ترويها _ صوت الهامش
قٌرى كانت تعج بالحياة والحركة، ومكتظة بالسُكان، في أوقات ماضية أصبحت بين يوم وليلة نسياً منسية، وباتت تلك المناطق ذكرى يرددها أهلها الناجين من “المحرقة” المتواجدون الآن في معسكرات اللاجئيين السُودان بدولة تشاد، لايملكون غير إجترار الذكريات، وذرف الدموع على ماضي مظلم عاشوه، فقدوا فيه الأحبة والوالد والوالدة والأبناء والأخوان، في حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، التي شنها النظام “البائد” والمليشيات المُتحالفة معه في إقليم دارفور .
الحرب الشعواء التي إستهدفت دارفور قضت على كثير من معالم الحياة، مئات القرى هجرها ساكنوها، الآلاف منهم فارقوا الحياة، وما تبقى منهم قطع مئات الكيلو مترات حتى وصل للأراضي التشادية، التي أوتهم دون قيد أو شرط، واحدة من تلك القرى التي أبيدت من الوجود قرية “ينمرا” شمالي منطقة “الدور” بولاية شمال دارفور، لم يتبقى منها سوى الأطلال وأثار بأن هُنا في يوم ما كانت توجد منطقة مأهولة بالسُكان تحولت إلى رُكام.
ذكريات أليمة
على مد البصر وفي الطريق الرابط بين مدينة “كُتم” شمالي دارفور، وصولاً للحدود السُودانية التشادية ،كانت ترقد المئات من القرى، تدب فيها الحياة والحركة، قبل أن تشتغل الحرب، ويفر سكانها من نجا منهم،”الهادي المنا” وهو أحد الناجين من حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في إقليم دارفور، كُلما أتت سيرة الحرب،وحرق القرى بعد قتل سكانها ونهب ممتلكاتهم يذرف الدموع، مستذكراً تلك المعاناة التي عاشها أهله في بدايات الحرب التي شنها النظام البائد .
لم يتمالك المنا نفسه وهي يرى قريته “ينمرا” لم يتبقَ منها سوى أطلال المنازل المحروقة، توقف عند منزله الذي قال بأنه ولد فيه ونشأ وترعرع قبل أن يغادر إلى مدينة الفاشر من أجل التعليم بدايات الأزمة، سجد الهادي لله ودعا لأهله الذين قتلوا بالرحمة والمغفرة منادياً بالقصاص لهم وتسليم الرئيس المخلوع عُمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية ليحاكم بتهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي .
تسليم البشير ومعاونيه للمحكمة الجنائية بدأ واضحاً أنه شرط ومطلب أساسي لدى كل اللاجئيين السُودانيين المتواجدين في مخيمات شرق تشاد، لجهة أن العدالة يجب أن تشمل كل من إرتكب جُرماً في حق مواطني دارفور وعلى رأسهم الرئيس المخلوع عُمر البشير،وكافة معاونيه.
حُزن وبُكاء
مشهد مؤثر والعائد “الهادي” يتفقد آثار منزلهم الذي سوته الطائرات الحربية مع الأرض،ولم يتبقَ منه سوى اثر يحكيه وهو أفراد أسرته، الحياة وفقاً للهادي في تلك المناطق رغم بساطتها الا أنهم كانوا في غاية السعادة متعايشون مع بعضهم البعض، قبل أن تنهي الحرب أحلامهم، وتفرق شملهم .
وقال لـ”صوت الهامش” من قرية “ينمرا” “الرحمة والمغفرة للشهداء ويشفي الجرحي ، أنا اليوم حزين في غاية الحُزن ويغلبني التعبير،ولدت في هذا المنزل وتربيت فيه، عشنا طفولتنا هنا والمنطقة كانت تعج بالحياة،والمواطنون كانوا يعيشون في أمان وسلام وتراحم وتوادد الي أن أتت الحرب التي اطلقها المجرم عمر البشير والمليشيات المتحالفه معه،وقاموا بتفريق شمل الناس منهم من مات ومنهم من نجي يعيش في مخيمات النازحين في داخل السُودان ومعسكرات اللجوء في دولة تشاد”.
ويحكي المنا وهو يغالب دموعه لـ”صوت الهامش” “اتيت إلي هُنا قريتنا وتفقدت منزلنا ولم أجد فيه أسرتي وأهلي وعشيرتي الذين نزحوا وتفرقت بهم السُبل بسبب الحروبات اللعينة،حرب النظام البائد،وجدت القرية بهذه الكيفية عبارة عن أطلال،أديت ركعتين شكراً لله ودعوة لمن مات منهم بالرحمة والمغفرة،وتدمير من قتلهم وتسبب في تشريدهم وأجبرهم على الفرار” .
وأضاف العدالة لأهلنا هي مطالب أساسية لا تنازل عنه،مبيناً أنه يجب أن يقدم كل من أجرم في حق الشعب السُوداني ودارفور على وجه الخصوص للعدالة.
فقد الأحباب
ويستذكر المنا،عندما قُصفت القرية بالطائرات الحُكومية،وتلاها الغزو البري للجنجويد الذين قاموا بحرق ما تبقى من منازل ونهب الممتلكات والأنعام والمحاصيل الزراعية بجانب أموال نقدية وبضائع كانت في الأسواق، وتابع قائلاً “تلك لحظات صعبة للغاية وعاش أهلنا ظروف قاسية ومريرة وقطعوا مئات الكيلومترات حتى وصلوا لمناطق آمنة” .
وكشف عن فقدانه لابن عمه يُدعي “محمد ادم حسين” تم إلقاء القبض عليه بواسطة الأجهزة الحكومية بعد القصف مُباشرةً، مضيفاً “أنه قبض عليه حياً، ولكنه أخفي ولا يعلمون عنه شئ حتى الآن” وزاد بقوله”محمد آدم قبض من هذه القرية وتم ترحيله إلى جهة ماء ولا ندري أين هو الآن،مختفي منذ العام 2003 لانعلم ما إذا كان هو حي أو ميت”
لدى الهادي أمل في أن يعود من فر من هذا المكان يوماً ما إلى ديارهم، عقب التوقيع على إتفاق السلام، وإستتباب الأمن للبدء في مرحلة جديدة لإعمار ما دمرته الحرب، ويشترط طرد المستوطنين الجُدد، والذين إستولوا على أراضي وحواكير غيرهم دون وجه حق، مبينا أن تلك شروط كل ضحايا الحرب المتواجدون الان في معسكرات النزوح واللجوء.