها سلطة امر واقع رغم كل الأخطاء والالتباسات وخيانة الالتزامات وعدم الشفافية حتى فى الوثيقة الدستورية التى لا نعلم الى الان كم نسخة لها.
وياتيك البعض ليتحدث عن ان المجلس التشريعي وانه هو أولوية وأنه لا يمكن ان ينتظر انتهاء مفاوضات السلام الطويلة لاستكمال هياكل الحكم الانتقالى. وفى واقع الأمر ان المسؤول عن تعنت السلام هم من يمسكون بالسلطة ويدعون الوصاية على مصلحة الوطن. فإن كان تم منذ البداية التشاور مع القوى المسلحة منذ انشاء الوثيقة وتم تضمين حقوق مناطق النزاعات كما يجب لها ان تكون لما كنا احتجنا اصلا المفاوضات فى جوبا، بل لكانت قحت نفسها وصلت لاتفاق يعطى أغلبية اكبر او ربما حكم مدنى كامل لقوى الثورة، وهذا ربما ما خشيه العسكر والكيزان لذلك استفردوا بقحت الخرطوم ،ولكن يظل السؤال لماذا وافقت قحت الخرطوم على التخلى عن أجندة الثورة وشعارات كل الوطن دارفور حينما وقعت الوثيقة دون ممثلى دارفور فى قحت نفسها ؟ وهنا يتضح جليا ان جينات الوصاية التاريخية تفرض نفسها طبعاً لا يغلبه التَطبُع. اذن الوصول إلى التفاوض نفسه هو خطأ قحت الخرطوم وهى من كانت يمكن ان تتفاداه لو استقوت برفاق الثورة ولم تستقوى بالمجلس العسكرى عليهم. وهذه بؤرة تساؤل أخرى ضمن كثير من النقاط الغامضة فى مسيرة الثورة المتعثرة الى الان.
كما ان المجلس التشريعي الذى يجب تكوينه وحكام الولايات، هم جزء من سلطة انتقالية لا تمثل بعد كل السودان فى هيكلتها، لان قحت عمليا فصلت السودان الى هامش ومناطق نزاعات فى جهة وبقية السودان من جهة أخرى حينما قررت مصير كل السودان واتخذت القرار وحدها وفصلت كل الهامش السودانى من عملية اتخاذ القرار ما بعد السقوط وحولته مرة أخرى الى آخر وليس شريك كما كان أثناء الثورة وحسب إعلان قوى الحرية والتغيير. وبالتالى قحت نفسها هى التى هزمت تماما اهم منجزات ثورة ديسمبر المجيدة وكانت هذه الخيانة الكبرى لدماء الشهداء.
والذين يستعجلون قيام مجلس تشريعى لا يمثل كل الوطن عليهم مراجعة وطنيتهم والتشكيك بجدية فى قناعاتهم الثورية. فإن كانت المطالبة بحقوق ٦٠٠ شهيد سقطوا فى ثورة ديسمبر تحتاج الى اشهر من لجان التحقيق والإجراءات ، فكم تحتاج المطالبة بحقوق اكثر من ٣٠٠ الف شهيد فى دارفور فقط ،وعشرات الالاف قتلوا فى جبال النوبة والنيل الأزرق ؟ ناهيك عن ملايين النازحين قسريا والمهجرين. ؟ هل هذا الدم السودانى الذى اريق هناك لا يستحق التكريم بالانتظار لعدة اسابيع او أشهر؟ وهنا تبدو وصاية أخرى تصنع تصور مخل باى مشروع لبناء وجدان وطنى مشترك. وتسقط فيه قيم العدالة والحرية التى نادت بها الثورة نفسها. والذين يطالبون بالولاة المدنيين خلفا لولاة العسكر، فعليهم ان يعلموا ان الأزمة التي تعبر عنها قوى الهامش فى رفضها ما سميت بالمصفوفة هى ليست فى إجراء تعيين ولاة ولكن فى آليات التعيين والاختيار. فمن المعلوم ان قوائم الولاة تم الاعتراض عليها مرارا من قبل حمدوك ومن ممثلى الولايات أنفسهم. اذن العملية المخلة التى جرى بها اختيار الولاة من قبل قحت ، لن تخدم رغبات الناس فى التغيير، كما ان عملية استبدال الحكام العسكريين بمدنيين هو مطلب للجميع، لكن وصاية قحت فى هذه العملية هى التى سوف تقود الى كوارث فى الاختيار دون مشورة أصحاب المصلحة سوف تقود الى تشويه صورة الحكومة المدنية نفسها. والذين ينتقدون تطاول مفاوضات جوبا ربما يحتاجون الى تذكير بأن مفاوضات العسكر مع قحت استمرت اربع أشهر ونيف لمجرد وصول الثورة وحكامها الى القصر، فما بالك بحل أزمة حروب استمرت عشرات السنوات حرق آلاف القرى وشرد فيها الملايين.
ثم السؤال الاهم هنا ان كانت السلطة المركزية لحكومة قحت بهذا الحرص على الوطن وإكمال سلطاته الديمقراطية، فلماذا لا توافق على كل او معظم مطالب القوى فى الهامش شركاء الوطن والثورة فى وقت قياسي وتمهد الطريق نحو السلام وأيضا بناء السلطة الانتقالية وربما تتعامل النخب الحاكمة بمسؤولية لأول مرة فى تاريخها تجاه مصير الوطن المهدد من كل الاتجاهات؟ ولماذا توجه الأسئلة من البعض من قبيل لماذا تفاوض الحركات المسلحة ولا توجه الأسئلة الأخرى وهى لماذا لا تعطى حكومة قحت اخوتها فى الوطن حقوقهم وتسرع من إنهاء معاناة الملايين وتنهي عملية السلام؟ من الذى أعطى قحت مفاتيح السلطة وجعلها الوصية على الوطن، لكى تعطى من شاءت الشراكة وتفاوض من شاءت فى جوبا .؟ اذن خيارات الوصاية لنخب المركز الحاكمة هى وحدها المسؤولة عن كل هذا التأجيل وهذه الفوضي. بل ان الحكومة الغير قادرة الى الآن على حسم الكيزان وتوفير ابسط احتياجات البلاد وتصر على الاستفراد بالسلطة والراى وتحاول غلق الباب خلفها إنما تخون دماء شباب كان لهم امل فى وطن للجميع تحدوا الرصاص لأجله ولكن قيادتهم من مدعى الحكمة سوف يهدرون اخر فرص السودان فى السلام والتقدم، حيث ان قحت الخرطوم لن تستطيع ان تقفل عليها خرطومها، فإن سيول الغضب والتغيير القادمة لن تبقي منهم أحدا.
nawayosman@gmail.com