في وطن منقسم على نفسه تاريخيا وثقافيا وسياسيا، بدت الوحدة المصطنعة على مستوى الدولة المركزية كظلال لاساطير الأولين، لا يوجد في الواقع المعاش ما يسندها. ان الحديث عن الوحدة في حد ذاته إنما يعني أن المقابل، اي الانقسام أو الإنفصال هو واقع معاش. لأن المتضادات اللغوية والفلسفية تعرف بعضها وتؤكد عل وجود معكوساتها. إذن فإن واقع انقسام السودان هو الذي يفرض السؤال حول الوحدة وليس العكس. أي أنه ليس الانفصاليين كما يسميهم البعض هم الذين يهددون وجود الوحدة، بل أن الواقع الانفصالي المنقسم الموجود اساسا في السودان، هو الذي يشكك في وجود وحدة حاليا أو إمكانية وجودها مستقبلا.
السؤال المنطقي في واقع السودان المنقسم الذي لا يحتاج إلى أدلة على واقع انقساماته على كل المستويات، ليس لماذا يريد البعض الإنفصال، بل لماذا يصر البعض على وجود وحدة. ان هذه العملية العكسية في نقل أزمة السودان إلى كونها مصنعة في الهامش الذي يطالب بحقوقه هي إحدى أهم جدليات صناعة الوهم في السياسة السودانية على مستوى المركز. فالصورة المعكوسة للواقع التي يتم تشكيلها وتحويرها لكي تضع الآخر في موضع الشرير، هي بربوباغندا رخيصة لاستمرار سيطرة الدولة المركزية على توجهات السياسة المحلية ووعي المواطن في السودان. فعندما يطالب أهل الهامش بالمساواة ويتحدثون عن ما يعانون من تمييز يتم اتهامهم من قبل المركز بالعنصرية، في حين أنهم هم الذين يعانون من تلك العنصرية القادمة من المركز. وحينما يتحدث الهامش عن تقرير المصير أو حتى الإنفصال أو الاستقلال، يتهمون بأنهم انفصاليون، في حين أن الدولة هي التي تعاملهم وكأنهم لا ينتمون لهذا الوطن في الأساس وتنتهج ابادتهم كسياسة عامة للدولة. فأي وحدة تلك تحت قصف الطيران الحكومي واغتصاب الجيش و المليشيات.؟ عندما تقتل الدولة شعبها فإن الدولة نفسها لا يمكن أن تكون موجودة، بل هي مجرد مجموعات مصالح ذات سلطة وسلاح وموارد منهوبة في الغالب تستخدمها لحماية سلطتها الغير شرعية.
قبل أن يتم الحديث عن أي توجهات نحو التغيير السياسي، يجب أن يتم تغيير مفاهيمي في الأساس يضع الأمور في موازينها الصحيحة ويعترف بالواقع ويواجه المركز حقيقة أنه يحكم دولة منقسمة مفتتة، وأنه هو الذي قام بعملية التمييز العنصري والاقتصادي والأثني والسياسي الي درجة جعلت شعوب تلك المناطق المهمشة والتي هي أيضا مناطق الحروب، جعل تلك الشعوب تشعر منذ إنشاء هذه الدولة انهم لا ينتمون لها وأنهم ليسوا حتى مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة.
ومن هنا يبدأ النقاش، بالاعتراف والمواجهة اولا. لكن إذا استمرت حالة الهروب والانكار وتجنب المحاسبة، فإن مستقبل السودان المزهر سيكون الإنفصالات المتوالية ، اما المظلم فإنه مستقبل لن تكون فيه الوحدة ولا الإنفصال هما الخيارات المتاحة، بل الدمار والانهيار هي الخيارات التي لا ثالث لها.
عثمان نواي