MJH
مقدمة
بالنسبة للكثير من المراقبين لشئون الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال أصبح الأمر واضحا لا لبس فيه ولا غموض؛ فقد أصبح الأمر أشبه بحتمية مجيء عيد الفطر بعد انقضاء أجل شهر رمضان. فبالنسبة لهم، فإن الأمور في أسوأ احتمالاتها، تشير إلى أن المتوقع والأرجح هو أن الحكومة الانتقالية قد اتخذت قرارها بشن الحرب ضد الأراضي المحررة بالنيل الأزرق وجبال النوبة. بالنسبة للقوات التي ستشن هذه الحرب فإن أسوأ الاحتمالات وأقواها أنها سوف تتكون بصورة أساسية من الجيش والدعم السريع، لكن تحت عدة أقنعة كاذبة، منها القناع الأول بأنها قوات تتبع لمالك عقار وياسر عرمان اللذين لا يملكان أي أراضي محررة في أي بقعة في السودان وخارج السودان تسمح لهم بجلسة قُرْفُصاء للونسة، دع عنك إقامة معسكرات. وقد تزايدت مخاوف الحركة الشعبية عندما رجح لديها أن هذه كانت الخطة التي تم الاتفاق عليها مسبقا بين مالك عقار وياسر عرمان مع وزير الدفاع الذي توفي مؤخرا.
وراء الأكَمَةِ ما وراءها!
في يوم 10 مارس 2020م أصدر الجاك محمود، الناطق الرسمي باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان ــــ شمال وعضو وفد التفاوض (الحركة الشعبية أونقراوند) بيانا تم تعميمه على وسائل الإعلام شجب فيه تصريحات سابقة (النورس نيوز 3 مارس 2020م ــــ وهي نفس الوكالة الرقمية التي أوردت في فبراير 2020م خبرا غير صحيح مفاده عودة الحلو لمفاوضات جوبا، ذلك لأن وفد الحركة الشعبية لم يغادر جوبا حتى هذه اللحظة، بل إن وفد الحكومة هو الذي غادر عائدا للخرطوم دون إخطار) لياسر عرمان (الحركة الشعبية أونلاين) ذكر فيها عدة معلومات رأت الحركة أنها خاطئة وغير صحيحة، من قبيل نسبه لرئيس دولة الجنوب كلاماً يذهب فيه إلى أن هناك تنسيقاً سوف يحدث بين الحركة الشعبية أونقراوند والحركة الشعبية أونلاين. وتقرأ الفقرة (3) من البيان ما يلي: “تجدد الحركة الشعبية تأكيدها على أنها غير معنية في الأساس بأي اتفاق وقعته، أو ستوقعه مجموعة عقار وعرمان، ناهيك عن التنسيق”. ثم أصدر الناطق الرسمي للحركة الشعبية وعضو وفد التفاوض كوكو جقدول بياناً جاء فيه:
“لا شك أنكم تتابعون الخطوات الجارية فيما يتعلق بالعملية السلمية بين حكومة الفترة الانتقالية لجمهورية السودان، وما يسمى بالحركة الشعبية (مجموعة مالك عقار)، والترتيبات الأمنية الجارية حالياً لتنفيذ اتفاق الملف الإنساني. وعليه نود أن نلفت انتباهكم إلى بعض الحقائق بخصوص ما يجري حالياً:
أولاً: كما تعلمون إن ما يُسمّى بالحركة الشعبية / الجبهة الثورية لا تُسيطر على أي أراضي في جبال النوبة / جنوب كردفان ــــ وفي إقليم الفونج / النيل الأزرق تتحرَّك في مناطق داخل أراضي دولة جنوب السودان وفي بعض المناطق التي تُسيطر عليها الحكومة السودانية. فلا يمكن أن تمنح الحكومة أراضي لمجموعة مالك عقار وتفاوضها في نفس الوقت فهذه مهزلة.
ثانياً: يتم تنفيذ اتفاق الملف الإنساني حالياً في مناطق الحكومة في محلية القوز (النيلة ـــ النبقة ـــ كركورّة ـــ مناقو ـــ السُنجكاية) ومنطقة المِدِر (في مقاطعة المابان بجنوب السودان)، وهي مناطق تُسيطر عليها الحكومة ولم تكن جُزءاً من الحرب، والوساطة تعلم ذلك. ويحدث ذلك بالتّزامن مع حشود وتحرُّكات عسكرية في عدة مناطق خاصة في كادقلي وأبو جبيهة [جبال النوبة]، وحشود لقوات الدعم السريع في منطقة قوز ضُلمة وحفير التبيلاب بإقليم الفونج (النيل الأزرق). وهذه الخطوات تقدَح في مصداقيّة العملية السلمية الجارية الآن في منبر جوبا التفاوضي وتشكِّك في نوايا الحكومة السودانية ورغبتها في تحقيق السلام في السودان …”
بعد هذا توالت المقالات والبيانات من عدة أفراد وجهات تستنكر ما رأته على أنه تنكّب من جانب الحكومة السودانية لعملية السلام. من بين أهمّ ما كُتب، ذلك البيان الذي صدر في يوم 30 مارس 2020م عن إمارة الأجانق الذي حذّرت تحت عنوان (الموضوع: رفض واستنكار) مما يجري في المنطقة. وقد جاء في ذلك البيان ما يلي: “… سبق أن تقدمنا بخطاب للأخ رئيس لجنة أمن محلية الدلنج، رافضين قيام ما يسمى بمعسكرات النزوح أو التدريب بمحلية الدلنج، تحت مظلة الحركة الشّعبية شمال جناح مالك عقار حيث أن محلية الدلنج تمثل رمز السلام والتعايش السلمي حيث ظلت طيلة فترات الحرب منذ عام 1984 منطقة تعرف بتماسك مجتمعاتها رغم تعدد إثنياتها واختلاف ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها. عليه نجدد رفضنا واستنكارنا لقيام مثل هذه المعسكرات …”. بعد هذا قام البيان بطرح عدة نقاط جاء منها ما يلي تحت الترقيم أدناه:
2) نكرر رفضنا لقيام أي معسكر وتحت أي مسمى بهذه المنطقة وخاصةً في هذا الوقت التاريخي الذي نتطلع فيه إلى بذوغ فجر السلام والأمن.
3) إن تمسك الحركة الشعبية جناح عقار قيام المعسكرات بهذه المنطقة بمنطق أن هذه المناطق تتبع لهم هذا الادعاء عارٍ من الصحة، وإننا كمكوك قبيلة الدلنج وبحكم تمثيلنا لهذا المجتمع العريض نرفض ونشجب هذه الادعاءات المضللة والتي لا تمثل الحقيقة في شيء بل إنها تدفع المنطقة كلها إلى منطق الصراع المسلح وهذا مرفوض لدى كل مجتمع المحلية.
4) كيف يفسر قيام معسكرات في مناطق تابعة للحكومة، هل تنازلت الحكومة تجاه مسئولياتها بهذه المنطقة ومواطنيها؟
هذه الخطوات التي يفترض بأنها قد اتُخذت بالتنسيق مع الحركة الشعبية أونلاين والحكومة السودانية يثير العديد من الأسئلة، ذلك إذا ما رجعنا إلى الوراء قليلاً واسترجعنا تصريح ياسر عرمان بتاريخ 18 مايو 2018م “… الكفاح المسلح ليس آلهة لتعبد، بل وسيلة لتحقيق أهداف سياسية بعينها … حركتنا قد انتقلت من الكفاح المسلح إلى النضال السلمي الثوري الذي يرمي للتغيير الجذري في المركز”. كان ذلك عندما فقد الثنائي عقار/عرمان موقعيهما داخل الحركة الشعبية بُعيد انعقاد المؤتمر الاستثنائي في أكتوبر من عام 2017م بكاودا داخل الأراضي المحررة وبالتالي لم يبق لهما غير أن يعوِّلا على خطة الهبوط الناعم التي كانت أحد أسباب إقالتهما في الأساس. لقد أرادا أن يسوقا الحركة الشعبية نحو الهبوط الناعم ليس فقط دون مراجعة فكرية وسياسية مقنعة، بل عمَدا أيضا إلى استغلالها، وما كانا يعلمان بأن الوعي الثوري داخل الحركة يقف لهما بالمرصاد. وعلى أي حال فقد فُهمت تصريحات ياسر عرمان المشار إليها أعلاه على أنها تنسجم مع خطته في التصالح مع نظام الإنقاذ عبر الهبوط الناعم – هذا حتى لو جاء موقفه ذلك دونما أي مراجعة. فمن يقول مثل هذا دون مراجعة فكرية يُعتد بها، أو على أقل تقدير تحوز على الاحترام فيما يتعلق بالانتقال من الكفاح المسلح إلى الكفاح المدني، مكتفيا بالتصريحات الصحفية، يسهل عليه أن يزعم مرة أخرى رجوعه لخانة حمل السلاح دونما أيّ مراجعة أيضا، حتى لو كانت هذه الرُّجعى زائفةً كذوبا. فالقفز على فروع القضايا كالعبلانج دون أن يستقرّ على أحدها هو سمة من فقد الفكر والمبادئ معاً. ما يجعلني أقول هذا ما صرَّح به ياسر عرمان (جوبا الأحد 29 مارس 2020م) في مقاله الذي أبَّن فيه وزير الدّفاع المرحوم جمال الدين عمر (في وداع الفريق أول ركن/ جمال الدين عمر محمد إبراهيم: أيُّ طريقٍ سَتَخْتَارهُ القُوّات المُسَلحة؟). في هذا المقال، في معرض استرجاعاته لحواراته مع المرحوم وزير الدفاع قبيل رحيله، يقول ياسر عرمان: “… وفي منطقة أولو حينما اجتمعنا مع الرفيق القائد مالك عقار وإسماعيل جلاب وأحمد العمدة كان تقييمي له [للمرحوم وزير الدفاع] بأنه شخص يمكن الوصول معه لاتفاق ولتفاهم حول قضايا الترتيبات الأمنية وأنه جاد وصريح …”. لا تهمّنا هنا وجهة نظر ياسر عرمان حول المرحوم وزير الدفاع، بل إشارته لمنطقة “أولو” التي هي مربط الفرس هنا، ذلك بوصفها من الأراضي المحررة. وهنا نحن أيضاً لسنا بصدد تفنيد أو تأكيد أنها أرض محررة أم لا. لكن إشارته هذه تؤكد أن الحركة الشعبية أونلاين قد دخلت مرحلة جديدة حيث أصبحت لها أراضي محررة، بصرف النظر عما إذا كانت هذه الأراضي تقع تحت سيطرة الجيش السوداني أو جيش جمهورية جنوب السودان. وفي هذا تأكيد لكل ما ظلت تقوله الحركة الشعبية أونقراوند بخصوص تحضير الخرطوم للحرب واستعمالها لمجموعة عقار/عرمان كمخلب قط، ذلك لأنه لا يمكن للحركة الشعبية أونلاين أن تقيم لها معسكرات تحت إشرافها داخل المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوداني، أكانت للأغراض العسكرية أو الإنسانية، دون تنسيق تام مع الجيش السوداني – هذا إذا لم يكن ذلك بإيعاز منه. وهذا ما سوف نتناوله في المقال أدناه.
كل هذا، وأكثر منه، تناقلته الأسافير وشبكات الأثير دون أن تحرِّك ساكنا في القطاعات التي يفترض أنها لا تنتمي لقوى الطائفية أو الحركات الدينية الاستغلاقية، أي إجمالا لقوى الرجعية التي تنتمي بالأصالة للأيديولوجيا الإسلاموعروبية. وهذا لا تفسير له عندنا بخلاف أن هذه القطاعات هي في حقيقة أمرها تشكل الخلايا النائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبية. وهذه أشدُّ خطرا من القوى التي استقرَّ أمرُها على الأيديولوجيا الإسلاموعروبية بالوااااضح والمكشوف؛ ومردُّ خطرها إلى أنها ترفع في الظاهر شعارات السودان الجديد، بينما هي في حقيقة أمرها تعمل بكل ما تملك لتدمير هذا المشروع النبيل. فإذا كان هذا كهذا، فإنه يكشف المسافة الطويلة التي يتوجب على قوى السودان الجديد أن تقطعها من حيث مواجهة قوى الصف الأول للأيديولوجيا الإسلاموعروبية من جانب، ثم العمل علي “فرز الكيمان” داخل صفوفها بتمشيطها لعزل هذه الخلايا النائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبية. في هذا يُحمد للحركة الشعبية لتحرير السودانonground وعيها الثوري العالي إذ تصدت لهذه المهمة الجراحية الضرورية وهي تعيش تحت مطر الرصاص والقنابل المتفجرة. إذ إن في هذا الإطار ينبغي النظر إلى عزل وفصل الرفيقين القياديين سابقا مالك عقار وياسر عرمان. وها هي الأيام تُصْدق حقيقة الوعي الثوري العالي والقدرة على اتخاذ القرارات المصيرية الجراحية، وها هما الرفيقان السابقان يواجهان الآن تحديَّ أن يثبتا لجميع قوى السودان الجديد ما إذا كانا ينتميان في أعماق دواخلهما للأيديولوجيا الإسلاموعروبية، وأنهما قد باعا نفسيهما للشيطان، أم لا تزال فيهما ذُبالةٌ واقدةٌ من شمس السودان الجديد التي لا محالة سوف تذهب بليل السودان القديم!
سيناريو الحرب القادمة وتحوطات الحركة الشعبية أونقراوند
بحسب البينات المقدمة أعلاه، وبحسب هؤلاء المراقبين، فإن السيناريو المتوقع لهذه الحرب هو أنها سوف تبدأ في النيل الأزرق بدعم إماراتي سعودي ومصري، ثم بعد ذلك تنتقل إلى جبال النوبة. والغرض منها هو القضاء نهائيا على الحركة الشعبية الحقيقية التي تقف على أرجلها في الأراضي المحررة، مسنودةً بإرادة شعبها التواق لفجر الخلاص بتحقيق مشروع لسودان الجديد. وسوف يتم عكس هذه الحرب، حرب الوكالة القذرة، على أنها نزاعات داخلية على الأراضي المحررة بين فصيلين متنازعين داخل الحركة الشعبية (القناع الأول)، هذا بينما هي حرب تدور بين الجيش السوداني ومليشيات الدعم السريع (القناع الثاني) بالوكالة عن محور الشر الثلاثي (القناع الثالث)، وهؤلاء بدورهم بالوكالة عن الإمبريالية العالمية (الوجه الحقيقي).
الآن الجميع يعلم أن عبد العزيز الحلو قد غادر جوبا إلى الأراضي المحررة، ثم لحقه عمار آمون، السكرتير العام ورئيس وفد التفاوض. فقد انتظرا وانتظرا رد الحكومة على آخر الاقتراحات التي تقدمت بها الحركة الشعبية عبر الوساطة والتي تنازلت فيها عن تسمية “السودان دولة العلمانية” (مقابل تقرير المصير للمنطقتين) واستبدلتها بجملة “السودان دولة تقوم على فصل الدين عن الدولة” (مقابل تقرير المصير للمنطقتين). فحتى الآن انقضى ما يقرب من الشهر منذ أن قامت الحركة الشعبية بتقديم مقترحها هذا دون أن تكلف الحكومة الانتقالية نفسها بالرد إن سلبا أم إيجابا. ليس هذا فحسب، بل انطلقت مجموعة من الأقلام المأجورة لتنشر الأكاذيب بادعاء أن وفد التفاوض عن الحركة الشعبية قد غادر جوبا تهربا من جلسات التفاوض. إذن فهذه كلها عبارة عن مضيعة للوقت! إذا كان الأمر كذلك، إذن، بالنسبة لعبد العزيز الحلو وعمار آمون، فلا داعي للمكوث في جوبا ولو ليوم آخر. ومن قبلهما بشهور كان نواب عبد العزيز الحلو، جوزيف تُكَّة (النائب الأول) وجقود مكوار (النائب الثاني) قد غادرا جوبا إلى الأراضي المحررة، الأول إلى قواته بالنيل الأزرق، والثاني إلى قواته بجبال النوبة. ولكن رغم كل هذا، لا يزال وفد التفاوض بكامل عضويته، بخلاف رئيسه (السكرتير العام للحركة الشعبية)، يرابط في جوبا انتظارا لقطار ربما لن يأتي أبدا.
حكومة حمدوك: الحالمون الذاهلون في مواجهة الغرب المتوحّش
هذا هو الوضع على حقيقته، هذا بينما لا يزال هناك حالمون، واهمون، داخل قوى الحرية والتغيير يتكلمون عن أكيد رغبتهم لتحقيق السلام الذي لم يكن بالمرة هدفا لهذه الحكومة، بعسكرييها، المتحالفين مع دول محور الشر ولو كان هذا ضد مصالح السودان وشعبه، ولا بمدنييها الذين أضافوا، من ضربة البداية، إلى ضعفهم وانعدام الكفاءة الفنية، هذا بجانب غياب العزيمة لتحقيق السلام المنشود.
وهكذا تدخل النخبة التي تشكل قوام المركز بالسودان في نفق آخر من أنفاق فشلها المقيم. وهكذا يُخضعون السودان مرة أخرى لتجارب معامل القوى الإمبريالية التي تخطط لتفتيت السودان. وفي الحقيقة لا يمكن أن تُلام أي جهة، إقليمية أو دولية، تخطط للاستفادة من تدهور الوضع في السودان، ذلك طالما أن السودانيين قد عجزوا عن أن تجتمع كلمتهم على مشروع وطني نهضوي، به يصونون وحدة أراضيهم، ثم به يلحقون بركب الأمم الناهضة. فالغرب كانت له خطته (أ)Plan A التي انبنت على احتمال نجاح عبدالله حمدوك في الخروج بالبلاد إلى بر الأمان وتفكيك دولة الإنقاذ الدينية والقضاء نهائيا على البنية الطفيلية والإرهابية للدولة التي قام نظام الإنقاذ بتكريسها على مدى ثلاثين عاما. وعندها كان الغرب، ممثلا في أمريكا والاتحاد الأوروبي، يخطط لعقد تحالفات إستراتيجية مع دولة السودان الوطنية الديموقراطية العلمانية. في حال فشل عبدالله حمدوك في تحقيق هذا، فعندها سوف يتحول الغرب فوراً إلى الخطة (ب) Plan B، وتعتمد على سيناريو تفكيك السودان إلى دويلات. هذا السيناريو يقوم أساسا على إدخال البلاد في جولة أخرى من الحروب الأهلية التي سوف تقف كدليل دامغ على فشل النخبة في السودان على إدارة أوضاع بلادهم لدرجة أن يشكل السودان، بأوضاعه المتفجرة، خطرا على نفسه وعلى السلم الإقليمي والدولي. وهنا سوف يستفاد من فظائع الحرب التي مم المؤكد أن عدسات العولمة ووسائل التواصل الاجتماعي ستعكسها في أيما مكان يمكن أن تقع فيه، ومن ثم تقوم ماكينة الإعلام الغربية بالتركيز عليها، من قبيل ما رأيناه في أحداث دارفور عندما كان الغرب يريد أن يشغل الرأي العام العالمي بفظائع ما يدور في العراق عندها جاءت أخبار الإبادة ومجمل الجرائم ضد الإنسانية في دارفور كمنقذ للغرب. وما إن انصرف اهتمام العالم عن أحداث العراق حتى انصرف الغرب بدوره عما يحدث في دارفور التي لا تزال الأوضاع فيها تعاني من الإبادة والتهجير القسري والقتل الجماعي وحرق القرى … إلخ مما نعرفه ونعايشه صباح مساء منذ عام 1994م وحتى اليوم.
سوف يقوم الغرب بإطلاق يد دول محور الشر لإقحام السودان مرة أخرى في أتون الحرب الأهلية التي، وإن لم تتوقف تماما، إلا أنها الآن تمر بفترة وقف لإطلاق النار في ظل أشواق الثورة الشعبية العارمة للسلام. كيف سيحدث هذا؟ الجميع يعلم أن ما يزيد من 80% من مياه النيل تأتي من النيل الأزرق ويعني هذا أن انفصال الجنوب لم يؤثر كثيرا على موقف مصر المائي. ولكن الآن في ظل الصراع الدائر بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة، مقروءا مع مطالبة الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بحق تقرير المصير لإقليمي جبال النوبة والنيل الأزرق، فهذا، في حال حدوثه، يعني احتمال بروز دولة جديدة على النيل الأزرق تقع بين دولة السودان القديم ودولة إثيوبيا ومن المتوقع أن تطالب بنصيبها في مياه النيل. وهذا ما يمكن استغلاله بسهولة في ظل حكم عبد الفتاح السيسي المتشكك أصلا تجاه السودان، بجانب الحاجة الماسة لدولتي الإمارات والسعودية للهيمنة على الأوضاع في السودان بوصفه مصدرا للجنود المرتزقة ثم الذهب.
التّاريخ يعيد نفسه
وهكذا يثبت لنا التاريخ، المرة تلو الأخرى، أن دول المنطقة ليست سوى أحجار على رقعة شطرنج. فلننظر ولنتأمل كيف ستشعل الدول الغربية هذه الحرب لتقسيم السودان. فهي لا تملك عصا موسى، لكنها تعرف كيف تستغل الأوضاع الهشة في بلادنا ومنطقتنا التي صنعتها الرؤية الضيقة، بل صنعها انعدام الرؤية اللازمة لإحداث وتحقيق النهضة. فمصر إذا شاركت في هذه الحرب القادمة، فإنها ستفعل ذلك من باب حرصها على أمنها المائي الذي يتراءى لها في ضرورة الحيلولة دون بروز دولة جديدة على النيل الأزرق منقسمة عن السودان. ولكنها بهذا إنما تكون قد وقعت، ليس فقط ضحيةً للمخططات الرامية إلى قيام وبروز هذه الدولة الجديدة، بل وتكون قد شاركت بصورة أساسية في بروز هذه الدولة الافتراضية بفضل غياب الرؤية الإستراتيجية. فهي بدلاً من أن تضغط في اتجاه دعم التيارات المنادية بضرورة استعادة الدولة السودانية لعلمانيتها حتى تتحقق دولة المواطنة الحقة، وهو ما يتسق وموقفها المناهض للحركات الدينية، وبذلك تكسب رضا الشعب السوداني، وتحقق هدفها المرتبط باستقرار الأوضاع في السودان – بدلاً من أن تفعل هذا، إذا بها تفضل استغلال هشاشة الأوضاع بغية اكتساب نقاط على حساب السودان وعلى حساب مصالحه العليا وعلى حساب الاستقرار فيه. فما هي النتيجة؟ إنها بروز دولة جديدة على النيل الأزرق! أي عين ما تسعى مصر للحيلولة دون تحققه!
أما إذا جئنا للإمارات والسعودية فالموقف أسوأ وأضل سبيلا! فهاتان الدولتان تنتميان إلى مرحلة ما قبل الدولة الوطنية التي تأسست بموجب اتفاقية ويستفاليا عام 1648م؛ أي أنهما بنيويَّاً متخلفتان عن هذا العصر بما مقداره 400 عام على أقل تقدير. ومع هذا فإنهما تتدخلان في شئون دول وطنية بالوكالة عن الإمبريالية العالمية ممثلةً في أمريكا والغرب بصورة عامة. وقد أصبحتا (مع دول أخرى بالمنطقة تشترك معها في خاصية تخلفها عن الدولة الوطنية) تعانيان من تضخم الذات بسبب الموالاة للغرب والاحتماء به، بجانب تراكم رأس المال الريعي البترولي فيها. ولكن تكمن خطورة هذه الدول في أنها، بحكم تخلف عقليتها الحاكمية، تتعامل مع القضايا السياسية الضالعة فيها بنفس العقلية التي أدارت بها عملية قتل الصحفي جمال خاشوقجي، وبنفس العقلية التي خططت للتخلص من جثته. ولهذا هم لا يرون أبعد من أرنبة أنوفهم، وهذا هو ضرورة السيطرة على الأوضاع في السودان لضمان استمرارية الارتزاق العسكري ولو كان ذلك على حساب تماسك الدولة. فهم لا يعرفون ما هي الدّولة الوطنية حتّى يعرفوا ضرورة ضمان تماسكها.
ما الذي تغيّر؟ فالإنقاذ لا تزال في مكانها!
أما إذا جئنا إلى العوامل الداخلية التي سوف تدفع نحو هذا الاتجاه، فليس أقل من الإشارة إلى أن نظام الإنقاذ لا يزال في مكانه عبر مؤسساته وعقليته وشخوصه ومنسوبيه. فهذه حقيقة لا يغالط ولا يزايد عليها إثنان الآن. فالعسكريون الذين يشاركون في مجلس السيادة هم أنفسهم امتداد لنظام الإنقاذ في أقبح صوره، ألا وهي اللجنة الأمنية. هذا بجانب التفكيك المنظم للجيش السوداني بتقوية جنجويد الدعم السريع على حساب الجيش والبوليس والأمن. أما إذا جئنا لقوى الحرية والتغيير، فليس هناك ما يمكن أن يقال من حيث فشلها في أن تكون جسماً ثورياً يعبّر عن الثورة ويعبرُ بها إلى برّ السلام. فتجمع المهنيين اليوم تسيطر عليه قوى الهبوط الناعم، هذا بجانب أنه يتشكل أساساً من قوى حزبية في غالبها الأعم ليست لها جماهير لدرجة أنها لو طُلب منها أن تجمع كل عضويتها في مكان واحد لما تمكنوا من أن يملأوا ميدان كرة قدم. أما الأحزاب ذات الجماهيرية فهي قوى الطائفية التي لا يوجد خطر يهدد التحول الديموقراطي أكبر وأقوى أثراً منها. فإذا جئنا للحكومة المدنية فهي أضعف من أن نسميها حكومة مدنية. هذا بجانب انعدام الرؤية عندها في أي قضية كان ينبغي حسمها تحقيقاً لشعارات الثورة. فهي اليوم لا تجد صفةً عادل ومقسطة يمكن أن نلصقها بها دون أن نتجنى عليها بخلاف صفة “الفشل”! وبالطبع، أثبتت مفاوضات جوبا أن هذه الحكومة لا علاقة لها بملف السلام، لا من قريب ولا من بعيد. فكيف لحكومة كهذه أن تقف كضمانة دون الارتداد لمربع الحرب الأهلية مرة أخرى؟ وسوف يكتب التاريخ عن حكومة حمدوك كيف أنها جاءت بوصفها حكومة ثورة شعبية مجيدة وغير مسبوقة، إلا أنها مع كل هذا قد عجزت عن أن ترتفع لأدنى مستوى ثوري يمكن أن يبرر تسميتها بحكومة ثورة. ليس هذا فحسب، بل سيسجل التاريخ كيف أن ما يسمى حكومة الثورة قد بلغ بها الذعر والخوف درجة أنها صرحت وبالفم المملوء أنها تؤمن بالعلمانية وتموت في سبيل العلمانية لكنها تخشى من لفظة “علمانية”. ولم يدر في خلدها أن الثوار لو كانوا يخافون ويخشون لما خرجوا يدكون حصون القهر كاشفين صدورهم لمطر الرصاص.
إذا كان هناك أي احتمال لعودة الحرب، إذن فلنستعد لها!
فهل بعد كل هذا يمكننا أن نستبعد اندلاع الحرب الأهلية وبصورة أفظع مما كانت عليه من قبل؟ وأن كل هذا سوف يمكّن الغرب المسستقوي بحكم وضعه الحالي في الضغط لاحقاً في سبيل إعطاء حق تقرير المصير للمنطقتين وربما لدارفور أيضاً وقفاً لقتل المدنيين وحرق القرى إلى آخر فظائع الحرب التي نعرفها جميعاً؟ ولماذا كل هذا؟ ببساطة لأن جائحة الأيديولوجيا الإسلاموعروبية قد تمكنت من عقول وقلوب قوى المركز فأعمت بصيرتهم وبصائرهم عن حقيقة بسيطة تعيشها كل دول العالم وكل شعوبه، ألا وهي أن الدولة الوطنية هي علمانية بنيويّاً. وهذا يعني ببساطة أيضاً أن علمانية الدولة البنيوية التي نعنيها ليست مذهباً يمكن للبعض أن يؤمن به بينما يمكن أن يكفر به البعض الآخر، بل هي شرط لازم من غيره لا يمكن للدولة الوطنية أن تصبح بحق وحقيقة دولة مواطنة. هذه حقيقة عمرها تجاوز الأربعمائة عام ولكن لا يزال هناك من يعيشون في هذا العصر دون أن يستوعبوا أبسط حقائقه. وهذا ما يمكّن أعداءنا التاريخيين (الإمبريالية العالمية) من السيطرة على مصائرنا. فالحقيقة التي لا يمكن أن يماري فيها العقلاء الأذكياء من ذوي البصر والبصيرة هي أن الدولة الدينية تفكك وتفتّت الدولة الوطنية ضربة لازم by default. فمن الذي يفكك السودان؟ من يطالبون بأن تستعيد الدولة علمانيتها البنيوية حتى تصبح دولة مواطنة تقوم فيها الحقوق على قيم المواطنة بلا تمييز على أساس العرق أو الدين أو اللون أو المعتقد … إلخ، أم الذين يخشون من لفظة “العلمانية” ويريدون أن يحتفظوا بالدولة الدينية؟
الاستعداد للحرب القادمة يكون بالعمل على عدم اندلاعها!
لا توجد أي قطاعات اجتماعية أو إثنية تضررت من الحروب الأهلية أكثر من الذين اكتووا بنيرانها أكانت هذه النيران قد باشرتهم من فوهة البنادق والرشاشات، أم كانت قد تنزلت عليهم كالمطر من السماء عبر القصف الجوي أو عبر البراميل المتفجرة. هذه القطاعات التي ذاقت ويلات الحرب من حيث فقدان الأحبة وفقدان المال والمتاع، المسكن والمعاش، ثم التغرب عن الوطن، داخل الوطن وخارجه، هي التي سوف تعاني مرة أخرى في حال اندلاع هذه الحرب غير النبيلة. ولذا ينبغي أن تتضافر جهود جميع الوطنيين لتكذيب هذه الشينة بالعمل الدؤوب، لا بالتمنِّي. ثم أخص من بين جميع قطاعات الشعب السوداني ذلك القطاع الألمعي، قطاع الذين آمنوا بمشروع السودان الجديد ودفعوا في سبيل ذلك كل غالٍ ونفيس، أن يخرجوا للناس بغرض توعيتهم وكشف كل المخططات التي تستهدف السلم في بلادنا بقدر ما تستهدف التحول الديموقراطي فيه. على جميع القوى الوطنية التي شاركت في الثورة الشعبية المجيدة التي أطاحت بنظام الإنقاذ سيء السمعة أن تشمِّر عن ساعد الجد لإجهاض أي احتمالات لعودة الحرب. إذ يكفي بلادنا أنها سلخت أغلب سنوات الاستقلال في الحروب الأهلية. وفي هذا الصدد لا نملك إلا أن نشيد بالخطوة التي اتخذتها مؤخرا الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بتمديد وقف إطلاق النيران ووقف العدائيات لثلاثة أشهر قادمة.
في الختام لا نملك إلا أن نقول كما قال الفيتوري: قلبي على وطني!
MJH
6 April 2020
Khartoum