مع كل ساعة تمضي منذ فجر الأحد 27 نوفمبر يصنع الشعب السوداني قطيعة مع الماضي ويبدأ في كتابة صفحة جديدة من تاريخه الذي لم يقبل فيه هذا الشعب العظيم المذلة والضيم. وبعد الكثير من الصمت والتردد والشكوك لدى الكثيرين في أن الشعب السوداني ربما أرهقته سنين المرض والجوع والقمع التي خيمت عليه منذ قدوم النظام قبل 27 عاما، الا ان اليومين الماضيين أثبتا للسودانيين أنفسهم وللعالم أيضا أن هذا الشعب في كامل وعيه الثوري. وأنه تعلم الدرس تماما ليس فقط من تجارب الدول المجاورة بل من تاريخه أيضا. فالعصيان المدني حقيق بأن يعلن ماركة مسجلة للشعب السوداني. فما كانت ثورتي أكتوبر ومارس الا وليدتا العصيان المدني الذي أوقع النظم العسكرية على ركبتيها واجبرها على الخنوع لمطلب الشعب حتى تمت إزالتها.
ان تجربة العصيان في اليومين السابقين ستظل بالتأكيد موضع درس وبحث لسنوات لكل باحث جاد في آليات التغيير الاجتماعي والحركات المدنية والسياسية. ولكن على مستوى اللحظة الراهنة واستشرافا لمقبل الأيام، فإن هناك بعض الدروس المستفادة التي يمكن استخلاصها للمضي قدما في طريق الخلاص وبناء الوطن الذي نحلم به جميعا.
اول الدروس، متعلق بمنابع الدعوة للعصيان. فالجميع يذكر التسجيلات الصوتية من حاجة بخيتة وأم كبس اللائي دعين قبل للعصيان، ثم تصاعدت الدعوات بعد ذلك مع بعض التظاهرات المتفرقة خلال الأسبوع الماضي وهاشتاج رفع الدعم عن الدواء. ان هذا المزيج من الحراك والوسائل الحديثة للتواصل المستعملة تصنع مجالا جديدا تماما لفرص التواصل بين أفراد الشعب السوداني. فلم تعد المواعين التقليدية للعمل الجماعي مثل الحزب السياسي أو القبيلة أو الطائفة أو خلافه هي المحرك الرئيس في خلق حراك اجتماعي. والحرية التي تمنحها وسائل التواصل الحديثة جعلت من صوت الفرد الواحد قوة ضاربة لها القدرة على زلزلة المجتمع بأكمله. وهذا درس هام للتنظيمات الاجتماعية وخاصة السياسية منها التي كانت تتعامل مع المجتمع السوداني بشكله القديم بنظرية القطيع. ان الواقع الذي فرضته الوسائط الحديثة أدت إلى تحرير طاقة الأفراد وديمقراطية المبادرة، وبالتالي فإن الابتكار والإبداع والقيادة لم تعد بحاجة إلى رجال خارقين أو ينزل عليهم الوحي أو نخب متعلمة في الخارج أو الداخل. فصوت حاجة بخيتة والطالبة من الثانوي أصبح أكثر قوة وتأثيرا من أصوات رجال السياسة والنخب. لذلك فإن هذه الخارطة الجديدة للفعل السياسي تعني أن صوت كل مواطن قادر على صناعة التغيير، وهذا ما يدعو للتفاؤل بالمستقبل، اذ ان هذا المواطن لن يقبل بالتأكيد أن تنتزع حقوقه هذه في المستقبل الا بملء إرادته. وهذه الأرادة الحرة هي مفتاح الطريق للخلاص والديمقراطية. وهذا العصيان كان تصويت جماعي على خيار قيادة الشعب السوداني لنفسه وعلى قوة كل فرد في التأثير على الآخرين دون ضجيج أو ادعاء لبطولات. ولهذا فإن صدور الدعوة من بين صفوف الناس كانت السبب الرئيس في نجاحها، وما سيحدث في مقبل الايام يجب أيضا أن يكون صادرا من الشعب نفسه وان اختلفت الوسائل.
الدرس الثاني متعلق بآلية الاحتجاج نفسها. أي فكرة العصيان المدني. كما ذكرنا أن العصيان ليس جديدا على السودانيين والشعب السوداني له تجاربه الناجحة مع العصيان كوسيلة لفرض إرادته. ولكن تجربة العصيان المدني كان الجميع يظن انها مستحيلة التنفيذ في ظل غياب كيانات نقابية تشكل إجماعا على الفكرة وتفرض قرارها على أعضاء النقابات المهنية. لكن نجاح العصيان وبنسبة كبيرة في اليومين الماضيين رغم سرعة الدعوة، أكد على الدرس الأول أعلاه. أي أن قوة القرار والمبادرة الفردية أصبحت لها وزنها وقوتها في قيادة الأفراد والمجتمع ككل. وبالتالي فإن الوسيلة التي استبعدت من قبل لأسباب متعلقة بنظرة ماضوية، أثبتت أنها هي الوسيلة الاكثر نجاعة وتفاعلا. هذا إضافة إلى أن عنصر مصدر الدعوة القادم مباشرة من بين أفراد المجتمع وليس من أي كيان، كان سببا رئيسيا في النجاح . هناك عنصر آخر مرتبط بطبيعة العصيان وقلة تكلفته، خاصة في ما يتعلق بالعنف المرتبط بالتظاهر من التجارب السابقة. لذلك فإن العصيان كاحتجاج صامت وسلمى كان الوسيلة الأفضل. من ناحية اخرى فإن التأثير المرتبط بالمقاطعة للدولة بأجهزتها المختلفة له نتائجه الفورية والظاهرة، في تعطل دواليب العمل وخسارة أموال الجبايات. وعليه فإن العصيان كما أثبتت التجربة سيكون الخيار الأكثر تفضيلا في مستقبل الاحتجاجات في السودان حتى الخلاص من النظام.
الدرس الثالث : متعلق بكسر الحواجز التي كان يعتقد الجميع انها العائق خلف اي حراك جماعي في السودان. فقد اعتقد الكثيرون أن الحاجز هو الخوف، وهذا غير حقيقي فالخوف لا يبدو أنه الحاجز من التحرك، ليس الخوف من الموت أو حتى الخوف من فشل الحراك أو من نتائجه، بل يبدو أن الحاجز الأكبر بين الشعب والتقدم نحو حراك جماعي، كان انعدام الثقة في القدرة على التوحد. فالتشرذم السياسي والذي نفذه النظام بعناية لتأكيد بقائه وخاصة بعد مسرحية الحوار، جعلت الكثيرين من الشعب يفتقدون لروح التوحد تحت راية المواطنة لبلد واحد. ولكن الذي حدث فى اليومين الماضيين هو إثبات على إمكانية التوحد واتخاذ قرار شعبي و سوداني موحد أتفق عليه معظم الشعب. لذلك فإن حاجز الفرقة والتشرذم قد انكسر. وهذا سيكون بداية حقيقية لنجاح السير في طريق الخلاص من النظام في الفترة القادمة.