*متوكل عثمان سلامات*
*مدخل:*
صمت الأجداد المؤسسون للدولة السودانية بعد خروج المستعمر عن الإجابة على حزمة من الأسئلة، وعندما حاولو الإجابة عليها كانت كل الإجابات خاطئة، لذا مازلت الأسئلة القديمة متجددة، كيف يحكم السودان؟، ماهي هوية الدولة السودانية؟، ما هي طبيعة الدولة السودانية؟ وغيرها.
عدم الإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة أنتج عدة جدليات تفرعت من المركز والهامش، كجدلية الضحية والمتهم، والوحدة والإنفصال، الأغلبية الأفارقة والأقلية العرب، الأقلية الغير مسلمة والأغلبية المسلمة، السيد والعبد، العدالة والإفلات من العقاب، اللغة والرطانة، الكفار والمجاهدين، العملاء والوطنيين..!!
هذا الوضع المأزوم خاصة بعد فشل الحكومة الإنتقالية السودانية في التوصل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال على مجرد إعلان مبادئ تحكم العملية التفاوضية وتضع أساس لمبادئ وقيم أعلى من الدستور تحافظ على وحدة الدولة السودانية، وفي ذات المنبر وفي مسارات أخرى تصل إلى إتفاقيات سلام ترتكز على تشويه وأقلمة جزور المشكلة السودانية، والخلط بين الدين والدولة، وتقيّد اللامركزية وتكرّس للمركزية، وهذا ما يفسر الكثير مما لم تجد له الشعوب السودانية تفسيراً للعملية التي أسماها بـ”الجرجرة” و”اللولوة ” و”الفهلوة” التي تحدث في جوبا، هذا الوضع جعل ضحايا الإنتهاكات الإنسانية وضحايا دولة الأغلبية المسلمة يطالبون بعلمانية الدولة حتى يتم الفصل التام بين الدين والدولة أو أن تمارس حق تقرير المصير خوفاً من مواصلة تهميشها وإبادتها ثقافياً وجسدياً وإستعرابها وأسلمتها وإسترقاقها وتكفيرها.
وفي الجانب الآخر من الطاولة تطرح الحكومة الإنتقالية في السودان الشريعة الإسلامية تحت مسميان مختلفان شكلياً ومتفقان جوهرياً وهما (الدولة غير المنحازة) وهو مصطلح إستحبه العسكر السياسي في السودان بدلاً من إستخدام مصطلح (الدولة المدنية) الذي تبنته بعض قوى الحرية والتغيير. بغض النظر عما يقصده صاحب فكرة (الدولة غير المنحازة) إلا أن كلا المصطلحان في الوقت الراهن يعتمدان الشريعة الإسلامية في الحكم بإعتماد مبدأ الأغلبية المسلمة التي تشرع القوانين للدولة، إلا أن مصطلح (الدولة المدنية) لا يختلف في سياقه الظرفي الآني عن (الدولة غير المنحازة) إلا لكونه يمنع العسكر السياسي من الحكم، ومابين ثنايا المصطلحان تقبع الدولة الدينية الإسلامية، الأمر الذي جعل بعض ضحايا التهميش والإضطهاد الديني والعنصري يشعرون بالإحباط من جراء مواصلة سياسة الإستغباء والإستحمار عليهم حتى بعد ثورة ديسمبر المجيدة.
ولما كانت مسألة المبادئ فوق الدستورية قليلة وربما يكاد ينعدم التطرق إليها في الكتابات والحوارات القانونية والسياسية السودانية على الرغم من أهميتها وقدرتها على وضع حد نهائي للإشكالات والأزمات التي تنشأ في الدول الشبيهة في طبيعتها ومقومها البشري للدولة السودانية من خلال دساتيرها، وجدنا أنه من الضرورة أن نطرق هذا الباب ونطرح ما نفتكره علاج لمشكلة الدولة السودانية، فماهي إذاً المبادئ فوق الدستورية؟
*تعريف المبادئ فوق الدستورية:*
قبل أن ندلف للحديث عن المبادئ فوق الدستورية فإن المدخل الصحيح هو أن نتعرف على الدستور أولاً، هناك تعريفات عديدة للدستور ولكن إخترنا منها الآتي:
عرفه نادر جبلي بأنه ( رأس أي نظام قانوني ومظلته، يضع أسس النظام السياسي، ويحدد شكله وطبيعته، ويحدد السلطات العامة، ووظائفها وكيفية التعيين فيها وممارستها وإنتقالها، وعلاقاتها البينية، كما يحدد ويحمي الحقوق الأساسية للمواطنين والحريات العامة ويتيح للشعب محاسبة حكامه ويوفر له الأليات اللازمة لتغييرهم دون عنف عندما يتطلب الأمر).
أما المحامية منى أسعد فقد عرفته بأنه ( القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة، بسيطة أم مركبة، رئاسية أم برلمانية، ونظام الحكم ملكي أم جمهوري، كما ينظّم الدستور السلطات الثلاث العامة في الدولة، من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات فيما بينها، ويرسم حدود كل سلطة، وينظّم كذلك الواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ويضع الضمانات لهذه الحقوق والواجبات تجاه السلطة).
نعود للمبادئ فوق الدستورية والتي تعرف على أنها مبادئ تكون أعلى رتبة ومنزلة من الدستور نفسه بمعنى أنه لا يجوز ولا يصح أن تكون هناك مواد في الدستور تخالفها، وتكون لهذه المواد صفة الإطلاق والدوام والسمو، فتكون بذلك محصنة ضد الإلغاء أو التعديل أو مخالفتها ولو بنصوص دستورية. ويجب وضعها كوثيقة ومبادئ أساسية ينبغي مراعاتها عند وضع الدستور، و يجب على واضعي الدستور الالتزام بها وعدم المساس بها أو الحياد عنها.
وهي غالباً حزمة المبادئ المتعلقة بالمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان، وهى الموجودة في المواثيق الدولية حاليا .
*تاريخ المبادئ فوق الدستورية:*
فهناك العديد من الدول التى سنت مجموعة من المبادئ فوق الدستورية، وذلك فى سياق تحولاتها الديمقراطية وثورتها ضد الأنظمة القمعية .
تعتبر وثيقة الماجنا كارتا في إنجلترا، والتى تم سنها فى عام 1215 باسم «الميثاق العظيم للحريات فى إنجلترا» هي من أوائل الوثائق التي تعتبر مبادئ فوق الدستورية وذلك عندما ألزمت الملك بمنح حريات معينة وأن يقبل بأن حريته لن تكون مطلقة، وأن يوافق علناً على عدم معاقبة أي رجل حر إلا بموجب قانون الدولة، وكانت هذه الوثيقة أول ميثاق للحد من سلطة الملك .
ومن ثم ظهر إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذى أصدرته الجمعية التأسيسية الوطنية الفرنسية فى 26 أغسطس لعام 1789، حيث يعتبر هذا الإعلان وثيقة حقوق من وثائق الثورة الفرنسية الأساسية وتُعرّف فيها الحقوق الفردية والجماعية للأمة.
وبعدهما جاءت وثيقة الحقوق فى دستور الولايات المتحدة الأمريكية التى صاغها جيمس ماديسون، وصدرت فى ديسمبر لعام 1791، وهي تتألف من عشرة بنود، وتسعى لضمان الحريات المدنية.
ويرجح الباحثون أن نضال البشرية من أجل إيجاد نصوص تلزم الحاكم باحترام حقوق المحكوم وصونها، أسفر عن أول تطبيق لهذا النوع من المبادئ، مع ظهور “ميثاق الحريات”، الصادر في بريطانيا العظمى١١٠٠م، في عهد الملك هنري الأول، المتضمن وضع قيود تنظم علاقة الملك مع الكنيسة ومع طبقة النبلاء والتي سبقت الماقناكارتا، ثم تتالت المواثيق في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وصولاً إلى “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” في 10 ديسمبر 1948، ومن ثم العهدين الدوليين: “العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”، و”العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”، والبروتوكولات المرفقة بهما اللذين دخلا حيز التنفيذ في 1976م.
*الخصائص العامة للمبادئ فوق الدستورية* :
تتميز المبادئ فوق الدستورية بالخصائص الآتية:
1- تتعلق بقضايا مصيرية للدولة،
2- جامدة وغير مرتبطة بقضايا متحركة ،
3- بعيدة من التحزب والتجازبات السياسية،
4- تشكل أهمية لجميع المواطنين، وجميع الفئات مهما كانت صغيرة وضعيفة.
*المبادئ فوق الدستورية والديمقراطية:*
هل تعد مصادرة حق الأغلبية في تعديل بعض أحكام الدستور، أو الإستمرار في فرض دين أوثقافة أحادية، إعتداء على أهم مبدأ من مبادئ الديمقراطية القائمة على حكم الأغلبية؟
قد يترأءة إلى البعض أن هناك إنتهاك لحق ومبدأ الأغلبية، ولكن الحقيقة الواضحة هي أن النظام الديمقراطي لا يقوم على قرار الأغلبية فقط، وإنما يقتضي من باب أولى الحفاظ على حقوق الأقلية من جانب والحفاظ على مبادئ الديمقراطية من جانب آخر، فصدور قرار ممن يملك الأغلبية بتعديل الدستور وجعل قراره مدى الحياة بحجة الأغلبية هو قرار بالضرورة غير ديمقراطي لأنه يشكل مانعاً يحول دون تجسيد مبدأ مهم من مبادئ الديمقراطية على وهو إنتقال السلطة.
ويرى نادر جبلي، أن مقاربة الديمقراطية في الشأن الدستوري أمر يختلف عن غيره، بإعتبار الدستور هو القانون الأعلى ويحدد طريقة حكم البلاد ويراد له أن يحكم البلاد لأجيال قادمة، تتغير فيها الشرعيات الحاكمة والأغلبيات مرات عديدة.
أما د. عادل عامر فيرى حسب الأوضاع في دولة مصر أن المبادئ فوق الدستورية تتنافى مع الديمقراطية بقوله (أنه لا يوجد هناك ما يُسمَّى بالقواعد الحاكمة للدستور، وأن الاسم الحقيقي لذلك هو فرض وصاية على الشعب في اختيار دستوره…) وحجته في ذلك هو أن الشعب المصري إستفتى على الدستور وأبدى فيه رأيه بالقبول فليس من الديمقراطية أن يتم فتح الدستور مرة أخرى ليتم إضافة أو تكييفه وفق تلك المبادئ.
*ما أهمية المبادئ فوق* *الدستورية للدولة* *السودانية؟:*
تنبع أهمية المبادئ فوق الدستورية من كونها تمنع تغول الأغلبية مع الإحتفاظ بحقهم، وضمان حقوق الأقلية، حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، حماية طبيعة الدولة، والمحافظة على وحدة الدولة السودانية.
*” نواصل “*
*جوبا – 24/مارس/2020م*