الأزمة الوطنية التي تعيشها بلادنا، لا تعبر عن غياب الديمقراطية فحسب. بل في بعض ابعادها تعبر عن غياب مشروع سياسي سوداني، لم يتبلور بعد، لذا اصبح الاختيار صعباً بين مشروعين، عرفهما السودان حتى الان ، مشروع الأنظمة الشمولية التي زيفت إرادته، ومشروع حكم الأحزاب التي خبيت آماله وتطلعاته.
ان غياب المشروع السياسي الوطني الجامع، نجمت عنه أزمة وطنية بانتظار صحوة ما زالت غائبة. تجلت في كثرة الأحزاب والحركات المسلحة . . لذا ظلت عوامل انتاج الازمة الوطنية مستمرة وتعددت اوجهها في حياتنا العامة وأثرت على حاضرنا كما اثرت في ماضينا، وتبقى مرشحة للتأثير في مستقبل اجيالنا القادمة.
الأزمة الوطنية، نجمت عنها أفخاخ كثيرة، تمثلت في ازمة الحكم وانهيار الاقتصاد واتساع مساحة الفقر وتوالد الحروب والمجاعات والصراعات والتخلف والتطرف والعنصرية والفساد. . ! كل هذه الأفخاخ والألغام. لا يمكن التخلص منها في ظل نظام الانقاذ، الذي يمثل الفخ الأكبر والاخطر في حياتنا . . !
لذا كان الأمل معقوداً من جانب الشعب عامة، والكتاب والمثقفين خاصة، على المعارضة السودانية، ان تنجح في إطلاق قناة فضائية تنهض بمهمة نشر الوعي، وكشف جرائم النظام بحق الشعب، وفضحه امام الرأي العام المحلي والعالمي. وإظهاره على حقيقته العارية من القيم والاخلاق، وتجريده من اي مشروعية زائفة للبقاء في السُلطة.
قناة ترسخ ثقافة الحرية والديمقراطية وثقافة مجتمع الدولة بدلاً من مجتمع القبائل والطوائف والجهويات والمناطق، تعميقاً للشعور الوطني، لإخراج البلاد والمجتمع من مستنقع العنصرية والجهوية والظلم والتكويش والاستئثار والانانية . . مهمة كبيرة كهذه لا يضطلع بها إلا السياسيين والكتاب والمثقفين الأحرار الشرفاء، المدركين لابعاد الأزمة التي تحتم عليهم بذل الجهد الفكري والثقافي عبرالتواصل المثمر، والتفاعل الحر الفاعل والمتفاعل مع قضايا الشعب من خلال وسائل الاعلام الحديثة، تعبيراً عن همومه، لاسيما المهمشين الذين يشكلون حزاماً من الفقر والبؤس حول العاصمة الخرطوم، والمدن حيث يعملون في مهن لا تعود عليهم بمداخيل تمكنهم من العيش الكريِّم، وفي الريف حيث يعملون في الزراعة والرعي، في ظل غياب تام للدولة، بينما اقرانهم في الدول الاخرى يجدون الاهتمام والدعم من حكوماتهم، لكنهم في السودان اثقل النظام كاهلهم بالضرائب والجبايات، فأصبحوا اكثر الفئات معاناة في المجتمع.
وهؤلاء في ظل الظروف الراهنة تواصلهم مع الانترنت يعتبر ضعيفاً، بل معدوماً، اذن هم في الواقع خارج دائرة الصحافة اللالكترونية، لكن ان توفرت قناة فضائية فمن المتوقع ان يتم الوصول اليهم وتمليكهم الحقائق التي من شأنها ان تحولهم الى فاعلين حقيقيين في عملية التغيير وليس مجرد متفرجين على الرصيف ينتظرون الآخرين ان يحققوا لهم التغيير . . !
وفي ظل غياب قناة فضائية بيد المعارضة السودانية تتولى مهمة تثوير الجماهير لإنجاز التحول الديمقراطي المنشود. لم يقف الشرفاء من أبناء الشعب السوداني، مكتوفي الايدي امام هذا التحدي، بل سعوا عبر جهدهم الخاص، موظفين كل مالديهم من إمكانيات ربما هي محدودة لدى البعض، لكن حبهم لوطنهم وتطلعهم ان يرواه في وضع أفضل، جعلوا من مهمة انشاء صحافة الكترونية اولوية تطغى على غيرها من أولويات أخرى، تحقيقاً للمصلحة العامة.
هذا النوع من المثقفين السودانيين المسكونين بالهم الوطني العام. لهم منا كل الاحترام والتقدير. بفضل الله وفضلهم وهمتهم ها نحن ننعم بالصحافة الالكترونية، كنافذة حرة غير مقيدة بمكان او زمان او تحكم النظام، مكنت الكتاب والقراء، ومحرري تلك الصحف، من التواصل والتفاعل وبصورة لحظية وفورية مع الشارع السوداني، بل اصبح القارئي مشاركاً في تحرير الصحيفة وليس مجرد مطالع لها.
كما أسهمت الصحافة الالكترونية من خلال مساحة التواصل والتفاعل التي أتاحتها للكتاب والمثقفين في ترسيخ ثقة الشعب بنفسه، وعمقت إيمانه بان حكم الظلم والقهر والبطش والفساد الى زوال طال الزمن ام قصر. كما أسهمت في نشر الوعي باهمية الديمقراطية في حياة الشعب تحقيقاً للاستقرار والسلام والتطور.
الصحافة الالكترونية أصبحت اكثر حضوراً واهمية في المعركة ضد النظام، وظلت في تواصل مستمر مع قضايا الشارع السوداني، ويستطيع اي مواطن سوداني في داخل السودان وخارجه، ان يمد الصحيفة الإلكترونية التي يفضلها بما لديه من مواد إعلامية واخبار وتقارير ومعلومات وصور وافلام توثق للأحداث بخاصة المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات، وتفضح انتهاكات النظام لحقوق الانسان.
الصحافة الالكترونية أصحبت تشكل خطورة كبيرة على النظام. كونها وسيلة تواصل حرة غير مقيدة برقابة الرقيب، التي يمارسها على رجال أمن النظام ضد الصحافة الورقية في الداخل، لذا مكنت الكتاب من التعبير عن آرائهم، والقرّاء والمعلقين ، سواء باسمائهم الحقيقية، او المستعارة لأسباب أمنية في داخل السودان او لظروف الإقامة والعمل خارج الوطن، أو لظروف خاصة بهم. المهم في الامر هو ان الصحافة الالكترونية حققت التواصل، حيثما كان الانسان في ارض الوطن او خارجه في افريقيا او اسيا او أوروبا او أميركا او استراليا، فهو حاضر وهي حاضرة، والفرصة متاحة للجميع للتعبير عن الرأي والرأي الآخر ايماناً بالديمقراطية والحريّة وتعميقاً للوعي بحق المواطنة وقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، والعدالة والنزاهة من خلال المساحة الحرة التي وفرتها الصحافة الالكترونية بخاصة التي فضلت واختارت منذ البدء الانحياز الى جانب الشعب في معركته العادلة ضد نظام الإنقاذ، وكل المرتطبين به من كتاب وصحفيين انتهازيين.
لتتكامل ادوار الاعلام الحديث، وتوظيفاً له في المعركة ضد النظام الفاسد، تبقى مهمة إنشاء قناة فضائية ليست مهمة المعارضة السودانية فحسب بل هي مسؤولية الجميع في داخل السودان وخارجه، وحتماً التعويل الأكبر سيكون على السودانيين المقيمين في الخارج، نتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة التي يعانيها الشعب في الداخل.
وحتى يتحقق هذا الأمل نوجه تحية خاصة لمحرري الصحف الالكترونية بكل مسمياتها المختلفة، التي وقفت الى جانب الشعب وملئت الفراغ من خلال صفحاتهاالمشرقة بالمعرفة والفكر والثقافة، التي سهلت التواصل بين الكتاب والقراء في ظل غياب قناة فضائية حرة، منتظر ان ترى النور لتكمل دور الصحافة الالكترونية.
إذن القناة الفضائية اصبحت ضرورة وليس رغبة، لفضح النظام وتعريته بالصوت والصورة، وتسهيل مهمة إرساله الى مزبلة النسيان إن للنسيان مزبلة، وليس مزبلة التاريخ فحسب. انه عصر “الميديا” التي هزت عروش الطغيان في العالم العربي، لذا لابد من وجود قناة فضائية بجانب الصحافة الالكترونية السودانية لهز عرش الطغيان في السودان، بل وتحطيمه الى الأبد.
الطيب الزين