إنّ الطريق الموصل إلى ألدولة و الحكومة المدنية في السودان محفوف بالمخاطر ومزروعة فيه الألغام , خاصة و أن استحواذ الحكم العسكري على معظم سنين الدولة الحديثة , والذي مثلت نسبته ما يفوق الثمانين بالمائة , إضافة إلى أن أجهزة أمن الحكم البائد لم تزل جاثمة على صدر البلاد , ومؤثرة على مجريات الأحداث , وما فتئت تتسيد المشهد العام حتى يومنا هذا , فعلى الرغم من أن الثورة الشعبية العارمة قد قامت باجتثاث رأس النظام واقتلاع أركانه الأخرى , إلا أن مؤسسة الأمن و المخابرات ما زالت تزاول نشاطها , وكما هو معلوم فان إدارة إقتصاديات منظومة البشير كانت تقوم بتدابير شئونها هذه المؤسسة الأمنية , حتى حملات التجسس و الإستخبار الالكتروني (كتائب الجهاد الالكتروني) واستهداف النشطاء السياسيين لم تتوقف , بل نشطت هذه الحملات في إثارة الكراهية والتفرقة العرقية بين مكونات المجتمع , مستفيدةً من إرهاصات فض الاعتصام الذي مازالت تشوبه الكثير من الشوائب , وتدور حوله الاستفهامات والأسئلة التي لم تجد لها إجابة.
لقد سبق وأن أبدينا ملاحظاتنا حول تواضع قدرات وكفاءة مفاوضي قوى الحرية و التغيير , مقابل ما يتمتع به العسكريون وأنصارهم من حرس النظام السابق من تجارب سابقة , ذلك لانهم خاضوا فعاليات مماثلة من مماحكات التفاوض الذي خبروا دروبه , هذا الفارق الكبير في الخبرات التفاوضية والتآلف مع روتين عمل مؤسسات الدولة , هو ما أنتج الوثيقة الهزيلة للاتفاق حول الاعلان السياسي , التي ضمنت واعتمدت اقتسام مقاعد مجلس السيادة بين المجلس العسكري الانتقالي و قوى اعلان الحرية و التغيير النصف بالنصف , وهي الوثيقة التي ثبّتت حقيقة قيادة المجلس العسكري للمرحلة الأولى من فترة الحكم الانتقالي , الأمر الذي يمثل النقطة الجوهرية التي تعتبر الهدف الأول المحرز في شباك ومرمى قوى الحرية و التغيير , أما الهدف الثاني يتجسد في قبول جماعة الحرية و التغيير بحصة النصف للتمثيل السيادي الذي سوف يدخلون فيه , ومعهم جميع مكونات القوى المدنية والقيادات العسكرية الحاملة للسلاح , في هذا السباق التنافسي حول حصتهم الشحيحة أصلاً والمتمثلة في مقاعدهم الخمسة التي لا تفي بآمال وتطلعات كل القوى المدنية.
لقد كان من باب الانصاف أن يعمل مفاوضو الحرية و التغيير , على ضغط المجلس العسكري الانتقالي واقناعه لاشراك القيادات العسكرية التي حملت السلاح في وجه النظام السابق في حصته من هذه الكوتة الخماسية , وأن يكون نصيب المدنيين ومقاعدهم الخمسة حصراً على المدنيين , وعلى القوى السياسية المتحدثة باسم إعلان الحرية و التغيير , التي من حيث لا تدري أثقلت كاهلها بمهمة قيادة مفاوضات أخرى , لإلحاق العسكريين و المدنيين من الجبهة الثورية بالمجلس السيادي , المزمع اعلان مكوناته ضمن الوثيقة الدستورية القادمة , فلو أن قوى الحرية و التغيير تركت هذا العبء الثقيل للمجلس العسكري و للمبادرة التي قادها نائب رئيسه من قبل , عندما التقى الأمين العام لنداء السودان بانجامينا , لكفت قوى إعلان الحرية نفسها شر القتال.
إنّ قيام المهندس عمر الدقير و فريقه الزائر لأديس أبابا بهذه المهمة الوطنية والسياسية العظيمة , التي تعتبر في الأساس من صميم عمل المجلس العسكري , ومن اوجب واجباته باعتباره الممسك بالمقود , هذه البادرة ستفتح الباب واسعاً أمام المجلس العسكري للعب دور المراقب الشامت , والغريم الساعي إلى استثمار كل الخلافات التي تطرأ بين هذه الأطراف وتوظيفها لخدمة اجنداته , و ليس ببعيد عن الأذهان ما حدث يوم أمس من مضايقات مؤسفة تمت بحق رئيس حركة العدل و المساواة , ضلعت فيها العديد من الجهات الأمنية والمخابراتية , فرأينا كيف استهلكت الآلة الإعلامية للمنظومة العميقة لنظام المشير هذا الحدث.
لقد غلب على مفاوضي قوى الحرية و التغيير الحماس الثوري الزائد , فاهملوا التكتيك السياسي في تعاطيهم مع المجلس العسكري , و تحملوا المسؤولية الوطنية و (الهيدك) لوحدهم , دون أن يشركوا الفاعل الثاني (المجلس العسكري) الذي أدى دوراً فنياً ملحوظاً في اتمام عملية التغيير الثوري , إذ كان على قوى اعلان الحرية و التغيير أن لا يدعوا المجلس العسكري ينام مرتاح البال , ليخلف رجل على الأخرى حتى يأتوا هم إليه بالحلول الجاهزة , فمثل هذا السلوك سوف يجعل العسكريين من عضوية المجلس السيادي , يمارسون دور الاستاذية على الأجهزة المدنية الدنيا بعد استكمال مشروع الوثيقة الدستورية.
ومن تحديات إنجاز مؤسسات الحكم المدني أيضاً , هذه الاختلافات الكثيرة حول الرؤى للقوى المدنية ذات نفسها , وتعدد منابرها و كثرة اجنداتها و تنوع أهدافها , فمثلاً , تجد تقوقع عبد العزيز آدم الحلو و تلويحه بعصا تقرير المصير من وقت لآخر من جهة , و تمحور عبد الواحد محمد نور حول أجندة نزع سلاح الجنجويد من الجهة الأخرى , فهما يمثلان الضلع الثالث والصعب المراس من اضلع مثلث المعارضة السودانية , الذي استعصى على النظام السابق أن يروضه أيما استعصاء , فلم تفلح جهود نظام المشير حتى في مجرد احضار الرجلين الى طاولة المفاوضات.
اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com